الصرصور الألماني.. غازٍ كريه استوطن منازلنا فكيف تسلل إليها؟

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 8 دقيقة للقراءة

من بين 4500 نوع من الصراصير، ربما يكون الصرصور الألماني هو المصدر الرئيسي للإزعاج، فهو يخرج من مخبئه ليلا وينطلق عبر المنزل بحثا عن فتات النشويات على الأرض، أو بقعة سكرية لزجة على المنضدة، أو حتى قضمة من معجون الأسنان أو الصابون.

ولم يكن من المعروف كيف تطورت هذه الآفة واستوطنت بيوتنا، ليصبح من النادر جدا رصدها في الطبيعة، وهو اللغز الذي ساهم فريق بحثي دولي في حله، ووصفوا في دراسة نشرت بدورية “بروسينغز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينس”، الدور الذي لعبه البشر بأنفسهم في تطور وانتشار واحدة من أكثر الآفات التي نكرهها.

الصرصور وحرب السنوات السبع

وسُلطت الأضواء على بطل هذا اللغز في أوروبا الشرقية عندما رُصد في متاجر المواد الغذائية العسكرية إبان حرب السنوات السبع (1756-1763)، إذ أطلقت كل من القوات المتعارضة اسم الصرصور على الآخر، فأطلق عليه الروس اسم “الصرصور البروسي”، وأطلق عليه الجنود البريطانيون والبروسيون اسم “الصرصور الروسي”.

وبعد نحو أربع سنوات من انتهاء تلك الحرب، وتحديدا في عام 1767، صنف عالم الأحياء السويدي كارل لينيوس هذا النوع، وأعطاه اسما علميا هو “بلاتا جيرمانيكا”، وتعني كلمة “بلاتا” باللاتينية “يتجنب الضوء”، وهي واحدة من سمات هذا الصرصور الليلي، وتشير “جرمانيكا” إلى مكان جمع العينات التي فحصها لينيوس من ألمانيا، ثم غُيّر الجنس لاحقا إلى “بلاتيلا”، لتجميع الأصناف الأصغر من الصراصير معا.

وكانت سيطرة هذا الصرصور الألماني وانتشاره عالميا محيرة للعلماء الذين اكتشفوا في الدراسة الجديدة أنواعا ذات صلة في آسيا، واقترحوا أن الصرصور الألماني يمكن أن يكون قد تطور في آسيا قبل أن يواصل السيطرة على العالم.

عينات من 17 دولة

وفي الدراسة، أخذ الباحثون عينات من الحمض النووي لـ281 صرصورا في 17 دولة حول العالم، ثم قارنوا تسلسل الحمض النووي لمنطقة جينية معينة تسمى “سي أو1″، أو ما تعرف باسم “التشفير الشريطي للحمض النووي”.

ووجد الباحثون تقاربا بين الصرصور الألماني وأنواعا مماثلة من آسيا، وكان تسلسل الصرصور الألماني مطابقا تقريبا لتسلسل نوع يسمى “بلاتيلا أساهيناي” من خليج البنغال.

وكان أكثر من 80% من عينات الصراصير الألمانية متطابقة تماما مع هذا النوع، أما الـ20% المتبقية فلم تختلف كثيرا، وحددوا أن النوعين انفصلا عن بعضهما البعض منذ 2100 عام فقط، وهو ما يمثل طَرفة عين من الناحية التطورية.

عينات من متحف هارفارد لعلم الحيوان للصرصور الألماني (إلى اليمين) والآسيوي (إلى اليسار)  (أسوشيتد برس)

من خليج البنغال إلى العالم

ويقول الأستاذ بقسم العلوم البيولوجية بجامعة سنغافورة الوطنية والباحث الرئيسي بالدراسة تشيان تانغ، في حديث عبر البريد الإلكتروني للجزيرة نت: “نعتقد أن بلاتيلا أساهيناي الآسيوي -وهو أصل الصرصور الألماني- تكيّف على العيش جنبا إلى جنب مع البشر بعد أن أزال المزارعون بيئتهه الطبيعية، لذلك انتقل من الحقول الهندية إلى المباني، وأصبح يعتمد على البشر”.

ويضيف: “لم يكن الاستيطان مع البشر خيارا مفضلا لأسلاف الصراصير الألمانية من الصراصير الآسيوية، لكن البشر عندما غزوا بيئاتها الطبيعية، وربما تسبب ذلك بموت 90% منها، فإن الـ10% المتبقية نجت وقبلت الطعام الذي أدخله الإنسان”.

لكن كيف انتشرت في جميع أنحاء العالم؟

للإجابة على هذا السؤال، حلل تانغ ورفاقه مجموعة أخرى من تسلسلات الحمض النووي من جينوم الصرصور، وهذه المرة درسوا تسلسلات الحمض النووي المعروفة باسم “إس إن بي إس” أو “تعدد أشكال النوكليوتيدات المفردة”.

وباستخدام العينات التي جُمعت من 17 دولة عبر القارات الست، تمكنوا من معرفة كيفية انتشار الصرصور الألماني من أراضيه الأصلية وحول العالم، حيث انطلقت موجة الهجرة الأولى من خليج البنغال منذ نحو 1200 عام واتجهت غربا، ومن المحتمل أن الصراصير رافقت التجار وجيوش الخلافة الأموية والعباسية الإسلامية المتوسعة.

وتحركت الموجة التالية شرقا منذ نحو 390 عاما إلى إندونيسيا، ومن المحتمل أنها سافرت مع شركات تجارية أوروبية مثل شركة الهند الشرقية البريطانية أو شركة الهند الشرقية الهولندية، وعملت هذه الشركات عبر جنوب شرق آسيا قبل أن تعود إلى أوروبا منذ بداية القرن السابع عشر.

ويوضح البحث أن الصراصير الألمانية وصلت أوروبا منذ نحو 270 عاما، وهو ما يطابق السجلات التاريخية من حرب السنوات السبع. ثم انتشر الصرصور الألماني من أوروبا إلى بقية أنحاء العالم منذ نحو 120 عاما، ويتوافق هذا التوسع العالمي مع السجلات التاريخية لهذا النوع الجديد في مختلف البلدان.

عالم أحياء يعرض أمثلة على الصراصير الأمريكية والألمانية في مختبر بمونهايم بألمانيا (أسوشيتد برس)

التجارة العالمية والانتشار الواسع

ويعتقد تانغ أن التجارة العالمية سهّلت هذا الانتشار، لأن السكان الأكثر ارتباطا يوجدون في البلدان التي تتمتع بروابط ثقافية بدلا من البلدان القريبة من بعضها البعض، وتمشيا مع ذلك وجدوا توسعا آخر في آسيا  شمالا، وشرقا إلى الصين وكوريا، منذ نحو 170 عاما.

وعندما حلت السفن البخارية محل السفن الشراعية، نُقل المسافرون بسرعة أكبر، وكانت أوقات الرحلة الأقصر تعني أنه من المرجح أن يصلوا أحياء ويغزوا بلدانا جديدة.

ثم أدت التحسينات في الإسكان، مثل السباكة والتدفئة الداخلية، إلى خلق ظروف مواتية للبقاء والازدهار في المباني في جميع أنحاء العالم، كما يكشف تانغ. ويقول: “تُعتبر المنازل البشرية أماكن رائعة لعيش الحيوانات الصغيرة مثل الصرصور إذا تمكنت من النجاة من سحقها، إذ يوفر البشر الطعام والماء بشكل مدروس في نفس الموقع، مما يعني جهدا ووقتا أقل في البحث عن الطعام والشراب، وهذا نتيجته وقت أطول في الأكل والتكاثر”.

الأستاذ بكلية العلوم البيولوجية بجامعة غرب أستراليا، والباحث الرئيسي المشارك بالدراسة ثيودور إيفانز (ثيودور إيفانز)

سباق التسلح بين الإنسان والصرصور

وبطبيعة الحال فإن الناس لا يحبون الصراصير، وبالتالي فإن بقاءها يعتمد على قدرتها على الاختباء.

ويقول الأستاذ بكلية العلوم البيولوجية بجامعة غرب أستراليا والباحث الرئيسي المشارك بالدراسة ثيودور إيفانز، في حديث هاتفي مع الجزيرة نت: “تطوَّر الصرصور الألماني ليصبح ليلياً كما يوحي اسمه، ويتجنب الأماكن المفتوحة، وتوقف عن الطيران، لكن احتفظ بجناحيه”.

وتشتهر هذه الصراصير بقدرتها على التطور السريع لمقاومة العديد من المبيدات الحشرية المستخدمة في الرش السطحي، ويمكن أن تظهر المقاومة في غضون بضع سنين.

ويوضح إيفانز أنه “بينما يجري العمل على تطوير إستراتيجيات جديدة للسيطرة على الصراصير الألمانية، فإن هناك حاجة إلى النظر في كيفية تطورها لتجنب الهجوم، وإذا حدث الفهم لكيفية إظهارها المقاومة، فيمكن حينها إيجاد طرق أفضل للهجوم المضاد، ويمكننا تحديد نقاط الضعف لاستغلالها”.

ويضيف: “الآن بعد أن عرفنا شجرة العائلة للأنواع، يمكننا الوصول إلى الجينات الطبيعية لهذا النوع ومعرفة آلية التطور في مقاومة المبيدات الحشرية”.

ولن يكون هذا الفهم هو نهاية المطاف، لأن الصرصور الألماني مثله مثل أي كائن حي سيستمر في التطور والتكيف للبقاء على قيد الحياة، وبالتالي فإن سباق التسلح بيننا وبينه سيستمر لسنوات قادمة.

لذلك فإن إيفانز يؤكد أن دراستهم للصرصور الألماني مستمرة، ويقول: “بالنظر إلى أنه طوّر العديد من الميزات الجديدة في التكيف مع البيئة البشرية في وقت قصير، فإننا مهتمون بالتحقيق في بيئة وتطور جنس الصرصور لمعرفة الميزات الجديدة وأيها تحسن من السمات القديمة، وهذا يساعدنا على فهم تطور الميزات التكيفية بشكل أفضل في العالم السريع التغير”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *