من منا لا يريد أن يعدل شيئا أو ربما شيئين في مظهره؟ وربما هذا شيء طبيعي. فهناك من تريد الحصول على بشرة خالية من الحبوب، ومن يريد أن يحصل على جسم رياضي جميل ومتناسق.
ولكن، دعنا نقف هنا ونؤكد أنه رغم كون هذا الأمر طبيعيا في حالات، فإنه يصبح هوسا وأمرا غير طبيعي في أحيان أخرى، وربما يؤثر على حياة الإنسان، ويجعله هذا الهوس غير قادر على متابعة حياته وإدارة واجباته اليومية بشكل جيد بل يلجأ لاعتزال الناس.
“لقد حاولت إيقاف التفكير بالموضوع ولكني لم أستطع”
هذا هو ما قاله كيث، وهو أحد المرضى المشخصين باضطراب تشوه الجسم متحدثا لطبيبته الدكتورة كاثرين فيليبس والمعروفة عالميا بخبرتها في علاج هذا الاضطراب والاضطرابات ذات الصلة، مثل اضطراب الوسواس القهري “أو سي دي” (OCD) لأكثر من 30 عاما.
هذه الحالة التي يطلق عليها اضطراب تشوه الجسم Body Dysmorphic Disorder تتسبب بانهماك المصابين بهذا الاضطراب في عيب واحد أو أكثر من عيب بدني متخيل لديهم أو حتى عيب صغير غير ملاحظ. فكيف نفهم هذا الاضطراب؟ وما علاجه؟
كيف يمكننا فهم هذا الاضطراب؟
يمكننا أن نتخيل أن عقولنا تتكون من عدد كبير من الوحدات، كل وحدة تقوم بوظائف معينة لإتمام عملية التفكير أو الشعور داخلنا. يعني هذا مثلا، أنه حينما نشعر بالخوف فإن هناك وحدة داخل أدمغتنا تقوم بهذه المهمة، وعندما نحاول إعمال ذاكرتنا لتذكر شيء ما فإن هناك وحدة أخرى تقوم بهذا العمل، وهكذا.
فإذا حدث أي مشكلة أو تلف في نظام إحدى تلك الوحدات فبالتالي سوف يكون هناك عطل ما بالنظام. مثل الحالة في بعض الاضطرابات العقلية، كحالة الخرف مثلا، حيث يكون هناك تلف في وحدة الذاكرة. في حين باضطرابات أخرى تحاول وحدات معينة بالدماغ أن تبذل جهدا كبيرا أو حتى أن تقف عن تشغيلها بسبب حمل زائد على الدماغ، وهذا هو الحال في اضطراب تشوه الجسم.
فنظام الدماغ في تلك الحالة يحاول جاهدا حل المشكلة المتمثلة بشعورك تجاه مظهرك، بينما كل حلول العقل لا تأتي بأي تأثير، حتى مع تكرار من حولك تأكيد عدم وجود أي مشكلة بك أو بمظهرك، أو ربما بعد إجراء جراحة تجميلية في اعتقادك أنها سوف تريحك وتزيل هذا الشعور بداخلك ولكنها لم تنجح أيضا في إنهاء معاناتك. لذلك يصبح النظام الدماغي مثقلا ومجهدا بسبب الطريقة التي تحاول بها الهروب من الأفكار والصور والمشاعر السلبية بداخلك أو حتى التحكم في مشاعرك حول ماضيك مسببا هذا الاضطراب.
متى يصبح اضطرابا؟
نتعرض في حياتنا اليومية لأشكال مختلفة من الضغط الذي يعمل على تشوه طبيعتنا ومشاعرنا تجاه أنفسنا، في ظل مجتمع استهلاكي يشيع فيه الترويج لمنتجات الجمال المزيفة لأجل مكاسب اقتصادية، وجرى فيه تسطيح مفاهيمنا حول الجمال ووضع معايير مقننة له. مما أدى بنا نحو الهوس بالشكل والمظاهر.
أصبحت هناك حاجة ملحة للتفريق بين الهوس المرضي والاهتمام الطبيعي. فلو أنك أخذت جولة بسيطة على التطبيقات الاجتماعية بأشكالها سوف تلاحظ أنها امتلأت باستخدام “الفلترز” أو المرشحات التي تغير من شكل الوجه وحتى قد تتلاعب بملامحك الحقيقية. والغريب في ذلك أنك تضع تلك المرشحات وتعلم أنها غير حقيقية، ولكنك تتأملها وتشعر بواقعيتها المزيفة، بل تؤثر فيك، وفي شعورك بالرضا تجاه نفسك ومظهرك.
هذا التسابق في السعي للحصول على قبول الآخرين والمعتمد بشكل أساسي على المظهر فقط، خلق لدى البعض هوسا بالشكل. فهناك المهوس بـ(أنفه وعينيه وشكل ذقنه)، وهناك المهوس باتساق قوامه (هل وزنه مناسب؟ وهل هو رياضي ولديه عضلات قوية جذابة؟).
بالمقابل الاهتمام الطبيعي هو الذي يجعلنا نحسن من شيء ما في أنفسنا لنصل إلى الرضا الذاتي، وهو شيء جيد، لكن الإشكال الأكبر هو في الهوس الذي مهما حاولت فيه إرضاء ذاتك، لا تصل فيه إلى الرضا المطلوب.
وهنا يتضح الفرق، فالحالة المزمنة من هذا الهوس تعرف باضطراب تشوه الجسم، وهو ذلك النوع من الاضطراب الذي ينهمك فيه الفرد في التركيز على عيب أو أكثر في جسمه. وقد يظهر في مرحلة المراهقة وحتى مرحلة الرشد المبكر.
بماذا يشعر هؤلاء؟
هناك علاقة وثيقة بين المصابين بهذا الاضطراب وبين المرايا، فقد يلبثون لساعات كبيرة أمام المرآة يتفحصون عيبا ما لديهم، وفي أحيان أخرى، قد يتجنبون الظهور أمام المرأة لعدم رغبتهم لرؤية هذا الشي القبيح (من وجه نظرهم). وقد يحاولون إخفاء هذا العيب المتخيل لديهم عن طريق وضع كثير من مساحيق التجميل في محاولة لحل مشكلتهم.
دائما ما يتجنب المصابون بهذا الاضطراب الاختلاط مع الآخرين، وهذا لأنهم طوال الوقت يشعرون أن الآخرين ينظرون إليهم وأنهم يتنمرون عليهم بشكل ما رغم عدم صحة ذلك الأمر. ويصرون في كثير من الأحيان على استجلاب الأمان والاستحسان من الآخرين عن طريق سؤالهم عما إذا كانوا قبيحين، أو أنهم يلاحظون عيبا ما فيهم. وعلى الرغم من تأكيد من حولهم أن لا مشكلة لديهم على الإطلاق، فإن هذا الشعور لديهم لا ينجلي أبدا.
قد يخضع هؤلاء الأشخاص لجراحة واحدة أو عدة جراحات تجميلية، ظنا منهم أن هذا هو الحل الأمثل لكي يختفي هذا الشعور المزعج، في حين لا يطفأ هذا الشعور أي من تلك الجراحات بعد فترة من الزمن.
كيفية العلاج؟
يعتمد علاج هذا الاضطراب بشكل أساسي على العلاج المعرفي السلوكي الذي يركز على الإدراك “التفكير” والسلوك لدى المرضى وتغيير أفكارهم حول مظهرهم من خلال التحديد الدقيق لتلك الأفكار وسلوكهم المتبع إزاءه.
وقبل البدء في علاج تلك الحالة يجب التأكد من أنه تم التشخيص للمريض بطريقة صحيحة وأنه مصاب بالفعل باضطراب تشوه الجسم، وعلاج أي مشاكل أخرى قبل البدء بعلاج الاضطراب نفسه.
فمثلا إذا كان المريض يعاني من أحد اضطرابات الأكل الحادة، فمن الضروري علاجها أولا قبل المضي قدما في أي إجراء. يجب الاهتمام بتقييم احتمالات الانتحار لدى المريض ومخاطر السلامة طوال فترة العلاج. فقد يستدعي ذلك إستراتيجيات علاجية أخرى بجانب العلاج المعرفي السلوكي.
عن طريق الجلسات الفردية للعلاج المعرفي السلوكي من قبل اختصاصيين نفسيين، يمكن للفرد إعادة النظر لعيبه بطريقة مختلفة، عن طريق التحدث عما لديه من إيجابيات وتغيير قناعاته السلبية عن ذاته وتحويلها إلى قناعات إيجابية. هذا العلاج يمكنه الرجوع بالمريض إلى مرحلة الطفولة ومعرفة أي مؤثر محتمل لحالته، مثلا: تنمر من الأقران في الصغر أو معايير مثالية لدى المحيطين مع شعور لدى المريض بعدم تمكنه الوصول لنفس تلك المعايير.
تظهر خلال جلسات العلاج مرة تلو الأخرى أفكار تشغل بال المريض دوما، مثل الاعتقاد أن الآخرين دائما يلاحظون مظهره ويركزون عليه، فردا على مشاعر القلق والخجل والاكتئاب يقوم بأفعال معينة لتجنبهم والتهرب من هذا الشعور.
ويمكن أن تساعد الأدوية المضادة للاكتئاب في علاج الحالة في بعض الحالات.
يلي ذلك مواجه أفكار المريض السلبية عن نفسه ومحاولة إيجاد طرق إيجابية بديلة للتفكير حول مظهره. مثلا عن طريق النظر في المرآة مع التركيز على المظهر بشكل كامل. مرة بعد مرة سوف يلاحظ المريض أن لديه عينين جميلتين، ذقنا مميزا، شعرا ناعما.. بمعنى رؤية أي شي إيجابي آخر بدلا عن العيب الذي كان يركز عليه مسبقا.