قدمت جنوب أفريقيا دعوى إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، خلال ديسمبر/كانون الأول 2023 الماضي، متهمة فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة.
وبعد النظر بالدعوى في يناير/كانون الثاني 2024، أمرت المحكمة في قرارها بـ6 تدابير مؤقتة، تشمل الطلب من إسرائيل الامتناع عن ارتكاب أعمال تدخل في اتفاقية منع الإبادة الجماعية، ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، واتخاذ خطوات فورية فاعلة لضمان توفير المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة.
ولاحقا، وتحديدا في 24 مايو/أيار، أصدرت محكمة العدل -استجابة لطلب عاجل تقدمت به جنوب أفريقيا- قرارا يلزم إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية في رفح، وفتح كل المعابر البرية للقطاع، ولا سيما معبر رفح، كما ذكرت أن الشروط مستوفاة لاتخاذ إجراءات طارئة جديدة في قضية اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية.
ونشر معهد الجزيرة للدراسات تقريرا للباحث النيجيري المختص بالشؤون الأفريقية حكيم أَلَادَي نجم الدين تحت عنوان “علاقات جنوب أفريقيا مع الغرب بعد حكم محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل”.
وأوضح التقرير أن هناك مؤشرات على أن إسرائيل وحلفاءها وخاصة في الغرب يتحركون ضد جنوب أفريقيا بالساحة الدولية بعد هذه الدعوى. وهذا التطور يستدعي قراءة موقف بريتوريا المناصر للفلسطينيين عبر نظرتها للنظام العالمي وعلاقاتها مع الغرب.
جنوب أفريقيا والنظام العالمي الجديد
يرجع بعض ما تتميز به جنوب أفريقيا حاليا من وضع سياسي واقتصادي وقيادي بالاتحاد الأفريقي، إلى فترة بناء الدولة الجديدة التي أعقبت حقبة الفصل العنصري، والتحول الديمقراطي عام 1994 والذي أنهى استخدام البلاد مركزا غربيا على حافة أفريقيا.
ومما يلاحظ -في تصريحات المسؤولين بجنوب أفريقيا- أنهم يرون أن النظام العالمي المثالي لن يكون بمنزلة العودة إلى القطبية الثنائية التي كانت سائدة في الحرب الباردة، أو الأحادية القطبية فترة ما بعد الحرب الباردة.
كما تنظر جنوب أفريقيا إلى القوى الجديدة والمتصاعدة مثل الصين وروسيا كحلفاء، وهو ما جعل واشنطن تعتبر بريتوريا منحازة لهذه القوى الموازية، وخاصة أن جنوب أفريقيا انضمت لمجموعة البريكس عام 2010 بناء على دعوة من الصين، وتؤثر عضويتها فيها في سياستها الخارجية، بل إنها استضافت قمة المجموعة عام 2023 التي شهدت دعوة دول جديدة مصر وإثيوبيا للانضمام إليها.
الاقتصاد والعلاقات مع الغرب
إن مكانة بريتوريا الإستراتيجية في أفريقيا ودورها اليوم كلاعب عالمي يوفران لها فرص تأمين مصالحها واستقلالها في اتخاذ مواقف تجاه قضايا دولية حسب سياساتها الخارجية، كما يجعلانها عرضة للتأثر بتداعيات المنافسة الجيوسياسية بين الغرب وروسيا والصين، مع الإشارة إلى أن جل علاقات البلاد مع الدول الغربية ذات طبيعة اقتصادية، بينما علاقاتها مع دول بالجنوب العالمي أكثر عمقا.
ولعل أكبر مثال على ذلك شراكات بريتوريا مع أعضاء مجموعة البريكس مثل روسيا التي تعود علاقاتها مع حكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم إلى فترة الحرب الباردة عندما دعم الاتحاد السوفياتي جهود هذا الحزب في مكافحة الفصل العنصري، بينما صنّفته واشنطن في تلك الفترة جماعة إرهابية، وترددت في تطبيق العقوبات على نظام الفصل العنصري حتى عام 1986.
وقد جاءت جهود جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بعد توتر العلاقات الدبلوماسية بين بريتوريا والولايات المتحدة حول الأزمة الأوكرانية الروسية عندما رفضت بريتوريا إدانة الحرب الروسية على أوكرانيا.
ولعامل التنمية والاقتصاد أكبر الأثر في حيادية موقف حكومة جنوب أفريقيا، إذ تواجه البلاد عقبات أمام خطة التطور الوطنية وتباطؤ التنمية الاقتصادية، ويستفيد اقتصادها من العلاقات مع الغرب، إذ يمثل الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ما يزيد على 77% من الاستثمار الأجنبي المباشر، كما يذهب حوالي 11% من صادرات جنوب أفريقيا إلى الولايات المتحدة.
جنوب أفريقيا والحرب على غزة
ويشير أحد التفسيرات حول اهتمام جنوب أفريقيا بما يحدث في غزة إلى أنه نابع من العديد من التجاوزات وعدم التوازن في السياسة الدولية ومبادئها، ومرتبط بموقف صنّاع السياسات في البلاد من ضرورة رؤية نظام عالمي أكثر تعددية.
ويضاف إلى ذلك المشاعر القوية الداعمة للقضية الفلسطينية داخل جنوب أفريقيا نتيجة العلاقة الطويلة بين حزب المؤتمر الحاكم ومنظمة التحرير الفلسطينية، والتي تعود لحقبة نظام الفصل العنصري حيث دعمت إسرائيل نظام الفصل العنصري وتاجرت معه بالأسلحة، بينما دعمت منظمة التحرير هذا الحزب والمقاومين.
وقد كان موقف زعماء جنوب أفريقيا ثابتا تجاه القضية الفلسطينية، بدءا من الزعيم نيلسون مانديلا، أول رئيس منتخب ديمقراطيا في البلاد، والذي صرّح بعد شهور من إطلاق سراحه من سجن الفصل العنصري عام 1990 بأن زعيم منظمة التحرير ياسر عرفات “رفيق السلاح” وشبّه المنظمة بـ”السود” في جنوب أفريقيا وحزب المؤتمر الذين كانوا يقاتلون من أجل حق تقرير المصير.
وهو الموقف نفسه الذي أكده المناضل السابق والرئيس الحالي سيريل رامافوزا، في 14 يناير/كانون الثاني الماضي، بل وكرر قادة الحزب الآخرون تصريحا مماثلا قائلين إن هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان نتيجة لاستفزازات الحكومة الإسرائيلية وسياسييها.
كما أن النسبة الكبرى من سكان جنوب أفريقيا المؤيدين للقضية الفلسطينية ينظرون للموضوع نظرة أخلاقية ويرون أنه يصب في مبادئ بلادهم والتزاماتها الإنسانية، ولذلك نظموا، منذ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، احتجاجات ومسيرات رفضا للحرب الإسرائيلية على غزة، وأبدت عدة منظمات في البلاد استعدادها لتقديم المساعدات الإنسانية لغزة.
وكان توجه جنوب أفريقيا نحو العدل الدولية مطلبا شعبيا أكدته التصريحات والتحركات من عدة شخصيات مؤثرة في البلاد، إلى جانب الضغوطات من الأحزاب السياسية المختلفة، واعتماد البرلمان، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، اقتراح حزب “المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية” المعارض بإغلاق السفارة الإسرائيلية بجنوب إفريقيا، وطلب نواب من حزب المؤتمر الحاكم من البرلمان تعليق علاقات البلاد الدبلوماسية مع إسرائيل إلى حين وقف إطلاق النار وحتى التزام إسرائيل بمفاوضات ملزمة من الأمم المتحدة.
ويضاف إلى ما سبق أن توجه جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية كان لتحقيق هدفين رئيسين:
الهدف الأول: قصير المدى وتمثل في وقف التدمير المنهجي للمنازل والمدارس والمستشفيات والحياة البشرية في غزة، مع زيادة المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
والهدف الثاني طويل المدى ويشمل استخدام جنوب أفريقيا والدول المؤيدة لها نتائج محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة الجماعية في غزة لكبح استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتحقيق حل الدولتين.
ما بعد حكم العدل الدولية.. تداعيات وتوقعات
يرتبط أول تداعيات حكم العدل الدولية بشأن الدعوى المرفوعة ضد إسرائيل بالعلاقات الثنائية بين الجانبين (أي جنوب أفريقيا وإسرائيل) حيث تعد بريتوريا أكبر شريك تجاري لإسرائيل في أفريقيا وبلغت قيمة التجارة بينهما عام 2021 حوالي 285 مليون دولار، أي ثلث إجمالي تجارة إسرائيل مع أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وهذا يعني أن التجارة بينهما لن تكون كما كانت عليه قبل توجه جنوب أفريقيا إلى لاهاي، وخاصة أن التطورات جعلت بريتوريا أيضا في مواجهة الدول الغربية التي تدعم الحرب الإسرائيلية على غزة.
ومن تداعيات التوجه نحو لاهاي أن حكومة جنوب أفريقيا وجدت نفسها الآن أمام المنظار أو الميزان الدوليين، وفي وجه الشكوك في نواياها أو “نفاقها” لإبقاء علاقاتها مع إسرائيل وتعزيزها السنوات الأخيرة رغم دعمها للقضية الفلسطينية، ووصف جهودها في أعلى المحاكم الدولية بالبحث عن النفوذ الدولي واستغلال الفلسطينيين لتحقيق أجندات خاصة بين المجتمع الدولي، وقد وصفت إسرائيل جنوب أفريقيا بالذراع القانونية لحركة حماس.
كما انتقد البعض ما أسموه مواقف متناقضة من جنوب أفريقيا حول قضايا حقوق الإنسان الدولية، خصوصا في سوريا والسودان وإيران وغيرها.
ويُتوقع أن تتراجع علاقات بريتوريا مع بعض الدول الغربية، وخاصة واشنطن، حيث قُدّم مشروع قانون إلى الكونغرس في فبراير/شباط الماضي لمراجعة العلاقات الثنائية مع بريتوريا.
تداعيات إيجابية
في المقابل، فإن هناك مؤشرات على أن قرار محكمة العدل -رغم افتقاره إلى سلطة التنفيذ- سيجبر واشنطن على الضغط على إسرائيل للامتثال لبعض التدابير المؤقتة للحكم أو التوقف عن بعض التجاوزات.
وجانب آخر مهم يتمثل في أن جهود جنوب أفريقيا خفّضت من الهيبة الإسرائيلية المعتادة على المستوى الدولي، وسهّلت للآخرين اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم في إطار دولي رسمي.
ومن المتوقع أيضا أن تعزز جهود جنوب أفريقيا موقفها كصانع السلام الجديد على الساحة العالمية، كما ستشجع الحكومات في الجنوب العالمي على معارضة واشنطن والدول الغربية الأخرى وتحديها علنا في إطار قانوني دولي حول القضايا العالمية.
وهناك بوادر ظهور تحالف جديد يمكن ملاحظته عبر ما حظي به قرار إحالة القضية الفلسطينية إلى المحكمة الدولية من دعم قوي من دول الجنوب العالمي، وما قدمته إندونيسيا من شكوى جديدة ضد إسرائيل في محكمة العدل وخطط تشيلي والمكسيك لاتهام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب مشتبه بها، والموافقة على قرار يدعو إلى وقف سريع لإطلاق النار في مؤتمر حركة عدم الانحياز.
كما يتوقع تزايد الضغط لإصلاح الأمم المتحدة لأن فشلها من العوامل الرئيسية الدافعة للجوء جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل، ويزداد الشعور العام بأن تفاقم الأزمة الفلسطينية الجارية مرتبط بعدم فاعلية مجلس الأمن الدولي بسبب الدول التي تستخدم حق النقض.