يبدأ من هذا الوادي تاريخ الأرض، إذ تحوي موجات رماله الهادرة حقبة ما قبل البشر وما قبل التاريخ؛ من وعورة أعماق المحيطات إلى وعورة تضاريس الصحراء، إلى نحو 40 مليون عام، حيث تبدأ نشأته وحكايته. فقد ترك التاريخ البعيد فيه بصمته، وما زال للتاريخ الحديث ما يُسجّله.
في كل تفاصيله حياة ممتلئة بالقصص التي هي أقرب للأسطورة منها للحقيقة. فهو مليء بالحفريات التي لا تقدر بثمن لآلاف الحيوانات والنباتات المتحجرة. وهو محطة للطيور المهاجرة والحيوانات المهددة والنباتات البرية.
إنه “وادي الحيتان” الذي يشكل جزءا من محمية وادي الريان بمحافظة الفيوم، وتعد واحدة من أهم الواحات الموجودة في الصحراء الغربية على بعد حوالي 100 كيلومتر جنوب غرب العاصمة المصرية القاهرة. وقد خصصت سلسلة “دهاليز” التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية حلقة لهذا الوادي.
عظام ديناصورات العصر القديم.. بداية القصة
يستمد الموقع أهميته لكونه متحفا جيولوجيا مفتوحا يفتح المجال أمام العلماء الذين يسعون إلى فك لغز المراحل التي مرت بها الأرض والحقب الزمنية للعصور الجيولوجية التي كوّنت تضاريس الأرض.
وتبدأ قصة وادي الحيتان منذ زمن قديم جدا، لكن معرفتنا به بدأت في عام 1902 حين عثر العالم الإنجليزي “بيد تل” على حفريات وعظام أثناء زيارته للفيوم، وأخذ نماذج منها وعاد بها إلى إنجلترا، لتصنف خطأ على أنها آثار ديناصورات.
وبحلول عام 1989، أعلن قائد فريق البعثة الأمريكية المصرية “فيليب جنغرتش” عن أن تلك العظام المكتشفة هي عظام لحيتان وليست عظام ديناصورات العصر القديم.
حيتان الصحراء.. كائنات بحرية تمشي على أقدام
يقول أستاذ علوم الحفريات والجيولوجيا محمد سامح إن أول بحث علمي قام به “فيليب جنغرتش” كان عن آثار الحيتان الموجودة في باكستان، فقد شكّل وجود أقدام للحوت مفاجأة للباحثين، فاختلفوا في معرفة إن كان حوتا أم كائنا آخر كان يعيش على اليابسة، فوجد العلماء أنفسهم يتساءلون إذا كانت تلك الحيتان تمشي على أرجلها، فهذا يعني أنها كانت تمشي على اليابسة ولا تعيش في المياه بشكل كبير، فأين همزة الوصل بين تلك الحيتان وما نعرفه اليوم من حيتان؟
قدّم وادي الحيتان همزة وصل جاءت عبر اكتشاف أول عيّنات لهيكل حوت له أرجل وأقدام صغيرة، إذ أرشد الاكتشاف العلماء إلى فك لغز تطور دورة هياكل الحيتان؛ من حيتان تمشي على أقدام، إلى شكل الحيتان المعروف لدينا الآن.
وقد أحصى العلماء إلى حد هذه اللحظة نحو 1400 موقع جيولوجي تضم حيتانا وأسماك قرش وسلاحف وتماسيح، كشفت النقاب عن التغيرات التي حدثت للحياة البحرية للحيتان، من بينها 13 موقعا فقط يفتح أبوابه للزيارة، وتوجد في المنطقة 406 هياكل منها 205 هياكل عظمية كاملة ترجع إلى 40 مليون سنة، بالإضافة إلى وجود بقايا أسنان القروش وبقايا عظام التماسيح والسلاحف المائية والأسماك والحيتان، ومن أشهرها حوت “الدورديون إنزوكس”.
وادي الحيتان.. منخفض عميق نجا من رمال الصحراء
وادي الحيتان عبارة عن منخفض عميق كان مغطى بمياه “البحر التيثي” قبل أن ينحسر، مكونا ما يعرف حاليا بالبحر الأبيض المتوسط، وقد تحجرت كائناته منذ العصر الإيوسيني أي قبل ما بين 40-56 مليون سنة.
وهناك دلائل تؤكد أن الوادي كان مكانا ضحلا ذا تيارات مائية هادئة، ومن الدلائل وجود الأصداف التي لا توجد إلا على الشواطئ أو الأماكن التي تخلو من التيارات العنيفة للمياه. كما تشير الحفريات إلى وجود قواقع وأشجار مانغروف وفّرت غذاء لمعظم الكائنات البحرية الموجودة آنذاك.
وقد غطت رمال الصحراء الغربية في مصر هياكل الكائنات البحرية على مر السنين، لكن وادي الحيتان يتميّز بقلة تأثره ببحر الرمال الذي يغطي أغلب مناطق هذه الصحراء.
وبمرور الوقت، عبرت من وادي الحيتان عصور تحوي تقسيمات زمنية كبيرة تُقاس بملايين السنين، كان أبرزها عصر الأيوسين الذي امتاز بظهور أول الثدييات الحديثة، وميلاد كائنات حية مغايرة عن أزمنة سابقة ولاحقة.
بقايا طعام وآثار اعتداء.. آخر اللحظات في حياة الحيتان
يقول أستاذ علوم الحفريات والجيولوجيا د. محمد سامح إلى وجود نظريات عدة لأسباب وفاة الحيتان في هذا الوادي؛ أولها انتحار الحيتان على الساحل، وهي نظرية دُحضت، لأن هناك نحو 1032 موقعا حفريا على مساحة 200 كيلومتر تضم آثار حيتان.
أما النظرية الثانية فتتحدث عن جفاف المياه بشكل مفاجئ، وقد دُحضت أيضا، لأنه إذا حدث ذلك فالنتيجة أن تموت الكائنات البحرية في مكان واحد، وأن يكون هناك تداخل بين هذه الكائنات. لكن د. سامح يقول إن معظم هياكل الحيتان الصغيرة عثر فيها على إصابات، مما يُوحي بتعرضها للافتراس.
يتحدث أستاذ الجيولوجيا أحمد الكمار عن عدة حقائق، منها وجود بقايا الطعام في بطون بعض الحيتان التي عُثر عليها، مما يعني أنها ماتت في مكانها ولم تتدحرج بعد ذلك مثلا، كما أن هياكل هذه الكائنات الميتة ليست مستقيمة، مما يعني أنها كانت تحاول الهرب من مفترس، إضافة إلى وجود رواسب تبلغ نحو مترين أعلى من هذه الكائنات الميتة، وتضم هذه الرواسب حفريات لديدان يبدو أنها حفرت من أجل الوصول لجثث الحيتان الميتة لتتغذى عليها.
ويخلص الأستاذ أحمد الكمار إلى أن التفسير المنطقي الأقرب للواقع لما حدث لتلك الحيتان هو التغير المناخي، بعد أن تطورت هذه الأحياء من كائنات قارية وتأقلمت مع الحياة البحرية، حتى تحولت أرجلها إلى زعانف.
وتتنوع الحياة البرية والنباتية الموجودة الآن في وادي الحيتان، وتضم الثعالب والذئاب البرية والطيور المقيمة والمهاجرة، لكن بعض الحيوانات انقرضت، وعلى رأسها الغزال المصري.
قائمة التراث العالمي.. متحف مفتوح في الهواء الطلق
في عام 2005، اعتمدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو” محمية وادي الحيتان في محافظة الفيوم المصرية ضمن قائمة التراث العالمي، بعد زيارة قامت بها إثر اكتشاف حفريات لحوت يبلغ وزنه أكثر من 7 أطنان، وطوله نحو 18 مترا.
ويقول محمود القيسوني مستشار وزير السياحة والبيئة إن محمية وادي الحيتان افتُتحت رسميا في عام 2007، وهي أشبه بالمتحف المفتوح.
وتُغطي الحفريات المكتشفة في الوادي مساحة 8 كيلومترات، وما زالت الاكتشافات تتواصل بالتعاون بين فريق مصري وآخر أجنبي، ويُتوقع أن تنضم نحو 5 كيلومترات إلى محمية الوادي.
وبينما يعطي وادي الحيتان صورة واضحة المعالم عن طبيعة هذه المنطقة في مصر، وهل كانت صلبة أم سهلا أم دلتا أم واديا، ويعطي صورة عن المناخ القديم، يبقى السؤال: هل هناك خلجان أخرى غيّرتها عوامل الطبيعة ولم تكتشف كخليج وادي الحيتان؟