ورزازات – مر منها كثير من عمالقة السينما العالميين أمثال ألفريد هيتشكوك وجيمس بوند وريدلي سكوت وليوناردو ديكابريو وبراد بيت ومارتن سكورسيزي، وصورت فيها أفلام إيطالية وأميركية وفرنسية وسويسرية وبريطانية وغيرها، وحملت مخرجين وأعمالا سينمائية إلى عرش الأوسكار.
“لعبة العروش” و”غلادياتور” و”هرقل” و”كليوباترا” و”المومياء” و”سقوط الصقر الأسود” و”لورنس العرب” و”جوهرة النيل” و”الإسكندر”، كلها نزر يسير فقط من الأعمال الضخمة والعالمية التي كانت مدينة “ورزازات” جنوب شرق المغرب مسرحا لتصويرها.
ولا غرابة أن تحمل هذه المدينة الهادئة التي ترقد بين سفوح جبال الأطلس الصغير لقب “هوليوود أفريقيا”، وهي التي تعد الوجهة المفضلة لكثير من المخرجين العالميين لما تتوفر عليه من استوديوهات اصطناعية بها ديكورات وتصاميم جاهزة أبدعتها أيدي حرفيين وفنيين لتكون مسرحا للتصوير، وما تزخر به من “استوديوهات” أخرى طبيعية أبدعها الخالق العظيم وتسيل لعاب شركات الإنتاج العالمية.
سمعة عالمية وأحياء فقيرة
تتميز ورزازات بطبيعة خلابة متنوعة، إذ تجمع بين الجبال الصخرية الصلدة، وكثبان الرمل الصحراوية الذهبية، وواحات النخيل الخضراء، وبحيرات المياه الصافية العذبة، ويضاف إلى ذلك كله خيوط الشمس الذهبية التي توفر طوال العام مصدر إضاءة طبيعية صافية، وكل تلك مثاليات يبحث عنها عشاق الكاميرات وبلاتوهات التصوير.
هذه السمعة العالمية تعطي الانطباع بأن مدينة ورزازات لا بد أن تكون في مصاف المدن العالمية التي تتمتع باقتصاد قوي وبنية تحتية متطورة، وأن تستفيد من هذا الزخم السينمائي الذي بوأها مكانة عالمية، لكن جولة سريعة في أزقة “هوليود أفريقيا” تجعلك تكتشف مدينة أغلب أحيائها تجمعات عمرانية متواضعة تقطنها فئات اجتماعية فقيرة، وتخلص إلى الاستنتاج بأنها لم تستفد من الفن السابع إلا السمعة.
أحياء مثل “أيت كضيف” و”حي السلام” و”سيدي داود” و”تاوريرت” و”تاماسينت” و”فضراكو”… كلها تجمعات سكانية أغلب مبانيها ترابية، ويعيش أهلها حياة شبه بدوية على زراعات معاشية وعلى تربية المواشي في مدينة يرتادها مشاهير الفن والسينما كل عام.
ولا أدل على هذه المفارقة من كون مدينة ورزازات على مر تاريخها -الذي يتجاوز قرنا من الزمان نصفه تقريبا اشتهرت فيه بكونها قبلة لتصوير الأفلام- لم تكن فيها غير قاعتين للسينما توقفتا تماما عن العمل والعرض منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، وهما قاعتا الأطلس والصحراء.
العهد الذهبي
المرشد السياحي في استوديو الأطلس بورزازات عبد العزيز الشافعي يقول للجزيرة نت إن العهد الذهبي للسينما في المدينة كان في تسعينيات القرن الماضي، “ففي تلك الفترة كان يتم تصوير فيلم أو فيلمين أو 5 في السنة، وفق ظروف الإنتاج السينمائي المحلي أو الدولي”.
ففي التسعينيات -وفق المتحدث نفسه- “كان يمكن أن يدوم الإعداد لديكور فيلم وتصويره من 6 أشهر إلى سنة ونصف السنة، أما الآن فأصبح المعدل 4 أو 5 أشهر فقط”.
ويرى الشافعي أن جزءا من الأسباب المؤدية لذلك يمكن تلخيصه في وجود ديكورات وفضاءات تصوير جاهزة تم إنشاؤها من قبل مما يقلص الآن التكلفة المادية والمدة الزمنية المطلوبة لإنجاز الأعمال السينمائية، كما أن “التقدم التكنولوجي والاستعانة بالتقنيات الحديثة قلل من الاعتماد على التصوير وعلى الاستوديوهات وربما حتى على الممثلين والكومبارس”.
و”الكومبارس” أيضا في هذه الفترة الذهبية للسينما كانوا في أغلبهم من أبناء ورزازات والنواحي، وكان ذلك يوفر لكثيرين منهم فرص شغل ولو موسمية تدر عليهم بعض المال، أما اليوم فيقول بعض أبناء الميدان للجزيرة نت إن هذا لم يعد متاحا إلا للمحظوظين وبعض من لهم علاقات خاصة مع من تنتدبهم شركات الإنتاج لانتقاء الممثلين والتقنيين والعمال.
مهن على الهامش
ورغم هذا “التراجع” فإن عبد العزيز الشافعي يرى أن السينما في ورزازات ما تزال تساهم بقدر لا يستهان به في التنمية المحلية والوطنية، ويقول إن الصناعة السينمائية تساهم في التنمية من خلال 3 مستويات: “قسط من ميزانيتها يذهب إلى المركز السينمائي المغربي، وهو الجهة المكلفة بمنح التراخيص والموافقات لتصوير وإنتاج الأعمال السينمائية، وهذا الجزء من الميزانية لا محالة يساهم في الدورة الاقتصادية في البلاد”.
والجزء الثاني من عائدات السينما -يضيف الشافعي- “يذهب للمستثمرين ومالكي الاستوديوهات، وهم أيضا مؤسسات لها موظفون ولديها استثمارات تشغل يدا عاملة لا بأس بها، أما القسط الثالث فيذهب للممثلين الثانويين (الكومبارس) والتقنيين والمصورين وشركات الإنتاج المحلية، إضافة إلى تحريك عجلة السياحة، وكل هذه أشياء بالتأكيد تساهم في التنمية المحلية”.
ويؤكد الشافعي أن كثيرا من المهن والحرف تنشط على هامش الأعمال السينمائية مثل التصوير والإضاءة والمكياج (التجميل) والنجارة والحدادة والبناء وصناعة الجبص وغيرها.
البصمة الإيطالية
أما عبد الصمد الإدريسي، المعروف في المدينة بلقب “ألمو”، والذي يعمل مديرا لشركة إنتاج فإنه يرى ضرورة التمييز بين “الصناعة السينمائية الدولية” و”الصناعة السينمائية المحلية”. ويقول إن “ورزازات تعتمد على الصناعة السينمائية الدولية وعلى الأفلام الكبرى التي ترصد لها ميزانيات ضخمة وتحتاج إلى كومبارس وفريق عمل كبير”.
أما بعض الأفلام الأخرى الصغيرة -يضيف الإدريسي- “فلا تتعدى مدة تصويرها أياما أو أسابيع قليلة والعاملون معها محدودون جدا”.
ويتذكر “ألمو” يوم كانت هناك صناعة سينمائية منتعشة في المنطقة في تسعينيات القرن الماضي “عندما بدأتها شركات الإنتاج الإيطالية مثل استوديوهات تشيني تشيتا التي كانت تعمل على تصوير أفلام ضخمة عن التوراة والإنجيل والعهد القديم، وصورت أفلاما عن الأنبياء مثل موسى ويوسف عليهما السلام، وقد دامت مثل هذه الأعمال قرابة 5 إلى 6 سنوات متواصلة”.
ويرى المتحدث نفسه أن المهنيين السينمائيين الإيطاليين “لم يأتوا فقط للتصوير وتشغيل الناس، بل نشروا ثقافة سينمائية في المنطقة وأحيوا فيها مهنا وحرفا تقليدية مرتبطة بالسينما مثل الصناعات الجلدية والصناعات النحاسية والنجارة وصناعة السيوف”.
دعوة للتطوير والإنعاش
ويحن “ألمو” إلى ذلك “الزمن الذي كان فيه واحد من هذه الأفلام الضخمة قد يصل عدد المشتغلين فيه إلى 10 آلاف شخص من أبناء المنطقة”، ويؤكد أن “هذا النوع من الأفلام كان يكون قليلا وفي مدة محدودة” لكنه كان مفيدا رغم ذلك، أما الآن في نظره “فلم تعد هناك إلا بعض الأعمال البسيطة التي لا تكاد تشغل العشرات، وأغلبهم ليسوا من أبناء المنطقة”.
ويتمنى الإدريسي أن تفكر السلطات في تطوير وإنعاش الصناعة السينمائية في المنطقة وتنويع أشكالها ومواضيعها، “فموقع ورزازات وتضاريسها واستوديوهاتها وبنيتها التحتية السينمائية الحالية محدودة وتجعل الأفلام المصورة فيها محصورة في تيمات ومواضيع محددة، مثل الأفلام التاريخية وأفلام الحرب”.
ويعاتب الصناعة السينمائية المغربية -التي ينتج جزء كبير منها بأموال دافعي الضرائب المغاربة- قائلا إنها “تقتصر على محور الدار البيضاء الرباط أو مراكش، وأصبح عندنا ما يعرف بالزمرة (في إشارة إلى دائرة ضيقة مغلقة من المستفيدين من هذه الصناعة في كل منطقة من هذه المناطق)، فتسمع عن زمرة مراكش وزمرة طنجة وزمرة الدار البيضاء وزمرة الرباط وهكذا”.
ويضيف “ليست لدينا في السينما الوطنية مواضيع يمكن أن تصلح ورزازات مكانا لتصويرها، وحتى إذا اختار مخرج مغربي أن يأتي للتصوير فيها فهو لا يتعدى أسبوعا من العمل، وربما يحضر معه كل طاقم عمله ولا تستفيد منه المدينة شيئا”.
مهنيون عاطلون
ويرى عبد الحكيم مرابط، وهو تقني سينمائي يعمل في المجال منذ 29 سنة، أن “العهد الزاهر للسينما في ورزازات ولى في التسعينيات من القرن الماضي، أما الآن فلم يعد الحرص على الكفاءات، ودخل الميدان كل من هب ودب، وكثير من المهنيين الذين لديهم بطاقاتهم المهنية ويدفعون ضرائب وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل”.
ويؤكد أن هناك “ديكورات ومواقع تصوير مهملة لا تستغل وضاعت وتم نهبها في منطقتي كشايت وتيدغست القريبتين من ورزازات، إضافة إلى أن بعض الاستوديوهات تطلب مبالغ خيالية تجعل المنتجين يهربون من المنطقة”، وتساءل “لماذا لا تكون في ورزازات مدينة سينمائية أو مدينة إعلامية تكون محورا لتنمية اقتصادية وثقافية محلية وتجذب الاستثمارات السينمائية والسياحية في المنطقة؟”.
ويقاطعه عبد الصمد الإدريسي بحماس وحرقة “ليست لدينا في المغرب صناعة سينمائية دائمة يمكنها أن تشغل وتساهم في التنمية المحلية باستمرار، نحن ندفع ضريبة اسمها ضريبة القطاع السمعي البصري، ومن المفروض أن يوجه قسط منها لتطوير الصناعة السينمائية المغربية، غير أن قنواتنا التلفزية العمومية تشتري إنتاجات أجنبية مثل المسلسلات المصرية أو المسلسلات المدبلجة كالأفلام المكسيكية والتركية”.
أما شاب آخر يعمل في الإخراج السينمائي -طلب عدم الكشف عن هويته- فيقول إن ورزازات ليست لها استوديوهات خاصة بها، “فالاستديوهات الموجودة (توجد 3 استوديوهات في المدينة) تعود لمستثمرين خواص يراعون فيها مصلحتهم الخاصة وأرباحهم قبل كل شيء، ويطلبون أسعارا باهضة جدا، وهذا ما جعل الكثير من المنتجين يهربون من التصوير في ورزازات”.
ويُسرّ إلينا المخرج الشاب بأن ريدلي سكوت مخرج فيلم غلادياتور طلب منه مالك أحد الاستوديوهات ثمنا خياليا لتصوير الجزء الثاني من فيلمه في أحد البلاتوهات، مع العلم أن المكان والديكور الذي طلب ريدلي سكوت تأجيره هو نفسه من بناه، وطلب منه صاحب الاستوديو ثمنا يفوق الثمن الذي بناه به”.
معضلة الاحتكار
بوعزة الوراك هو الآخر تقني في اللباس السينمائي، يعمل في هذا المجال منذ نحو 26 سنة ويملك شركة لإنتاج وتأجير الألبسة السينمائية، يرى أن العمل في المجال السينمائي “أصبح دون ضبط ولا قوانين”.
كما يعتبر أن هناك “هيمنة كبيرة من الاستوديوهات الخاصة التي تحتكر المجال”، وأن “على الدولة إنشاء استوديوهات خاصة بها تكون مهمتها إنعاش القطاع وضبط الاستثمارات فيه”.
وتساءل في حديث للجزيرة نت “لماذا لا يفتح المركز السينمائي المغربي فرعا أو مكتبا خاصا في ورزازات لتقريب خدماته للمهنيين هنا، وضبط العمل في الميدان، فبعض المناطق والمشاهد والأماكن التي كانت تستثمر في التصوير تم الاستيلاء عليها وتوزيعها على مستثمرين في قطاعات أخرى، وكان الأولى أن تشرف عليها هيئة رسمية وتطورها لصالح العمل السينمائي”.
كما ينتقد المتحدث نفسه غياب ما سماه الاستثمار المسؤول في القطاع السينمائي، ويعتقد أن “بعض من اغتنوا من القطاع لم يستثمروا فيه بل استثمروا في العقارات وفي مشاريع تجارية أخرى”.
مجرد سمعة
الناشط السياسي والبرلماني السابق عن مدينة ورزازات السعيد الصادق يرى هو الآخر أن “سمعة السياحة والسينما لا تنعكس على الوضع الاجتماعي في المدينة، فأبناء ميدان السينما أصبحوا مجرد عمال مياومين وموسميين يعيشون على فتات الأفلام القليلة التي تصور في المدينة وضواحيها”.
ويضيف في حديث للجزيرة نت أن “أغلب أبناء هذه الأحياء على الهامش أصلا ولا تصلهم من الصناعة السينمائية إلا أخبارها أو أصوات مشاهد التصوير كالانفجارات وهدير الطائرات”.
وينتقد ما سماه “الزبونية وهيمنة الوسطاء في هذا المجال”، معتبرا أن مناطق أخرى قريبة من ورزازات تنافسها، مثل مراكش والرشيدية، إضافة إلى المنافسة الخارجية من دول أخرى.
يشار إلى أن كل الانتقادات والتساؤلات والمؤاخذات والأماني السابقة أحلناها على مسؤولين في المركز السينمائي المغربي من أجل معرفة رأيهم في الموضوع، لكننا لم نتلق ردا إلى حد كتابة هذه السطور.