الحرب على غزة و”الكوميديا الإلهية”.. تخلطان أوراق الثقافة والسياسة في إيطاليا

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 13 دقيقة للقراءة

لم يكن أستاذ اللغة الإيطالية في إحدى ثانويات “تريفيزو”، شمال إيطاليا، يدرك أنه بإعفاء طالبَين مسلمين من دراسة “الكوميديا الإلهية” سيفتح أبواب الجحيم على العلاقات بين اليسار الإيطالي ومسلمي بلد دانتي.

فبمجرد انتشار خبر المبادرة التي اعتُقد أنها قد تمر تحت بند “احترام المسلمين” على اعتبار “الكوميديا الإلهية” عمل “منحاز دينيا”، سارعت القيادات الإيطالية المسلمة للنأي بنفسها عن هذه المبادرة: “تحصل هنا الكثير من الأمور العبثية باسم الدفاع عن المسلمين، والمفارقة أن من يقوم بها هم العلمانيون الذين يستخدمون الإسلام لضرب الدين بصفة عامة”.

يقول إبراهيم بايا، وهو باحث ومترجم وأمين عام منظمة “المشاركة والروحانية المسلمة” لصحيفة “لافيريتا”: “استخدام اليسار لنا من أجل ضرب بقية العقائد هو أمر في غاية البؤس. فإن هم أرادوا إخراج الصليب من قاعات الدراسة زعموا أن المسلمين لا يريدونه وإن هم أرادوا إلغاء تقليد مغارة الميلاد ادّعوا أنهم يفعلون ذلك احتراما لمشاعر المسلمين. والمشكلة أن هؤلاء لا يطلبون رأينا في كل هذا، ربما لأنك إن طلبت رأي أي مسلم سيقول لك إنه ليس لديه مشكلة لا مع السيدة مريم ولا مع السيد المسيح. هذه هي مشكلة اليسار مع الدين وليست مشكلتنا”.

التحرك غير المتوقع من قيادات الجالية الإسلامية الشابة في وجه هذه المبادرة أتى ردا على مواقف اليسار الإيطالي من العدوان على غزة، يقول بايا في صفحته على فيسبوك: “…كلامي هذا رد على المواقف المتخاذلة لليسار حيال حرب الإبادة الجارية في غزة”.

من جهتها خرجت الكاتبة والناشطة الثقافية الإيطالية من أصل إيراني هانية تركيان على مواقع التواصل الاجتماعي مباشرة بعد نشر خبر إعفاء الطالبين المسلمين من دراسة “الكوميديا الإلهية” لانتقاد المبادرة بنشر غلاف كتاب لرينيه غينون حول دانتي وكتاب آخر للباحث الإسلامي الإيطالي غويدو دي جورجيو بعنوان “دراسات عن دانتي”، أرفقتها بتعليق: “… فليتوقف الأساتذة “التقدميون” عن القيام بحروبهم باسمنا”.

انحيازات النخبة

يأتي كل هذا ليخرج إلى العلن ما كان يُهمس به في الصالونات الثقافية حول استخدام مسلمي أوروبا ضمن مناورات سياسية غير بريئة من جهات يسارية، حيث نقرأ للفيلسوف الإيطالي دييغو فوزارو في كتابه “نهاية المسيحية” (2023): “من غير النادر أن يجري في أوروبا توظيف الإسلام من قبل النظام المهيمن من خلال إظهار احترام زائفٍ له (…) في حين أن نفس الكتلة الأوليغارشية النيوليبرالية التي تحارب الإسلام من خلال كهنوتها الثقافي المكمل في جميع أنحاء العالم (…) تزعم تقبله والاحتفاء به في أوروبا لهدف واحد هو تحييد أكبر للمسيحية عن الغرب. الطبقة الثرية الليبرالية واحتكاريي الخطاب يتظاهرون بالترحيب بالإسلام في أوروبا، بينما يحاربونه في أماكن أخرى”.

وكانت ورقة اليسار قد احترقت بين الجالية المسلمة في إيطاليا لا سيما على مستوى الأكاديميا ودوائر الاستعراب بعدما كشفت عنه تحقيقات استقصائية لصحف إيطالية كبرى أشارت إلى تورط مستعربين إيطاليين في علاقات مع دوائر استخبارات أجنبية (بريطانية)، وهو ما أكدته مؤخرا وسائل الإعلام الحكومية الإيطالية من خلال هيئة بث الإذاعة والتلفزة الوطنية (Rai).

ورغم أن الشعور السائد بين الجالية المسلمة في السنوات الأخيرة هو أن المستعربين يستخدمون ورقة دعم القضية الفلسطينية كأداة تمويه لتمرير أجندات ثقافية معينة ضمن الخطاب العربي – الإيطالي على غرار نظرية الجندر ما أدى لفتور في العلاقات بين الطرفين، إلا أن تأكيدات الصحافة الإيطالية نقلا عن مصادر أمنية إيطالية على انخراط بعض المستعربين في ديناميكيات لا علاقة لها بتاتا بالعمل الثقافي بل “ذات أبعاد جيوسياسية من شأنها الإضرار بمصالح إيطاليا في المنطقة العربية” أحرق نهائيا ورقة اليسار لدى الجالية العربية والاسلامية، ودفعها للتوجه سياسيا إلى “حركة الخمس النجوم ” غير المنضوية تحت ثنائية اليمين واليسار ولا تحوم حولها الشبهات الأمنية أو الثقافية.

هذا وكانت جمعية “دعم الأسرة والحياة” (ProVita e Famiglia) ذات المرجعية الكاثوليكية قد نشرت بيانا بتاريخ 30 مايو/أيار أكدت فيه تعرض مقرها للتخريب في روما من أشخاص يلوحون بالعلم الفلسطيني ـبحسب ما رصدته كاميرات المراقبةـ وتبين أن الاعتداء الذي تم من قبل 15 عنصرا ليس له علاقة بالجالية الإسلامية بل من نشطاء “تابعين لمنظمات تدعم المثليين” بحسب بيان المنظمة ودعا رئيس الجمعية وزارة الداخلية للتدخل.

انحسار التعاون بين الجالية الإسلامية والأوساط اليسارية الثقافية بسبب كل ما تقدم دفع هذه الأخيرة لطلب المباركة العربية لتحركاتها خلال الحرب الجارية على غزة من داخل الدوائر الثقافية في العالم العربي مباشرة. فحدث أن حاورت مجلة “لاريبوبليكا” اليسارية التي عُرفت بتغطياتها المنحازة كليا لإسرائيل واحدة من أهم الوجوه الأدبية الفلسطينية ونُشر الحوار يوم زيارة مدير الصحيفة لجامعة فيديريكو الثاني بنابولي لإلقاء محاضرة بعنوان “البحر المتوسط المتنازع عليه” إلا أن الحوار (الذي دار حول “هزيمة حماس” والوضع الإنساني المتردي في غزة) لم يشفع لمدير الصحيفة (موليناري آنذاك) أمام طلبة الجامعة المساندين للقضية الفلسطينية وتم طرده في حدث مدوي تحرك الرئيس الإيطالي ماتاريللا نفسه للتعليق عليه.

مناورة اليسار

التحركات اليسارية على الجبهة الثقافية لمحاولة سد النزيف الذي تعرفه علاقاته مع الجالية العربية في الداخل لم تقتصر على إجراء حوارات (موجهة) في الصحف مع وجوه عربية بل امتد لدعوات مشاركة في مهرجانات ثقافية وملتقيات أكاديمية، لكنها كانت تحركات مكشوفة خصوصا بعد نشر ترجمات محرّفة خلال هذه الحرب لكتاب وشعراء فلسطينيين على صحف يسارية وليبرالية بما يتناسب وخطها التحريري، وهو ما عزز المقاطعة العربية والإسلامية من الداخل الإيطالي لهذه الدوائر.

هذا وترك صمت مثقفي اليسار حيال مناورة “الكوميديا الإلهية” غير الموفقة، المجال لليمين من أجل تثقيف الرأي العام الإيطالي عن علاقة دانتي بالإسلام؛ حيث كتب الروائي والمفكر الإيطالي مارتشيللو فينيتسياني على صحيفة لافيريتا اليمينية: “لو يعلم هؤلاء أن دانتي تعلّم ثقافتنا الكلاسيكية عن مفكرَّين عربيَّين أولهما كان يسمّيه دانتي “العظيم ابن رشد” والثاني هو ابن سينا. ليس هذا فحسب بل دانتي استلهم “الكوميديا الإلهية” نفسها من مؤلف وُلد ضمن الثقافة الاسلامية، هو “كتاب المعراج” (…) هذا عدا أن دانتي يضع صلاح الدين الأيوبي في عمله ضمن الحكام العادلين والمستنيرين. وما عسانا أن نقول عن تناغمه مع الفكر الصوفي وهو ما كتب عنه باحث أوروبي عظيم اعتنق الاسلام اسمه غينون، ولكن قد يكون كل هذا كثيرا جدا على إدراك هؤلاء”. وتساءل فينيتسياني عن دلالة تعويض أستاذ تريفيزو للـ”كوميديا الإلهية” بعمل لشاعر إيطالي آخر هو بوكاتشيو (1313 ـ 1375)، خصوصا أن الصفة المشتقة من اسم بوكاتشيو تعني بالإيطالية “إباحي ومبتذل” بالنظر إلى نوعية الأشعار التي عُرف بها. والدارس لبوكاتشيو يعلم أيضا أنه وبالمقارنة بدانتي المتدين كان يعتبر علمانيا. ما يعود لطرح تساؤلات حول حيثيات مبادرة الأستاذ التقدمي في تقديم بوكاتشيو لطالبين مسلمين بدل دانتي، وهو التحرك الذي أثار حفيظة المسلمين واليمينيين على حد سواء.

التقارب الإسلامي – اليميني (على الصعيد الثقافي) لم يتوقف هنا، بل ظهر في مهرجان “آلترفيستيفال” المنعقد بمدينة تشيريا شمال إيطاليا نهاية مايو/أيار؛ حيث جلس المؤرخ الشهير فرانكو كارديني المناهضة للصهيونية، إلى جانب هانية تركيان والفنان اليهودي الداعم للقضية الفلسطينية موني أوفاديا في ندوة بعنوان “الجبهة الفلسطينية”. وحظي المهرجان برعاية مديرية الثقافة في بلدية تشيريا التي ترأسها كتلة من يمين الوسط. وكان من بين المشاركين في المهرجان الفيلسوف الإيطالي أندريا زوك الذي عُرف مؤخرا بمواقفه الداعمة لغزة.

إلا أن الانعطاف الثقافي الأبرز حصل بعد “احتلال” طلبة جامعة تورينو مجددا للجامعة منتصف مايو/أيار وما تخلله من إقامة صلاة الجمعة في إحدى القاعات بإمامة الناشط الثقافي الإيطالي (من أصل مغربي) إبراهيم بايا وإلقائه خطبة الجمعة في مساندة فلسطين؛ الأمر الذي أشعل ضده الصحافة الإيطالية. وفي الوقت الذي فضل مثقفو اليسار مهاجمة بايا بسبب “خرقه لقوانين العلمانية”، منحه فرانتشيسكو بورغونوفو (أحد أبرز صحفيي اليمين في إيطاليا) منبرا في برنامجه الإذاعي “زد تي إل” (ZTL) من أجل التعبير عن موقفه، وخلال الحوار لم يتردد بورغونوفو من توضيح الفرق بين الجهاد الأكبر والأصغر بالنسبة للمسلمين، وهو أمر لا يعد غريبا على الثقافة اليمينية في إيطاليا، حيث يعد الفيلسوف الشهير يوليوس إيفولا (المصنف يمينيا) من أهم المفكرين الإيطاليين الذين أظهروا فهما عميقا للإسلام لا سيما في مفاهيم دقيقة كالجهاد.

ورغم محاولات إظهار إيفولا (1898 ـ 1974) كفيلسوف فاشي على مدى عقود، فجّر إصدار إيطالي حديث بعنوان “إيفولا المناهض للفاشية سنوات الثلاثينيات” (2022) مفاجأة كبرى كشف فيها الكاتب غويدو أندريا باوتاسو عن مساهمات ثقافية لإيفولا في مجلة إيطالية كلفته تسجيل اسمه في القوائم الأمنية للنظام الفاشي آنذاك بوصفه: “مناهضا للفاشية وصديقا لمناهضي الفاشية”. وأسقط هذا الكشف أحد أهم أوراق ربط الفاشية بالإسلام في إيطاليا، والتي كانت تستخدم لتقويض أي تقارب بين الجانبين من خلال وصف الجهتين بالفاشية والإرهاب.

انتخابات البرلمان الأوروبي

كل هذه التطورات جعلت اليسار يشعر أن البساط يسحب من تحت قدميه قبيل انعقاد انتخابات البرلمان الأوروبي، وهو ما دفع المرشح عن الحزب الديمقراطي (يسار الوسط) بتورينو دافيدي ماتييلو لوصف كل ما يحصل على أنه “محاولة لبث الكراهية بين الطرفين” إلا أن بايا بقي ثابتا على موقفه وصرح على القناة السابعة أن إسلاموفوبيا اليسار أشد من إسلاموفوبيا اليمين في إيطاليا: “اليسار متسامح معنا طالما بقينا نصلي في الأقبية وتحت الأرض، أما إن خرجنا إلى النور فذلك يعني أنه لا بد من إنهائنا”.

ورغم محاولة اليسار إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد هذا التدهور الشديد في العلاقات من خلال رفع منتخبين محليين يساريين علم فلسطين على مباني بلدياتهم كما حصل في تورينو وبولونيا، إلا أن ناشطين فلسطينيين وصفوا هذه التحركات بـ”المنافقة” بمناسبة اقتراب الاستحقاق الأوروبي المزمع بين 6 و9 يونيو/حزيران.

ويبدو من المؤشرات أن الصوت العربي الإيطالي سيصب مجددا في منطقة برزخية لا هي من اليمين ولا من اليسار أي إلى “حركة الخمس نجوم”، ليس فقط لأن زعيم الحركة جوزيبي كونتي كان السياسي الأبرز في إظهار الدعم لغزة خلال هذه الحرب، لكن أيضا بسبب بروز أسماء قريبة من دوائر “الخمس نجوم” كانت هي من قدم المساندة الأكبر لغزة على الصعيد الفكري والثقافي وعلى رأسهم أليساندرو أورسيني الذي صدر له مؤخرا “فلسطين أوكرانيا – إرهاب الدولة في العلاقات الدولية” (2024) ونظّر فيه عالم الاجتماع الإيطالي الشهير لكون إسرائيل كيان إرهابي وتصدّر كتابه المبيعات على أمازون، كما حظي بإقبال غير مسبوق في الصالون الدولي للكتاب بتورينو في طبعته الأخيرة.

ويواجه أورسيني حاليا تهما بمعاداة السامية في المحاكم الإيطالية بسبب دعاوي قضائية رفعتها ضده الجالية اليهودية بروما. هذا إلى جانب أليساندرو دي باتيستا الذي صدر له مؤخرا “حقائق مزعجة – من الحرب في أوكرانيا إلى المقتلة في غزة” (2024) ويعد هو الآخر من أهم النشطاء الداعمين للقضية الفلسطينية في إيطاليا وأكثرهم جماهيرية.

أما اليسار فقد انحازت أهم وجوهه الثقافية ضد السردية الفلسطينية على غرار روبيرتو سافيانو المعروف بعلاقاته الوثيقة مع إسرائيل، لكن المفاجأة أتت من الفيلسوف الإيطالي الشهير ماسيمو كاتشياري الذي حذر من استخدام مصطلح “إبادة” في وصف الحرب على غزة، بالإضافة إلى أحد أبرز شعراء إيطاليا المعاصرين إيرّي دي لوكا الذي صرح بأنه لا يقف مع الطلبة في حراكهم.

وقد تميز الأداء الثقافي لليسار الراديكالي أيضا بالتذبذب والكثير من الارتباك عدا عن غياب تأثيره الشعبي، وهو الفصيل الذي كان يُعوَّل عليه لكسب بعض الأصوات العربية على اليسار إلا أنه تلقى ضربة موجعة بعد التقرير الذي بثته القناة الوطنية الثالثة وقت الذروة وفي أهم برامج المحطة (غير المحسوبة على اليمين وهو ما يجعل الضربة أشد قساوة لانعدام إمكانية اعتبارها تحركا كيديا)، وإذ جرى تأكيد كل الشبهات التي كانت تحوم حول عمل أهم البيادق الثقافية لليسار في المنطقة العربية: المستعربون الذي يفترض أنهم يشكلون همزة وصل بين إيطاليا والعالم العربي.

كل هذا قد يتطلب من اليسار الإيطالي القيام بإصلاحات هيكلية ضخمة على الجبهة الثقافية بعد هذه الحرب التي انكشفت فيها كل أوراقه والتي لن تجعل من خسارته لمناطق نفوذه مع حلفائه التقليديين في العالم العربي سوى مسألة وقت.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *