عندما دخل الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر مكتب رفيق دربه المشير عبد الحكيم عامر بعيد ظهر الخامس من يونيو/حزيران 1967 كان يبدو مطمئنا متحكما في أعصابه، وما لبث أن داعب بعضا من رفاق حركة 23 يوليو/تموز 1952 الذين حضروا للدعم والمتابعة قائلا “والله زمان يا سلاحي”.
ويتعلق الأمر بكل من حسن إبراهيم وكمال الدين حسين، وكانا من المقربين لعبد الناصر في سنوات خلت، ولم يكن قد رآهما منذ مدة بعد إقصائهما من مجلس قيادة الثورة، إلى جانب عبد اللطيف البغدادي الذي حكى هذه التفاصيل بمذكراته وفي كتاب “الصامتون يتكلمون” لسامي جوهر.
لكن ذلك الهدوء والاطمئنان الذي بدا على “الريّس” سرعان ما بدأ يتبخر تدريجيا مع عدم تجاوب المشير مع أسئلة عبد الناصر بسبب غرقه في الرد على التلفونات الخمسة المثبتة على مكتبه، وانشغاله بمتابعة الأخبار والتقارير الآتية من أرض سيناء التي يقدمها له وزير دفاعه شمس بدران، وكلها تؤكد أن الوضع “زفت” بتعبير عامر نفسه في حديثه مع زميله في حركة يوليو (البغدادي) ردا على سؤال له حول الأوضاع بالميدان.
الوضع “كويّس”
“أد إيه خسرنا من الطائرات؟” يبادر عبد الناصر بسؤال المشير الذي أجاب قائلا “مفيش بيان كامل لغاية الآن”. جواب لم يرق “للريّس” الذي وجّه سؤالا آخر لرفيق دربه وصديق عمره وقد بدأت علامات الضيق تظهر على وجهه “وإيه موقف باقي القوات؟”.
رد عامر قائلا “كويس”! فما كان من عبد الناصر إلا أن كرر قائلا “يعني إيه كويس؟” فتظاهر عامر مرة أخرى بانشغاله في قراءة ورقة أعطاها له بدران، وبعد أن أكمل قراءتها ناولها لعبد الناصر.
ووصف البغدادي هذا المشهد المثير قائلا إن حالة من القلق بدأت تنتاب عبد الناصر وهو يقرأ الرسالة، موضحا أن “الريّس” يكون قلقا جدا عندما “يهز قدمه بعصبية ويضع يده على جبهته”.
قلق سرعان ما ستتضح أسبابه عندما خاطب عامر قائلا “الله يا عبد الحكيم، دي خان يونس سقطت، ورفح مقطوع الاتصال عنها، وغزة تهاجَم، إيه الحكاية؟”.
ويتابع البغدادي أن عامر تظاهر مجددا بالانشغال بالرد على التلفونات، مصدرا الأوامر المختلفة لضباط وقادة بالميدان، وهي مهام بسيطة كان بإمكان ضباط القيادة في الميدان، أو الذين مع عامر أن يقوموا بها وليس هو.
وضع لم يعد عبد الناصر قادرا على تحمله، إذ صاح في وجه عامر قائلا “فضي لي نفسك شوية يا عبد الحكيم”.
لكن المشير -يتابع البغدادي- لم يعر اهتماما لطلب “الريّس” وواصل الرد على المكالمات الآتية من الميدان، فما كان من عبد الناصر إلا أن دخل غرفة صغيرة ملحقة بالمكتب، واضطجع على سرير هناك محملقا في السقف في ظرف نفسي صعب.
وبعد دقائق، خرج ومعه قدماء مجلس قيادة الثورة الثلاثة الذين جاؤوا للدعم، ثم التفت إلى المشير قائلا “يا عبد الحكيم طلع حاجة للجرايد” فسأله المشير “نقول أسقطنا 200 طائرة إسرائيلية؟” فطلب عبد الناصر الاكتفاء بالإعلان عن إسقاط عدد أقل، وقال إنه سيطلب من الصحفي البارز محمد حسنين هيكل أن يحرر بلاغا بشأن ذلك، وهو ما تم ليلا بالفعل.
بلاغات بلاغات
وبحسب جوهر، فقد صدر يوم 5 يونيو/حزيران 16 بلاغا عسكريا، أولها على الساعة العاشرة والربع صباحا، وتحدث عن شن إسرائيل غارات جوية على جميع أنحاء مصر، وآخرها صدر السابعة و20 دقيقة مساء، وتحدث عن تعرض مطارات العريش وقناة السويس والقاهرة لقصف جوي من طرف طائرات إسرائيلية، مؤكدا أن مجموع طائرات “العدو” -التي أسقطت حتى ذلك الوقت- بلغ 86 طائرة.
وتذيّلت هذه الأرقام بملاحظة دالة قال جوهر فيها إنه من الواضح أن محرر البلاغات العسكرية ضعيف في الحساب، إذ تحدث في البلاغات الأولى عن إسقاط 73 طائرة إسرائيلية، وعند حديثه في البلاغ رقم 16 عن إسقاط 11 طائرة، وقال إن المجموع بلغ 86 طائرة.
وبعد توقف إصدار البلاغات العسكرية لنحو 4 ساعات، ظهر البلاغ الذي طلب عبد الناصر من هيكل تحريره، وأذيع على جميع محطات الإذاعة المصرية، ومضمونه أن القوات المدرعة توغلت داخل الأراضي المحتلة من فلسطين بعد قضائها على هجمات إسرائيلية بدأت بغارات جوية، وبذلك تكون القوات المسلحة قد تسلمت زمام المبادرة.
مانشيتات ولكن
وفي اليوم الموالي، ظهرت عناوين كبرى في الصحف المصرية من مثل “الجيش العربي يزحف نحو تل أبيب، قواتنا المسلحة توغلت داخل إسرائيل بعد معارك عنيفة، أسقطنا 86 طائرة للعدو، بيانات إسرائيل تعترف بالخسائر الفادحة والتقدم العربي الجبار، دمرنا 11 طائرة للعدو وهي تحاول قصف مطارات القاهرة والعريش والقناة”.
لكن في الميدان، كانت الطائرات الإسرائيلية قد دمرت في هجماتها المتتالية مطارات مصر وأسطول الطائرات العسكرية، بينما كل قادة جبهة سيناء مجتمعون في مطار فايد في انتظار التحاق المشير عامر بهم، حيث نُظم لهم لقاء معه صبيحة 5 يونيو/حزيران.
ولو قصفت إسرائيل كل مرافق المطار لكانت حققت مكسبا عسكريا مهولا بقتلها كل قيادات سيناء، كما عبر عن ذلك الفريق الراحل سعد الدين الشاذلي الذي كان حاضرا هناك وكان وقتها برتبة لواء وقائدا لكتيبة عرفت باسمه جنوبي القطاع الأوسط بسيناء.
وقد أوضح الشاذلي -في حديثه مع الجزيرة في برنامج “شاهد على العصر” أواسط تسعينيات القرن الماضي- أن الحرب اندلعت ولا يوجد أي قائد على رأس ضباطه وجنوده، ووصف مشاهد مؤلمة للجنود الضحايا والمنسحبين، والعتاد المشتت بسيناء في طريق عودته إلى الضفة الغربية من قناة السويس.
بيانات إسرائيل
وطبقا للبيانات الإسرائيلية، فقد دمرت خلال 492 غارة 209 طائرات من أصل 340 طائرة مصرية، وقصفت عدة مطارات أردنية منها المفرق وعمان، ودمرت 22 طائرة مقاتلة و5 طائرات نقل ومروحيتين.
كما قصفت المطارات السورية ومنها الدمير ودمشق، ودمرت 34 طائرة مقاتلة و28 قاذفة. وهاجمت القاعدة الجوية هـ3 في العراق.
وفي المجمل، تؤكد المصادر الإسرائيلية أن 416 طائرة مقاتلة عربية دُمرت، بينما خسرت إسرائيل 26 طائرة مقاتلة فقط.
وحققت إسرائيل نصرا عسكريا ساحقا خلال ساعات، فسيطرت على مدينة القدس كلها والمسجد الأقصى، والضفة وغزة، ثم سيناء والجولان السوري، وقتلت وجرحت وأسرت عشرات الآلاف من جنود وضباط القوات العربية، وخاصة المصرية منها.
وما زاد من حدة الكارثة، مسارعة المشير -في اليوم الموالي لاندلاع الحرب- لاتخاذ قرار بالانسحاب، بينما أكد زكريا محيي الدين -أحد قادة الضباط الأحرار ومن المقربين لعبد الناصر- أن من اتخذ قرار الانسحاب هو جمال عبد الناصر نفسه.
ووصف جمال حماد أحد أبرز قادة الضباط الأحرار -في حديثه مع الجزيرة- قرار الانسحاب بأنه كان “مسابقة في العدو” غير المنظم للوصول إلى الضفة الغربية من قناة السويس.
فقد طلب المشير من قائد الأركان محمد فوزي إعداد خطة للانسحاب على وجه السرعة، فذهب الأخير وأعدها مع بعض الضباط على أن تتم في نحو 4 أيام، وعندما عادوا إليه فوجئوا بعامر يقول لهم “أنا خلاص، أمرت بالانسحاب”.
القوات تتقدم
وبينما كان كل الجنود ينسحبون، صدرت وسائل الإعلام المصرية يوم 7 يونيو/حزيران بعناوين مثيرة تتصدر صفحاتها الأولى، مثل “قواتنا تطارد في عنف وشجاعة مقاتلات أميركا وبريطانيا، 32 طائرة أميركية تركت قاعدتها في ليبيا لدعم طيران العدو، هجوم جوي مصري على كل مواقع القتال، البوارج العربية ضربت قلب تل أبيب”.
واعتُبر إدخال الولايات المتحدة وبريطانيا في تلك البلاغات العسكرية تمهيدا استباقيا للتبرير للهزيمة الكبرى، وقد تأكد ذلك في بلاغ عسكري صدر مساء 6 يونيو/حزيران، وجاء فيه “إن التدخل الجوي الواسع من جانب الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، لصالح العدو الإسرائيلي قد أحدث تطورات هامة في خط سير المعركة”. وتحدث البلاغ عن مشاركة مباشرة لطائرات أميركية وبريطانية في قصف قوات مصرية، وذلك لم يكن صحيحا.
فقد اختلف عبد الناصر مع المشير حول هذه النقطة، وطلب إثباتا يؤكد اشتراك الطائرات الأميركية في الحرب كما روج بعض الضباط، فاضطر الأخير أن يتصل بنفسه بمطار الأقصر وتحدث وقتها مع الطيار محمد حسني مبارك وسأله عن نوع الطائرات التي أغارت على المطار هناك وهل هي أميركية فأجابه بوضوح أنها كانت إسرائيلية.
كما تأكد أن الطائرة المقاتلة التي أسقطت في ترعة الإسماعيلية إسرائيلية وليست أميركية كما راج في البداية.
ويروي البغدادي في مذكراته وفي “الصامتون يتكلمون” أنه عندما توجه مرة أخرى لمكتب المشير هو وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم في الثامن من يونيو/حزيران، فوجئوا بالفوضى التي تدار بها الحرب، وبقرار الانسحاب، والتراجع عن الانسحاب، ثم الانسحاب مرة أخرى، وتشتت ما بقي من القوات في سيناء، ومحاولة لملمة صفوف من وصل منها للضفة الغربية من القناة.
وعندما اشتد النقاش بين عبد الناصر وعامر، حاول البغدادي ورفيقاه الاستئذان لتركهما يتناقشان دون حرج، لكن الرئيس رد عليه يائسا “نتناقش في إيه، الجيش خلاص اتبهدل، الجيش راح”.
“الجيش راح” لكن بعلم الرئيس
“الجيش راح” بحسب تعبير عبد الناصر الذي كان يعلم -منذ أيام- بتوقيت شن إسرائيل الحرب على مصر، كما نقل إليه ذلك سفيره في الاتحاد السوفياتي مراد غالب الذي صرح في مذكراته، وحديثه مع الجزيرة في برنامج “شاهد على العصر” أنه أخبر الرئيس بأن إسرائيل ستهاجم مصر يوم 5 يونيو/حزيران، وذلك نقلا عن السفير الأميركي بالاتحاد السوفياتي.
كما نقل إليه ذلك الخبر الخطير اليوغوسلاف خلال حكم صديقه الرئيس جوزيف تيتو.
بل إن تحية زوجة عبد الناصر أكدت في كتابها “ذكريات معه” أن الرئيس جلس معهم قبيل أيام من “النكسة” وأخبرهم أن “اليهود سيعتدون على مصر، وحدد بالضبط يوم الاثنين المقبل”.
وزادت “وحصل الاعتداء الإسرائيلي في نفس اليوم الذي حدده الرئيس، 5 يونيو/حزيران 1967 في الصباح”.
وقد تطرق عبد الناصر لكل هذه التفاصيل باجتماعه الأخطر والأهم مع القيادات العسكرية والسياسية في 2 يونيو/حزيران 1967، حيث أخبر المجتمعين أن إستراتيجية مصر تحولت إلى الدفاع، ولن تبادر بالهجوم لعدم التضحية بالمواقف الدولية التي أنذرت وتوعدت من يبدأ بالهجوم، ثم أكد أن هجوم إسرائيل “محتمل جدا” ولن يتأخر عن يومين أو ثلاثة، وذلك ما حدث في الخامس من يونيو/حزيران.
بل شرح للحاضرين أن إسرائيل ستشن غارات جوية ضد القوات الجوية وعناصر الدفاع الجوي لإخراجها من المعركة، وهنا فاجأ القيادات بمطالبتهم بالاستعداد لتلقي الضربة الأولى، واتخاذ ما يلزم لتقليل خسائرها إلى الحد الأدنى حتى يمكن بعدئذ توجيه ضربة رادعة لقوات العدو، وفقا للفريق صلاح الدين الحديدي -قائد المنطقة المركزية الشرقية ومدير أكاديمية ناصر العسكرية العليا- بكتابه “شاهد على حرب 67”.
وقد أثار هذا المطلب غضب وسخط قيادات عسكرية التي أكدت أن من أهم أركان الفوز في أي حرب عنصر المفاجأة، وأوضحت أن الطيران المصري سيصاب في مقتل إن لم يبادر بإجهاض الهجوم الإسرائيلي المتوقع.
لكن الريّس تشبث بمطلبه، وأصدر أوامر بالاستعداد لتلقي الضربة الإسرائيلية الأولى.
إصابة في مقتل
وبغض النظر عن أهداف ناصر من التصعيد العسكري الخطير مع إسرائيل، والذي توج بالمطالبة بسحب قوات الطوارئ الدولية، وإغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية، وحشد عسكري علني في سيناء، علما بأن ثلث القوة الضاربة المصرية كانت في اليمن، فإن الهزيمة القاسية يوم 5 يونيو/حزيران أصابته في مقتل، وعبد الناصر ما قبل الهزيمة انتهى للأبد، بحسب تعبير المقربين منه.
حكى حسين الشافعي، أحد أبرز قادة الضباط الأحرار ونائب عبد الناصر وأحد أقرب الناس إليه، أنه عندما توجه عام 1972 إلى جامعة أسيوط، ليخفف من غضب الطلبة الذين ينادون بشن الحرب على إسرائيل واسترداد سيناء، قال ضمن خطبته فيهم إن عبد الناصر “مات سنة 1967، ولكنه تشبث بالحياة لينسحب سنة 1970”.
وكذلك قال كثيرون ممن كانوا قريبين من الرئيس الراحل، وبينهم مراد غالب، سفيره في الاتحاد السوفياتي الذي استدعاه الريّس أواخر يونيو/حزيران لاستشارته بشأن مجريات الأحداث.
وحكى غالب لقاءه الأول -بعد الهزيمة- مع الرئيس قائلا في كتابه “مع عبد الناصر والسادات سنوات الانتصار وأيام المحن” أنه ما إن رأى الرئيس “حتى شعرت بأنني أرى شخصا آخر، ليس هذا هو عبد الناصر”. وتابع “كان منهكا واجما، تظهر عليه بكل وضوح آثار الهزيمة الساحقة، ومن الطبيعي أن يكون في غاية الحزن والألم”.
وشرح غالب أن عبد الناصر الذي كان يحرك الشارع العربي، والذي رفع مع الرئيسين الهندي نهرو واليوغسلافي جوزيف تيتو لواء عدم الانحياز، وكان له “دوره الهائل في حركة تحرير الشعوب ولا بد أن يكون قد تأثر تأثرا بالغا بهذه الهزيمة”.
وذلك ما أكده اللواء جمال حماد في حديثه مع الجزيرة قائلا إن عبد الناصر كان يرى نفسه ضمن القيادات العالمية البارزة، فإذا به يتحطم بعد أن تلقى هزيمة قاسية نكراء من طرف إسرائيل، وفي ظرف ساعات معدودة.
وظهر عبد الناصر بوجه شاحب متعب في خطاب التنحي الشهير يوم 9 يونيو/حزيران 1967، كما ظهرت على وجهه نفس المعالم في خطابه المطول داخل البرلمان، في 23 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، وغابت الابتسامات الساخرة التي كانت لا تكاد تفارقه في كل خطبه.
العبء ثقيل وكذلك الأمراض
بعد الهزيمة القاسية التي بدأت تسمى النكسة، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، فتنحى عبد الناصر عن الحكم، ثم تراجع عنه بعد مظاهرات حاشدة وصفت بـ”المسرحية المدبرة” ثم طفت خلافات الرئيس الحادة مع رفيق عمره المشير على السطح، وانتهت بـ “انتحار” عامر وسجن قيادات الجيش المقربة منه وإنهاء المحاولة الانقلابية التي كانوا يخططون لها.
ثم ما لبث عبد الناصر أن بدأ عملية تغيير جذري في صفوف قيادات الجيش، ومناهج التدريب على أسس جديدة، وكثف اتصالاته مع الاتحاد السوفياتي لتزويده بالسلاح، وبخاصة القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي التي دمرتها إسرائيل وأصبحت أجواء مصر مفتوحة أمامها.
وبدا عبد الناصر -لأول مرة- مركزا على بناء البلد لمحو عار هزيمة يونيو/حزيران، وخلت خطاباته من السخرية من “الرجعية” ومن “أبو دقن” ومن “الطبقة الطرية” المنشغلة بملذات الحياة، كما خلت من الشتائم والتهديدات المباشرة للقوى الكبرى.
وثقلت الأعباء على كاهل ناصر وتزامنت مع ضغط الأمراض على جسده، وحكى طبيبه الخاص الصاوي حبيب أنه استدعي على عجل يوم 13 يوليو/تموز 1967 لإجراء فحص طبي على الرئيس في غرفة نومه، وقال في كتابه “مذكرات طبيب عبد الناصر” إن الرئيس كان يعاني وقتها من مرض “البول السكري” وكان يجري تحليلا للسكر في البول كل صباح، وتحدد بناء على ذلك جرعة الأنسولين التي يجب أن تعطى للريّس.
لكن التدخين بشراهة، وضغط العمل دون استراحة، زاد من مضاعفات المرض، واجتهد الأطباء في تنظيم أكل وعلاج الرئيس، إذ كان -بحسب زوجته والمقربين منه- لا يفتر عن العمل ليل نهار.
وبرغم انقطاعه عن التدخين، وبرغم حصص علاج في مستشفيات الاتحاد السوفياتي، وفي منتجعاته الصحية، ازداد ضغط الأمراض عليه وأصيب بنوبة قلبية أولى صيف 1969. وعقب ذلك، اضطر المقربون منه لإنشاء مصعد له في البيت ليتمكن من الانتقال بين الطابقين السفلي والعلوي من بيته، لأنه لم يعد قادرا على صعود الدرج.
نهاية المسار
وتحكي تحية في كتابها أنه بعد شفائه من مضاعفات النوبة القلبية الأولى، عجز الرئيس عن صوم رمضان ذلك العام بسبب الأمراض، واضطر لأن يفطر، فكان يتناول وجبة خفيفة وقت الظهر، وأخرى عند الإفطار معهم.
ومن وجهة نظر طبية، يؤكد الصاوي أن التحاليل التي أجريت للرئيس كانت تشير إلى ارتفاع في نسبة الكولسترول، ومرض بضيق الصدر، وتصلب الشريان التاجي مع وجود ارتفاع في ضغط الدم، وقال إن ذلك مؤشر إلى حدة المخاطر المحدقة بصحة الرئيس خاصة مع زيادة الوزن، وقلة المجهود، وارتفاع نسبة القلق والتوتر بسبب حرب الاستنزاف، وكثرة أعباء السفر والمؤتمرات واللقاء المحلية والدولية وتدبير شؤون الدولة.
وقد اضطر فريقه الطبي لعقد اجتماع عاجل معه أحد أيام أغسطس/آب 1970 بعد تأكدهم من خلال تحاليل مكثفة من عدم تحسن في علاج عضلة القلب، في محاولة منهم لإقناعه بضرورة الخلود للراحة وتغيير نمط حياته، وهو ما رفضه عبد الناصر قائلا “هذا معناه أن أغير هذه الوظيفة”.
وفي 28 سبتمبر/أيلول، يحكي الصاوي أنه طُلب على وجه السرعة ليذهب لبيت عبد الناصر، وسرعان ما التحق به الأطباء الآخرون، وبدأت إجراءات متابعة نشاط قلب الرئيس، وإعطائه العلاجات الضرورية.
بدا على عبد الناصر بعض التحسن حيث استطاع أن يمد يده لجهاز الراديو ليتابع نشرة الأخبار، وكان يهمه الاستماع لخبر معين لم يكشف عنه، وعندما طلب منه الصاوي أن يستريح، رد عليه قائلا “أنا أستريح يا صاوي” ثم مال برأسه فجأة إلى اليمين.
وفشلت كل المحاولات التي استمرت لنحو 20 دقيقة لإنعاش قلب جمال عبد الناصر، لتعلن وفاته وعمره 52 عاما، وتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ مصر والمنطقة، لم تنته بالنصر الكبير الذي تحقق خلال الأيام الأولى من حرب أكتوبر/تشرين الأول 73، إذ لا يزال الوضع الجيوإستراتيجي الذي نشأ بعد الهزيمة القاسية على ما هو عليه، وكل أمنية الجامعة العربية أن تقبل إسرائيل بدولة فلسطينية ضمن حدود 4 يونيو/حزيران، بينما تأمل الشعوب العربية أن تفتح كل ملفات حرب 67 لتكشف الألغاز التي ما تزال تحيط بها من كل جانب.