مراكش- قرر المغرب تنفيذ برنامج استعجالي لإعادة إيواء المتضررين والتكفل بالفئات الأكثر تضررا من زلزال الحوز، وتم تقديم تفاصيله أمام الملك محمد السادس الذي شدد على ضرورة أن تتم إعادة الإعمار على أساس دفتر للتحملات، وبإشراف تقني وهندسي بانسجام مع تراث المنطقة الذي يحترم الخصائص المعمارية المتفردة.
وتشغل جبال مناطق الأطلس في المغرب -التي ضربها الزلزال في الثامن من سبتمبر/أيلول الجاري- نسبة مهمة تفوق ربع مساحته العامة، وتضطلع بأدوار طبيعية وتاريخية في هيكلة المجال وتحديد خصوصيته المعمارية والبيئية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
علاوة على الدور التاريخي الذي لعبته الجبال المغربية، فإنها تتميز بتنوع كبير على المستوى: الصخري، والمناخي، والبيئي، والثقافي، وتعد بذلك كنزا لإنتاج الموارد الطبيعية وخزانا للعادات والتقاليد.
تخطيط وسرعة
يعدّ الجمع بين التخطيط والتعاون بين المؤسسات وسرعة التنفيذ لكي يعود الناس إلى حياتهم الطبيعية مدخلا أساسيا لإعادة الإعمار، كما تبرز توصية وارسو بشأن تعافي وإعادة بناء التراث الثقافي الصادرة عن المؤتمر الدولي المنعقد سنة 2018 حول تحدي تعافي التراث العالمي، كما يقول الأستاذ الباحث إبراهيم الياسيني للجزيرة نت.
وتشير التوصية إلى أن الهدف من إعادة الإعمار هو توطيد السلم والأمن واستعادة أو تحسين الأصول والأنظمة والأنشطة الاقتصادية والمادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للمجتمع المتضرر، بما يتماشى مع مبادئ التنمية المستدامة وإعادة بناء ما تدمر بشكل أفضل، وأن تعافي تراث المكان هو جزء أساسي من العملية.
ومن الضرورة احترام القيم المحلية للمجتمع وحاجاته ومشاركته، وارتباط الناس بتراثهم وهويتهم وتاريخهم، وإسهام ذلك في إعادة بناء التراث، علاوة على أخذ الوقت اللازم للتفكير مع احترام حاجة الناس للعودة في أقرب فرصة.
وفي هذا الصدد، يؤكد مصطفى تيليوا الباحث الأكاديمي ورئيس مركز طارق بن زياد للجزيرة نت أن المعمار المبني بالتراب بمناطق الأطلس المتميز بقدرته على التكيف مع طبيعة المناخ يعد المعمار الأمثل للاستقرار بالبوادي والمناطق الجبلية.
كما يسهم توفر المجال على مواد البناء من خشب أشجار الصفصاف والتربة الطينية في منح المباني منظرا طبيعيا وجماليا متفردا يمتزج مع التضاريس المحيطة به.
ويلاحظ الأكاديمي أن هذا المعمار يعبر عن مجتمع قبلي ينبني على التكافل وتحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال زراعة معيشية مرتبطة بالوادي والجبل، إذ تأسست حول هذه الجغرافيا حياة اجتماعية واقتصادية مكنت السكان من تكوين نظام عيش خاص بهم.
وبنظرة فلسفية، يبرز الكاتب المغربي حبيب مزيني في حديثه للجزيرة نت “أن كل معمار يشهد على انتمائه الثقافي، وبما أن المعمار ليس محايدا فإنه ينسج تفاعلات مع محيطه الثقافي”.
ويضيف “لا غرابة إذن في أن يكون كناية عن تجربة أو تشبيها لرغبة متخيلة”، متسائلا: هل من قبيل الصدفة أن يستعير المعمار من حقل الحيوان (العش والخلية…) لتحقيق رغبة الإنسان في الأمن الحيوي؛ فالقرى المتضررة عكست منذ القدم تصميما وتكوينا يتوافق مع بيئتها”.
ويشير إلى أن أي معمار لهذه القرى عليه أن يكون مبنيا على تقليص متاعب الوسط الطبيعي، وتحسين حياة السكان الذين ارتبطت أنشطتهم بالماشية والزراعة التقليدية.
ضابط بناء
لكن كيف نجمع بين ضرورة ضمان “شروط السلامة” وأهمية الحفاظ على “تقاليد البناء”؟
يقول المهندس الخبير محمد نجيب برادة للجزيرة نت إن سؤال البناء المنجز بالطين ومدى مقاومته يعود إلى قرار رسمي لسنة 2013، يحدد ضوابط هذا البناء، للمحافظة على الخصوصية العمرانية المحلية، مع جعلها حافظة للأرواح والممتلكات.
ويورد القرار أن البناء بالطين ورث عبر العصور تقنيات وحلولا ماهرة بهدف تثمين المواد المحلية، خاصة مادة الطين المستعملة في البناء”، وأنه يمثل تراثا “سوسيوثقافيا” لأجيال عديدة، وشاهدا على أصالة تقاليدنا المعمارية والثقافية.
ويضيف برادة أن “من الضروري تثمين فعالية البناء بالطين حتى يظل -من بين حلول أخرى- الحل الاقتصادي والبيئي المعتمد للبناء في الوسط القروي”، مع الحاجة إلى “تأطير تراثنا المتمثل في البناء بالطين بمعايير ودلائل تقنية لتطوير قطاع البناء في الوسط القروي وكذلك في المجال الحضري”.
ويرى تيليوا أن مشروع إعادة الإعمار يجب أن يستعمل مواد البناء المحلية وبطرق محلية، ولكن بمعايير سلامة أعلى، تعتمد تقنيات البناء المضادة للزلازل، ذلك أن الرهان يبقى في تصميم بنايات تتلاءم مع نمط عيش وتقاليد هؤلاء السكان.
وتنال المنازل التقليدية -التي يصل عمر بعضها إلى مئات السنين- أيضا اهتمام وإعجاب زوار المنطقة، حيث تشكل البنايات الطينية التي تتناغم مع الجبال الخضراء لوحة طبيعية خلابة، تستقطب سياحا من مختلف دول العالم، مما يسهم في توفير مورد دخل للآلاف من أبناء هذه المناطق الذين يعيشون من النشاط السياحي.
وتزخر هذه المناطق -كما يضيف تيليوا- بإرث ثقافي من الأهمية بمكان، من شأنه أن يشكل رافعة لخلق الثروة والشغل، وذلك من خلال استثمار المنتجات والخدمات والتقاليد والموارد التي تزخر بها المجالات الجبلية، ويتعلق الأمر بشبكة المواقع المعترف بها من قبل منظمة اليونسكو، والمخازن الجماعية (إغرمان أو إكودار) التي يشهد تنوع أشكالها وطرق بنائها على الغنى التاريخي والتراثي المغربي، ومواقع التراث الصخري، والتعابير الموسيقية والرقصات القروية، خاصة المرتبطة بالمناطق الجبلية، والتراث الشفهي المحفوظ في ذاكرة نساء المناطق الجبلية، والمواقع والمباني والمعالم الدينية، والمهارات والمعارف المرتبطة بالصناعة التقليدية وفن الطبخ.
ذاكرة مشتركة
تنص توصية وارسو على أهمية العثور على وسيلة لحفظ ذاكرة المجتمع المحلي في كل عملية إعمار، وتعتبر “الرواية المشتركة للحدث المأساوي” التي “تعكس وجهات نظر جميع أطياف المجتمع أفضل وسيلة من أجل تعزيز الاحترام المتبادل والتماسك الاجتماعي وتهيئة الظروف المناسبة للمصالحة”.
وفي هذا الصدد، يقول الأستاذ الباحث إبراهيم الياسيني للجزيرة نت إن أعادة إعمار المناطق المنكوبة بجبال الأطلس الكبير يجب أن تحافظ على الهوية الثقافية لكل منطقة، وصونا لكرامة سكانها في انسجام تام مع هذه التوصية.
ويبرز أن القرى المنكوبة أوى إليها منذ قرون خلت أجناس وجنسيات مختلفة قادمة من أطراف العالم، وأفرزت ثقافة محلية أثرت بشكل واضح وملفت في السلوك البشري، ويظهر هذا جليا في العادات والتقاليد في الأكل واللباس، وفي البناء وما إليه من نقش وزخرفة وحياكة أفرشة.
ويشير إلى أن العمران بالأطلس الصغير ليس هو نفسه بالأطلس الكبير، وهو مخالف تماما للعمران بالأطلس المتوسط؛ فالثقافة السائدة في هذه المناطق تراعي مجموعة من الاعتبارات والخصوصيات في مواد البناء وشكل السقوف وموقع الأبواب والنوافذ، حتى الأفرشة والأغطية نجدها متأثرة تماما بالثقافة المحلية، فنجد زربية مرتبطة بهذه القرية دون غيرها، ونجد جلبابا مرتبطا بهذه المنطقة دون أخرى اعتبارا للثقافة السائدة هنا وهناك.
ويؤكد الأكاديمي ذاته أن إعادة إعمار المناطق المنكوبة يجب أن تستحضر خصوصيات معمارية، منها الفضاء الفاصل بين مدخل البيت والفناء الداخلي له والمعروف محليا بـ”أعكمي”، علاوة على هندسة النوافذ المستعملة، التي تكون أكثر اتساعا في اتجاه الداخل بشباك حديدي معقد الزخرفة لا يسمح بمعرفة هوية وتفاصيل وجه المطل.
خزان مياه
لا يجب أن ينسينا الحديث عن البناء أهمية تدبير المياه في المناطق المتضررة من الزلازل، وجلها مناطق جبلية، تعتبر على الدوام خزانا للماء، كما يلاحظ الباحث حمزة أيت الحسين في حديث للجزيرة نت.
ويبرز أن حنكة الأهالي في تدبير الموارد المائية المتاحة منبثقة من استئناس طويل بالزمن والمجال أحيط بإرث ثقافي مميز.
ويشير إلى أن “الساقية” تعتبر على سبيل المثال ذاك الشريان المائي المتسلل بين المنازل والحقول، وهي ذات جريان مادي لا ينفصل بتاتا عن التدفقات النفسية والمشاعر التي توازيه في أذهان سكان الجبل.
هي مشاعر الانتماء والتدبير المشترك لمكونات المجال الجغرافي؛ فالوقوف عند العمق الذهني للممارسات الرمزية المتوارثة عبر الذاكرة الجماعية للمجموعات البشرية المستقرة بتلك المناطق، يفيد في القول إنها وجدت متنفسا رحبا في الإيمان بالانتماء لمجالها الجغرافي كما ألفته واعتادت التحرك فيه، وهو ما يزداد وضوحا كلما اشتد عجز السكان عن مواجهة أزماتهم.
ولعل مظاهر الزهد والإيثار التي كشف عنها سكان الجبل بعد الزلزال خير دليل على ذلك، ومن ثم فكل تغيير يطول السكن يمس لزاما باقي مناحي الحياة اليومية، ومعه التوازن الرفيع الذي بنيت عليه الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمناطق الجبلية.