رغم إغراقه في الخيال فإن الواقعية كانت هي الأساس في صناعة المخرج كريستوفر نولان لأعماله، ولعل أفلاما مثل “البدء” و”بين النجوم” -والتي بدت كما لو كانت من عالم آخر- كانت تدفع المشاهد لتصديق أنها تنتمي إلى الواقع بالقدر نفسه من تصديق أنها تنتمي للخيال.
استخدم نولان شريط الصوت بطريقة خاصة جدا في أفلامه للإيهام بالقرب من الواقع، وكان يفضل دائما المواقع الحقيقية للتصوير أكثر من الأستوديوهات، ويعتقد أن ما يمكن تصويره في العالم الحقيقي هو بالتأكيد أفضل.
إليك مجموعة من أشهر أفلام نولان التي صورها في مواقع ومدن واقعية بعيدا عن الأستوديوهات.
شيكاغو
استخدم نولان مدينة شيكاغو كمسقط رأس باتمان في فيلمين هما “بدايات باتمان” عام 2005 وفي فيلم” فارس الليل” عام 2008، وقدم من خلال أفلامه نظرة جديدة على المدينة مبتعدا عن التصوير المظلم المعتاد للمدينة في فيلمي “باتمان” و”عودة باتمان” للمخرج تيم بيرتون.
اختار نولان أن يقدم المدينة كما هي، حيث صورت مشاهد بنك غوثام الوطني داخل مكتب البريد الرئيسي في شيكاغو، وظهر مرآب السيارات في غرب راندولف كموقع لإحدى صفقات المخدرات، وظهر جسر سانت تشارلز الجوي كمخبأ باتمان الخاص الذي يخزن فيه معداته الخاصة.
ظهرت مدينة غوثام بعيون نولان كمدينة أنيقة وحديثة تهددها الفوضى من داخلها وتكافح ضد شرطة غير جديرة بالثقة وفساد واسع النطاق ومهرجين يسرقون البنوك، وكأن نولان أراد تصوير واقع شيكاغو الذي يتماشى مع حكاية مدينة غوثام.
ألبرتا كندا
في ملحمة “بين النجوم” 2014 -الذي فاز بجائزة أوسكار أفضل مؤثرات بصرية عام 2015- تتبع الفيلم فريقا من المستكشفين الذين يسافرون عبر ممر متخيل في الثقوب السوداء للبحث عن مكان جديد مناسب لحياة البشر عام 2067.
صور نولان المشاهد الأرضية في المنطقة المحيطة بكالغاري في ألبرتا بكندا بالقرب من جبال بروكباك، وهي أماكن مناسبة لعالم مهدد بالقتل والمجاعات والفناء، أما مشاهد مركز أبحاث الفضاء فقد صورت في فندق ذا ويستن بونافنتور بمدينة لوس أنجلوس، بالإضافة إلى بعض المشاهد القليلة في أيسلندا وكاليفورنيا.
لم يكتف نولان باختيار أماكن تصوير واقعية، لكنه قرر تحويل طبيعة المكان، ومع بداية وجوده في كندا طلب من فريقه زراعة 500 فدان من الذرة، ومع تصاعد الأحداث تم تدمير الحقل أثناء مشهد العاصفة الترابية.
طنجة وباريس وكيوتو
صرح نولان في واحدة من مقابلاته بأنه لا يحب ارتداء النظارات عند مشاهدة الأفلام، ويحب أن يشاهد صورة مشرقة للغاية، وهو ما تحقق بالفعل في فيلم “البدء”، خاصة أنه صوّر في ثلاثة بلدان لكل منها طابع مميز، أولها اليابان، حيث صوّر المشهد الافتتاحي أمام قلعة نيغو في كيوتو.
في منتصف الفيلم يظهر جسر في باريس، وهو بمثابة المكان الذي اختبرت فيه أريادن قدراتها كمهندسة أحلام، بعد ذلك وأثناء مشهد المطاردة تنتقل الأحداث إلى مومباسا في كينيا، لكن تصوير المشهد بالفعل حدث في مدينة طنجة بالمغرب، حيث يظهر السوق الكبير في طنجة الذي يقع على مضيق جبل طارق ويعتبر حلقة وصل بين أفريقيا وأوروبا.
لم يكن نولان بحاجة إلى مجهود كبير ليحول السوق المغربي إلى موقع كيني، لأن المنتجات المعروضة متأثرة بقوة بالمنسوجات الأفريقية.
نيو مكسيكو ولوس ألاموس
صرحت روث دي يونغ مسؤولة الإنتاج في فيلم أوبنهايمر بأنهم أرادوا موقعا ملحميا يساعد الجمهور على فهم معنى أن يذهب أوبنهايمر وفريقه إلى ذلك المكان المجهول، لذا انطلقوا في البداية في رحلات استكشافية طويلة عبر نيو مكسيكو وكولورادو، للبحث عن مواقع تصوير تشبه الفراغ الشاسع في لوس ألاموس في أربعينيات القرن الماضي واستقروا على مزرعة شاسعة صورت فيها بعض أفلام الويسترن، لكن تكلفة التصوير كانت أكبر من موارد الإنتاج.
وفي النهاية اختار نولان أن يأخذ الجمهور في جولة إلى المواقع التاريخية التي لا تزال قائمة حتى الآن، وقد كانت جولة دقيقة وممتعة من خلال التصوير المذهل، خاصة المشاهد التي دارت في مختبر لوس ألاموس الوطني داخل المنزل الذي عاش فيه أوبنهايمر مع عائلته.
وبالإضافة إلى منزل أوبنهايمر ظهرت في الفيلم كنيسة لوس ألاموس في نيو مكسيكو ومحطة قطار لامي التي كانت تعد المحطة الأولى للموظفين وعائلاتهم في طريقهم إلى مدينة لوس ألاموس السرية، والتي لا تزال مستخدمة حتى الآن.
أراد نولان كعادته أن تكون المواقع أصلية وبعيدة عن الصور والأستوديوهات، فصوّر أيضا في سكن النساء الموجود في لوس ألاموس، والذي كان مسكنا للموظفات المدنيات اللواتي كن يعملن في مشروع مانهاتن، بالإضافة إلى التصوير في المرافق التعليمية التي أجرى فيها أوبنهايمر أبحاثه الفعلية.