لم تعد الفكرة الفلسفية عن الجامعة الموروثة عن الفيلسوف كانط ومدرسة “المثالية الألمانية” -خصوصا هومبولت- كافية للتفكير في التحديات التي تواجهها هذه المؤسسة اليوم، والمرتبطة بالنظام النيوليبرالي، بل أكثر من ذلك إن أي تفكير في الجامعة انطلاقا من ذلك المثال الكلاسيكي للتكوين لا يدرك هذه التحديات ولا التحولات التي يمر منها العالم، وقد يؤيد الوضع القائم الذي يمثله “التكوين الزائف” كما يرى ذلك الفيلسوف ثيودور أدورنو.
إن رطانة النقاء والحقيقة التي ميزت فكرة الجامعة -من إيمانويل كانط إلى جاك دريدا- قد تحولت إلى عقبة للتفكير في هذه المؤسسة ومآلاتها، علاوة على أنها لم تفهم الجامعة باعتبارها مؤسسة اجتماعية تقوم على إعادة إنتاج الواقع الاجتماعي بتراتبياته السائدة.
وهذا سبب آخر يجعل النقد السوسيولوجي للعقل الفلسفي ضروريا لفهم الجامعة ودورها الاجتماعي وتوضيح حدود الخطاب الفلسفي.
إن مؤسسة الجامعة تعيش تحولات جذرية في العقود الأخيرة، ولا يمكن للفكرة الفلسفية عن الجامعة كما تتردد في الفلسفة الحديثة أن تسعفنا في فهم هذه التحولات التي تعيشها، بل ستحجب عنا رؤية الواقع ومعه واقع هذه المؤسسة.
وهنا لا بأس أن نذكّر بما قاله أدورنو “(..) يتوجب على التربية أن تحول نفسها إلى سوسيولوجيا، أي يجب أن تعلمنا عن لعبة القوى الاجتماعية التي تعمل تحت سطح الأشكال السياسية”.
“صراع الكليات”
إن مشكل الجامعة اليوم -والذي يعبر عن نفسه في أكثر من صورة، آخرها في ذلك الصراع الكلاسيكي، والذي سبق لكانط أن عبر عنه في “صراع الكليات” بين كوسموبوليتية العقل ومصالح الحكومات- كما يظهر اليوم في احتجاجات الطلبة الغربيين ضد موقف حكوماتهم من الحرب على غزة لا يعكس أزمة العلم وتبعيته للسوق والشركات الكبرى والمجموعات الصناعية فحسب، بل يعكس أيضا أزمة المجتمع النيوليبرالي بأسره.
هذا هو بالضبط ما نتعلمه من أحدث المنشورات عن الجامعة، إن نبرة ليوتار الجنائزية في بداية كتابه “الوضع ما بعد الحداثي” ليست سوى لمحة مسبقة عن المآل الذي ستنتهي إليه الجامعة، وهي نبرة سنلتقيها لاحقا عند الفيلسوف الألماني راينهارد براندت الذي سينتقد في كتابه “لماذا نحتاج بعد إلى جامعات؟” (2011) عملية تحويل الجامعات إلى كليات تقنية، وهو ما حذر منه ليوتار.
أجل، إن المرثيات التي كتبها الفلاسفة حول الجامعة لا تسهم كثيرا في فهم موضوعنا اليوم وإدراك أبعاده المختلفة، السياسية والاقتصادية والثقافية، لكن عمل براندت يتميز في الآن نفسه بنفسه التاريخي وروحه النقدية.
لكن خلف هذا العمل يقف كتاب آخر يمثل النص التأسيسي لولادة الجامعة الحديثة، ويقوم بالنسبة للتفكير الحديث في الجامعة مقام “معطف غوغول” بالنسبة للرواية الروسية، وأعني “صراع الكليات” لإيمانويل كانط، والذي يصفه براندت بأنه استمرار للخطة النقدية لكتاب “نقد العقل المحض” ومنعطفه الكوبرنيكي، بشكل يصبح فيه العقل هو المشرع الوحيد للأزمنة الحديثة.
إن هذه الفلسفة الكانطية الجديدة -التي أعادت تعريف الطبيعة والحرية- ستحدد أيضا طبيعة الجامعة البروسية، ولكن هذه الفكرة الجديدة للجامعة التي سعت إلى التحرر من “الماضي المغلق” كما سماها براندت تواجه اليوم مستقبلا مغلقا أو أيديولوجية مستقبلية مغلقة دفنت منذ زمن بعيد المثال الهمبولتي لحرية التعليم والبحث، وهي تربط مصير الجامعة بمصير السوق النيوليبرالي ولوبياته.
الفلسفة في الجامعة
وعلى الرغم من الموقع المركزي للفلسفة داخل الجامعة الحديثة فإن علاقة الفلاسفة كانت دائما إشكالية بهذه المؤسسة، على الأقل منذ شوبنهاور الذي اعتبر في أطروحته “في الفلسفة الجامعية” (1851) أن النظام الجامعي الفلسفي ضار.
ومن الأمثلة الحديثة على ذلك الفلسفة الفرنسية في الستينيات، حيث انتقد مثقفون مثل بورديو وفوكو ودولوز ودريدا “الجامعة القمعية والمحافظة” ودعوا إلى “تمرد المعرفة”، ومع ذلك فإن هؤلاء المثقفين هم تحديدا الذين دافعوا عن الجامعات ضد التأثيرات الخارجية منذ أواخر السبعينيات، وتحديدا ضد الصحافة التي سعت ولا تزال تسعى إلى تحديد “إنتاج وتداول الأعمال الجامعية”.
ووفقا لدي لاغازانري في كتابه “إمبراطورية الجامعة” (2007) -والذي يؤرخ للتفكير الفلسفي في الجامعة خلال النصف الثاني من القرن الـ20 في فرنسا- كان جيل دولوز أول من وقف ضد الصحافة والفلاسفة الصحفيين أو الفلاسفة الجدد.
وفي لغة دولوز نحن نشهد “تدجينا للمثقف”، وفي مناسبة أخرى سيكتب في الموضوع نفسه “نحن في حاجة إلى تحليل سوسيولوجي لما يحدث في مجال الصحافة وما يعنيه ذلك من الناحية السياسية، ربما يمكن لشخص مثل بورديو أن يقوم بهذا التحليل”.
جاك دريدا أيضا سيصف دور وسائل الإعلام في مجال الثقافة بأنه “تهديد خطير، ليس فقط لمن يكتب ويعرف أنه مهدد من قبلها، بل للفضاء الأدبي برمته، للفضاء الاجتماعي للثقافة بشكل عام”.
وفي مقابلات مختلفة بين عامي 1980 و1984 يصف فوكو عالم الصحافة في فرنسا بأنه عالم ينسى “وظيفة العمل النقدي”، وعلى غرار جيل دولوز ينوي ميشيل فوكو الدفاع عن “الناس الذين يعملون” ضد الدجالين، وعن الجامعة ضد الصحافة والاستهلاك الجماهيري”.
وفي تقديمه للسلسلة العلمية “الأعمال” التي ستنشرها دار “سوي” سيتحدث فوكو بشكل نقدي عن صناعة النشر الفرنسية التي -في رأيه- “لا تعكس حاليا بشكل كافٍ العمل الذي يمكن القيام به في الجامعات وفي مراكز البحث المختلفة، كما أنها لا تعكس ما يتم القيام به في الإطار نفسه بالخارج”.
من جانبه، ينتقد بورديو مرارا وتكرارا السيطرة المتزايدة للصحافة على الحياة الفكرية في فرنسا بوصفها صيرورة فهم زائفة.
وفي لهجة ساخرة يصف بورديو هذا الزيف في كتاب “الإنسان الأكاديمي” بـ”سوء الفهم”، أي “الخلط بين شيء وآخر، بين كاتب مقالات تلغرافية ومرشح لخلافة مؤلف كتابي “الكينونة والعدم” و”نقد العقل الجدلي”.
لم يتوقف بورديو مثل فوكو عن الدفاع عن استقلالية البحث الجامعي في مواجهة منطق السوق، وقد عبر عن ذلك في أكثر من كتاب ومقال كما في “قواعد الفن”، حيث سيندهش لاختفاء الحدود اليوم بين “العمل البحثي” و”الكتاب الأكثر مبيعا”، ويشكل “اختفاء الحدود” هذا تهديدا كبيرا لاستقلالية الإنتاج الثقافي، وفقا لبورديو.
ففي كتابه “في التلفزيون” سيحث المثقفين على الاحتشاد ضد “القوى والتلاعبات الصحفية”، ولكن في حين أن بورديو ودولوز ودريدا وفوكو يرون أن الصحافة هي المشكلة التي تواجهها الجامعات يرى دي لاغازنري أن المشكلة قد تغيرت اليوم.
ومع ذلك، من الأهمية عدم التقليل من هيمنة نوع معين من الصحافة على القطاع الثقافي إذا ما أردنا فهم صناعة الثقافة النيوليبرالية اليوم، فعلى سبيل المثال تنتج الصحافة وليس الأبحاث الجامعية المعمقة “حقيقة” الإسلام في السياق الأوروبي اليوم والصورة النمطية عن العرب والمسلمين.
استقلال ذاتي
إن مؤسسة الجامعة -والتي تساوق ظهورها مع بروز فكرة “الأتونوميا” أو الاستقلال الذاتي في السياق الغربي- تعيش اليوم أزمة كبيرة، وهي أزمة تعبّر عن طلاق واضح بين المؤسسة والأسس التي قامت عليها ولأجلها، وهي جزء من أزمة أكبر تضرب النظام الديمقراطي ككل في زمنه النيوليبرالي.
لكن رُبّ سائل يسأل: ما نصيبنا -في السياق العربي- من هذه الأزمة؟ لا بد من التأكيد أولا أنه من الصعب الحديث عن مؤسسة للجامعة في السياق العربي، لأن ظهورها لم يرتبط بمبدأ الاستقلال الذاتي وكل المبادئ التي سيدافع عنها التنوير، دون أن يعني ذلك أن نبخس هذه الجامعة دورها، على الأقل في ربطنا ببعض منجزات الحداثة العلمية أو شحدها للوعي بضرورة الارتباط بهذه المنجزات، ولا يتوجب ربط مشكلة الجامعة في سياق عربي فقط بتدخل الدولة، فقد يكون هذا التدخل ضرورة يفرضها منطق العصر وتفرضها التحولات الاجتماعية والمعرفية، ولكن المشكلة قد تكمن مثلا في انتشار ثقافة طائفية داخل الجامعة قد تتشدق بالعلمانية والحرية في هجومها على التقليد، ولكنها في الواقع تظل أكبر ظهير للاستبداد وأوضح تعبير عما تفعله السياسويات الضيقة والنزعات البدائية بالثقافات والمؤسسات الوطنية.
لم تعد الطائفية مجرد نظام سياسي للمحاصصة، بل تحولت في سياقنا العربي إلى طبيعة ثانية للإنسان العربي، وبعد أن دمرت الأوطان لا تتورع عن تدمير الإنسان أو ما تبقى منه.
ومن هنا ضرورة أن يحظى درس الأخلاق في الجامعة وقبلها في المدرسة بمكانة محورية، كما يتوجب أقلمة المعرفة الغربية مع ضرورات سياقنا العربي، وتجاوز مخاطر التبيعية والتقليدانية في آن.
سيذكر أدورنو في نظريته عن “التكوين الزائف” قصة ذلك الطالب الذي أخبروه في أميركا أن الجامعة هي “مكان للبحث وليس للتفكير”، وذلك حتى يحرموا الجامعة ويحرموه من حقه في ممارسة النقد أو من حقه في حريته، وليوجهوا البحث العلمي بشكل يخدم الأجندات الأيديولوجية السائدة.
إن علينا أن نحذر من تغلغل هذا المنطق الاستهلاكوي، والذي تتمثل إحدى تمظهراته أيضا في الحط من اللغة العربية والإبداعات العربية على الرغم من أن الكثير مما يدبجه الباحثون العرب باللغات الأجنبية -خصوصا الإنجليزية- لا يتجاوز مستوى تقارير أجهزة المخابرات.
ويكفي أن نقارن هنا بين مسارين لمفكرين عربيين، أحدهما هو محمد عابد الجابري، ارتبط بأسئلة مجتمعه، وعاش الفكر باعتباره التزاما معرفيا وسياسيا بهذه الأسئلة، فأخطأ وأصاب، ولكنه ظل في الخطأ والصواب مرتبطا بمصير مجتمعه، والآخر هو بسام طيبي الذي لا يقل موهبة وذكاء عن الجابري في شيء، ولكنه سيرتبط بأسئلة الاستشراق الغربي المزيَّفة والمزيِّفة وسيقدم لنا في النهاية كتبا سيلفظها الاستشراق نفسه.
كما أن المراقب لوضع الجامعة في سياق عربي سيلحظ غيابا للتقاليد الفكرية وللعبة مرنة بين الأجيال داخل هذه المؤسسة، ولا يرتبط الأمر فقط بالبنى السلطوية للمجتمع، ولكن أيضا بالأنانيات الصغيرة والمتخلفة، والتي قد تحرم جيلا بأكمله من حقه في الإبداع والمعرفة.
لكل تلك الأسباب ولأسباب أخرى، لا غرو تبقى مؤسسة الجامعة في سياق عربي ما يجب أن ننجزه، وليس ما أنجزناه.