بعد تولي إدارة بوش الابن للحكم عام 2000، وسيطرة المحافظين الجدد على سياستها الخارجية، وجّه وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد في 27 يوليو/تموز 2001 مذكرة إلى مستشارة الأمن القومي كوندليزا رايس، يشير فيها إلى أن الإطاحة بنظام صدام حسين ستحسن من وضع الولايات المتحدة في المنطقة.
وبحسب ريتشارد كلارك، منسق الإدارة الأميركية لمكافحة الإرهاب في كتابه “ضد كل الأعداء”، فقد دارت مناقشات في واشنطن حول عدة مبررات لغزو العراق، من أبرزها: تحسين موقف إسرائيل الإستراتيجي من خلال القضاء على جيش كبير معاد لها، وإيجاد مصدر آخر للنفط صديق للسوق الأميركي، وتقليل الاعتماد على النفط السعودي.
وعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، روجت إدارة بوش لأكذوبة حيازة العراق أسلحة دمار شامل، ووجود علاقة بين نظام صدام حسين وتنظيم القاعدة، فغزت العراق مروجة رؤية مفادها أن “الغالبية الشيعية في العراق تتطلع إلى نهاية سيطرة السنة على الحكم”، وفق نص إفادة جورج تينيت مدير وكالة المخابرات المركزية أمام لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ.
لهذا، لم يشهد العراق استقرارا طوال القرن الأخير، بل مرّ بتقلبات عدّة طالت مكوناته الديموغرافية، وفي القلب منهم العرب السنة.
“اختراع العراق”
يعود العراق في صورته الحديثة إلى إعلان لندن عام 1921، بعد أن خاضت القوات البريطانية في الحرب العالمية الأولى قتالا ضاريا ضد العثمانيين على أراضي العراق، انتهى بتغلغلها وضم ثلاث ولايات عثمانية عام 1918 هي الموصل وبغداد والبصرة، وجعلِها مقاطعة تابعة للهند البريطانية.
بحسب توبي دودج في كتابه “اختراع العراق”، فإنّ البلد الوليد قد اقتصر -وفق اتفاق سايكس بيكو– على ولايتي بغداد والبصرة، لكن الدبلوماسية البريطانية جيرترود بيل أصرت على ضم الموصل إليه بهدف تحقيق توازن طائفي يتيح منح حكم العراق لسياسيين من السنّة العرب، لتجنب أن يصبح دولة دينية بقيادة المراجع الشيعية في النجف. وذلك رغم أن ولاية الموصل، كانت أكثر ارتباطا بحلب في شمال سوريا وجنوب غرب تركيا من ارتباطها ببغداد، التي ظلت لقرون حاضرة الخلافة العباسية، ثم بؤرة تنافس صفوي عثماني، أما البصرة فارتبطت تجاريا بالخليج والهند.
وقد حكم البريطانيون العراق حتى عام 1932 عبر انتداب من عصبة الأمم، وشبكة من المستشارين في المؤسسات الحكومية، وسعوا لتأمين خطوط مواصلاتهم مع الهند، وتأمين إمدادات البحرية البريطانية من نفط فارس وجنوب العراق. وأسسوا أثناء الانتداب حكما ملكيا، اعتمد على العديد من الضباط السنة، ممن حاربوا العثمانيين في الثورة العربية في الحجاز، وقاتلوا رفقة فيصل بن الحسين، مثل نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي، فضلا عن النخب السياسية التقليدية التي غلب عليها وصف الإقطاعيين واتسمت بنيل حظ وافر من التعليم في العهد العثماني.
استمر الحكم الملكي الهاشمي بين عامي 1921 و1958، ثم سقط بانقلاب عبد الكريم قاسم، لتدخل البلاد في دورة من الانقلابات المتكررة انتهت بسيطرة حزب البعث على السلطة.
وتخللت حقبة حكم البعث حرب دامية مع إيران (1980-1988)، وغزو الكويت وما تلاه من حرب التحالف الدولي عام 1991، ثم حقبة الحصار التي انتهت بغزو أميركي ضمن تحالف من عدة دول اجتاح بغداد عام 2003، وأطاح بحكم صدام حسين، ليعيد تشكيل كافة مؤسسات الدولة وفق نظام محاصّة طائفية اعتمد بدرجة كبيرة على معارضة المنفى التي عادت رفقة الدبابات الأميركية.
انعكست تلك التطورات على بنية المجتمع العراقي وهويته، فبعد أن كان السنّة والشيعة يتزوج بعضهم بعضًا، أدى توزيع السلطة في حقبة ما بعد الاحتلال الأميركي عبر خطوط عرقية طائفية إلى تعميق الانقسام المجتمعي، وأدى إلى حدوث موجات من الاقتتال السني الشيعي، تخللها ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على مساحة شاسعة من البلاد عام 2014؛ مما أدى إلى حرب دامية أخذت بعدا طائفيا لطرده من مناطق نفوذه.
حقبة حزب البعث
اتسم حكم حزب البعث بالدكتاتورية، لكنه اعتبر الولاء معيارا لمنح المناصب والامتيازات دون النظر إلى الهوية الطائفية. ولذا وُجدت ضمن قيادات الحزب والوزراء كوادر شيعية، وعندما احتلت القوات الأميركية العراق ونشرت قائمة مطلوبين تضم 55 من قيادات نظام صدام حسين، كان من بينهم أكثر من ثلاثين شيعيا.
ولكن في ظل قلق صدام حسين من ظاهرة الانقلابات، عمل على بناء شبكة من الأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية لضمان أمن النظام، مثل: الحرس الجمهوري والأمن الخاص، واعتمد في قيادتها على ضباط من مدينته تكريت، ومن عشيرته البيكات.
لاحقًا، اندلعت الحرب مع إيران، وقد واكبها قتال عناصر “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” في صفوف القوات الإيرانية، وتجنيدهم للأسرى العراقيين الشيعة للقتال في صفوفهم تحت اسم “التوابين”، ليزيد ذلك مخاوف النظام من توظيف طهران للعامل الشيعي في إحداث قلاقل داخل العراق.
وعلى إثر الانتفاضة التي شهدها جنوب العراق عام 1991 خلال انسحاب الجيش العراقي من الكويت، تزايدت هذه الهواجس لدى صدام. ورغم أن محمد حمزة الزبيدي، القائد العسكري لمنطقة الفرات الأوسط الذي قمع الاحتجاجات، كان شيعيا، فإن القمع صُوّر على أنّه ضد انتفاضة شيعية من قبل نظام يقوده رئيس سني.
وقد تزامنت انتفاضة الجنوب مع انتفاضة الأكراد في شمال العراق، مما رسخ تصوير الغرب للنظام العراقي على أنه نظام يعتمد على قاعدة سنية عربية في مواجهة الشيعة والأكراد، رغم أن قمع النظام طال السنة العرب المعارضين له، مثلما طال غيرهم من معارضيه.
بريمر وتفكيك الدولة العراقية
بدأت الولايات المتحدة حربها على العراق في مارس/آذار 2003، ودخلت قواتها بغداد في الشهر التالي، ولم يلبث الرئيس بوش أن عين في مايو/أيار بول بريمر رئيسا لسلطة الائتلاف المؤقت، وخوّله مسؤولية الأعمال التنفيذية والتشريعية والقضائية في العراق، والإشراف على 170 ألف جندي من قوات التحالف منتشرين في بلاد الرافدين.
جاء بريمر إلى بغداد بتصوّر مفاده أن العراق يتكون من ثلاث مكونات بشرية رئيسة تشمل: الشيعة بنسبة 60%، والأكراد بنسبة 20%، والعرب السنة بنسبة 19%، وفقا لما أورده في مذكراته “عامٌ قضيته في العراق”، فقد اعتبر أنه إذا كسب الشيعة والأكراد إلى صفه فسيضمن النجاح.
أصدر بريمر عدة قرارات سعت إلى تفكيك مؤسسات الدولة العراقية، بهدف إعادة بنائها وفق نمط الإحلال، بحيث يشغل أنصار واشنطن المناصب الرئيسة في المؤسسات الجديدة، ومن أبرز هذه القرارات: اجتثاث البعث، وحل الجيش العراقي، وتعيين مجلس حكم مؤقت وفق محاصّة طائفية وعرقية تمهيدا لتشكيل لجنة تحضيرية للدستور، ومجلس وزراء مؤقت، ثم اعتماد دستور جديد، وكانت تفاصيل ذلك على النحو التالي:
1- اجتثاث البعث:
أصدر بريمر في 15 مايو/أيار 2003 قراره الأول بحل حزب البعث، ومنع أعضائه في المستويات الأربعة التنظيمية القيادية من تولي مناصب حكومية، وهو ما أطاح عمليا بكبار الموظفين من كافة مؤسسات الدولة. وتولت لجنة اجتثاث البعث بقيادة أحمد الجلبي، المعارض الشيعي، فحص شاغلي المناصب في المستويات الإدارية العليا الثلاثة في أي وزارة أو مؤسسة حكومية بما فيها الجامعات والمستشفيات. وقد اتُّهمت اللجنة بغض الطرف عن الموظفين الشيعة، وإقصاء الموظفين السنة، ليصبح مصطلح اجتثاث البعث مرادفا لإقصاء السنة وفق طارق الهاشمي نائب رئيس العراق سابقا.
2- حل الجيش وأجهزة الأمن:
على الرغم من أن الجيش يمثل مؤسسة لصهر المكونات الوطنية، فإن بريمر أورد في مذكراته أن القادة الشيعة والأكراد المعارضين لصدام اعترضوا على بقاء الجيش العراقي، فاتفق معهم على حل الجيش تمهيدا لإعادة بنائه عبر دمج عناصر مليشيات المعارضة في الجيش الجديد، بهدف التخلص من “هيمنة السنة” حسب تعبيره، وبنائه بشكل يعكس التركيبة الدينية والعِرقية للبلاد، أي بما يكفل هيمنة الشيعة والأكراد على الجيش الجديد، وكذلك على الأجهزة الأمنية.
وبجرة قلم من بريمر، صدر قرار بحل الجيش العراقي في 23 مايو/أيار 2003، وأصبح نحو 350 ألف ضابط وجندي دون راتب أو معاش، وفقد العرب السنة المؤسسة التي اعتبروها بمثابة الحامي للبلاد منذ عقود، وتعرض العديد من الضباط السنة، وخاصة الطيارين خلال حقبة الحرب العراقية الإيرانية، لعمليات انتقام واغتيال على يد “فيلق بدر” الذي قاتل أثناء الحرب إلى جانب إيران.
3- تشكيل مجلس الحكم المؤقت:
مع تصاعد المقاومة ضد الوجود الأميركي، وبالأخص في المناطق السنية، شكل بريمر في يوليو/تموز 2003 مجلس الحكم الانتقالي وفق نظام محاصّة طائفية وعرقية، ليعمل كذراع لسلطة الائتلاف المؤقتة، وليشرف على إعادة بناء مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش والشرطة، وبناء دستور مؤقت يتضمن الجدول الزمني للمرحلة الانتقالية، ضمن رؤية تعتبر أن العرب السنّة يشكلون معضلة ويجب تهميشهم عن مقاعد القيادة.
شكّل بريمر المجلس من 25 شخصا دون استفتاء أو نقاش مجتمعي، واعتمد على تكتلات المعارضة المنفية بالخارج في عهد صدام ممن ليست لهم شعبية داخل البلاد، بواقع 13 عضوا شيعيا، و6 أكراد، و4 من السنة العرب، وعضو أشوري، وآخر تركماني. ولم يكن للسنة يد في اختيار ممثليهم بالمجلس. وسرعان ما تشكلت حكومة مؤقتة بقيادة رئيس الوزراء الشيعي إياد علاوي، وحصل فيها العرب السنة على 5 وزارات تشمل العدل والمالية والتعليم العالي وحقوق الإنسان والكهرباء. وعززت تلك الخطوات الانقسامات الطائفية والعرقية، وإحساس السنّة بالعزلة، وبأنهم يدفعون ثمن سياسات حزب البعث رغم أنه كان حزبا علمانيا وليس سنيا.
ماذا عنى غياب المرجعية السنية؟
وممّا فاقم من أزمة العرب السنة في حقبة الاحتلال الأميركي، افتقادهم لمرجعية جامعة تماثل المرجعية الشيعية في النجف، وافتقادهم لبنية هرمية مستقلة عن الدولة؛ مما جعل تفكيك مؤسسات الدولة بمثابة إضعاف للسنة، في حين أن الجماعات والأحزاب الشيعية والكردية المعارضة حازت كيانات منفصلة عن الدولة أتاحت لها أداء دور في عراق ما بعد صدام.
وقد أدى غياب مرجعية سنية عربية جامعة إلى تنامي التوترات والخلافات البينية، وبالأخص تجاه ملفات مصيرية، من قبيل الموقف من الاحتلال الأميركي، إذ تشكلت فصائل مقاومة تتبنى رؤية أن قتال المحتل فرض عين، بينما اختار الحزب الإسلامي الانخراط في العملية السياسية تحت إشراف الاحتلال، ورغم أن رئيسه آنذاك الدكتور محسن عبد الحميد كردي، فإن أغلب أعضاء الحزب كانوا من العرب السنة.
كذلك برزت خلافات بين الجماعات التي اختارت نهج المقاومة المسلحة، بناء على اختلاف أيديولوجياتها، فبعض الجماعات تشكلت من عناصر عشائرية وضباط من بقايا جيش صدام وأفراد ذوي خلفيات إخوانية وسلفية، واتسم نهجهم بصبغة دينية وطنية، مثل: “الجيش الإسلامي” و”كتائب ثورة العشرين”، في حين وفدت جماعات أخرى من خارج العراق محملة بأدبيات السلفية الجهادية، مثل: “جماعة التوحيد والجهاد” بقيادة الأردني أبو مصعب الزرقاوي، وتحولت عام 2004 إلى “تنظيم القاعدة” في بلاد الرافدين. ومن أبرز القضايا الخلافية بين الجماعات المذكورة:
- الموقف من هدف المقاومة في العراق، هل هو طرد المحتل فقط، أم النظر إلى القتال على أنه جزء من صراع أوسع لإقامة خلافة إسلامية؟
- الموقف من الانضمام إلى الجيش والأجهزة الأمنية الجديدة والمشاركة في العملية السياسية، ففي حين تبنت الجماعات ذات الصبغة الدينية الوطنية خيار عدم الانضمام إلى الأجهزة الأمنية أو المشاركة في العملية السياسية مع دعوة أبناء السنة العرب إلى تجنب الانخراط في تلك المؤسسات، تبنت الجماعات ذات التوجه السلفي الجهادي خيار مهاجمة مراكز التجنيد، وقتل المنضمين إلى المؤسسات الأمنية الجديدة، فضلا عن مهاجمة مراكز الاقتراع، واغتيال المرشحين.
- الموقف من الطائفة الشيعية، إذ رفضت الجماعات ذات الصبغة الدينية الوطنية نهج القتل على الهوية، في حين تبنت الجماعات ذات التوجه السلفي الجهادي استهداف الشيعة على الهوية عبر تفجير السيارات المفخخة وتنفيذ الهجمات في أسواق الأحياء والمدن الشيعية، واستهداف الحسينيات ردا على المجازر التي استهدفت المناطق والمساجد السنية على يد “فرق الموت” و”جيش المهدي”.
وأدى تزايد الخلافات في نهاية المطاف إلى حدوث قتال بين جماعات المقاومة، وبالأخص بعد إعلان تنظيم القاعدة في العراق تأسيس مجلس شورى المجاهدين، ثم الدولة الإسلامية في العراق عام 2007، وطلبه البيعة بالإجبار من الجماعات الأخرى. الأمر الذي استثمرته الولايات المتحدة في تأسيس مليشيات “أبناء العراق” العشائرية المعروفة باسم “الصحوات”، التي بدأت في محافظة الأنبار ثم امتدت إلى ديالى وغيرها من المناطق السنية، تحت لافتة حماية المناطق السنية من تنظيم الدولة الإسلامية الذي نافس قادة العشائر في السيطرة على الأراضي وطرق التهريب، وقتل أبناء العشائر المنخرطين في أجهزة الأمن الجديدة، مقابل حصول الصحوات على تمويل وأسلحة من الجيش الأميركي.
انتخابات 2005
بحلول يناير/كانون الثاني 2005، شهد العراق أول انتخابات نيابية، لكن العرب السنة قاطعوها في ظل أغلبيتهم المشاركة في عملية سياسية ينظمها المحتل، فشارك 1% فقط من الناخبين في محافظة الأنبار، بينما شارك 14% من ناخبي الموصل، وفاز تحالف من الأحزاب الشيعية الكردية بأغلبية كاسحة، وتولى إبراهيم الجعفري منصب رئيس الوزراء، وأصبح الحزب الإسلامي هو الممثل السياسي للسنة في ظل مشاركته منفردا في الانتخابات.
تكرر الأمر في الاستفتاء على الدستور، الذي رفضته محافظتا الأنبار وصلاح الدين بنسبة تتجاوز ثلثي الناخبين، في حين رفضته محافظة نينوى بنسبة 55% من أصوات الناخبين، لتكون المحصلة هي تمرير الدستور، الذي يُشترط لعرقلته رفض ثلاث محافظات بنسبة تتجاوز الثلثين في كل منها، وذلك إثر خرق الحزب الإسلامي للإجماع السني وموافقته على تمرير الدستور مقابل وعود أميركية لم تتحقق، بتشكيل لجنة لمراجعة الدستور مستقبلا لتعديله بما يوافق مطالب العرب السنة، وبالأخص ما يتعلق برفضهم مبدأ الفيدرالية، في ظل خشيتهم من تقسيم العراق إلى أقاليم؛ مما قد يجعل أقاليم وسط وغرب البلاد لا تملك موانئ ولا نفطًا.
أسفرت الانتخابات النيابية، ثم اعتماد الدستور الجديد في أكتوبر/تشرين الأول 2005 عن تقنين تهميش العرب السنة في بناء الدولة الجديدة، فحاولوا استدراك ذلك عبر زيادة رقعة مشاركتهم في الانتخابات النيابية الثانية نهاية عام 2005، وحصلت القائمتان الرئيستان للعرب السنّة على مزيد من المقاعد، إذ نالت “جبهة التوافق الوطني” بقيادة عدنان الدليمي وطارق الهاشمي من قادة الإخوان المسلمين 44 مقعدًا، و”الجبهة العراقية للحوار الوطني” بقيادة صالح المطلك 11 مقعدا، وهو ما يعادل 20% من المقاعد، لكن ذلك بدا عددا محدودا مقارنة بالتقييمات التي رجحت أن نسبة العرب السنة تتراوح بين 35% و45% من إجمالي سكان العراق.
الحرب الأهلية 2006-2008
استثمرت الأحزاب الشيعية والكردية الامتيازات الحكومية لترسيخ نفوذها في الدولة الجديدة، فطلبت أغلب الوزارات من المتقدمين للعمل إحضار تزكية من الحزب الذي ينتمي إليه الوزير المختص، وهو ما أدى إلى امتداد المحاصّة الطائفية والعرقية في المناصب السياسية إلى توزيع الوظائف وموارد الدولة، وتحولت المؤسسات الحكومية إلى إقطاعيات للأحزاب المشكلة للحكومة، فترسخت الطائفية اجتماعيًّا وسياسيًّا، وأصبح الانتماء الطائفي هو معيار تعريف المواطن لهويته.
وساهم تولي بيان جبر صولاغ، وهو شيعي تركماني عمل ممثلًا للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق في سوريا، منصب وزير الداخلية عام 2005، في تشكيل فرق الموت التي أوغلت في المداهمات والتصفيات بالمناطق السنية بحجة التصدي للبعثيين والتكفيريين، كما أسس سجونا سرية تعرض فيها العرب السنة لتعذيب شديد.
كذلك، ساهمت الهجمات المتبادلة في تأجيج الانقسامات الطائفية، وقد بدأت في أغسطس/آب 2003 مع اغتيال محمد باقر الحكيم رفقة العشرات من أنصاره بتفجير نفذه صهر الزرقاوي في النجف.
في المقابل صعدت القوات الأميركية المدعومة من قوات الأمن العراقية الجديدة من عمليات القصف والمداهمة في المناطق السنية، وبالأخص في المثلث السني المؤلف من مدن الفلوجة وبلد واليوسفية، فضلا عن الموصل والأحياء السنية في بغداد باعتبارها معاقل للمقاومة، وأدى الاستخدام المفرط للقوة والاعتماد على المليشيات الطائفية إلى تأجيج الصراع السني الشيعي.
تصاعدت الأحداث إثر تنفيذ القوات الأميركية والعراقية لهجوم على تلعفر، فأعلن الزرقاوي في سبتمبر/أيلول 2005 ما سماه “الحرب الشاملة على الشيعة” في جميع أنحاء العراق. بهذا، تصاعدت التفجيرات في المدن والمناطق الشيعية، ووصلت ذروتها بتفجير استهدف مرقد الإمام الحسن العسكري في فبراير/شباط 2006 بسامراء، أعقبته هجمات انتقامية وحرق للمساجد السنية، واختطاف وقتل للأفراد خارج نطاق القانون، وبدأ نزوح السكان من الأحياء المختلطة في بغداد، وهاجر السنة العرب من البصرة والمدن ذات الأغلبية الشيعية إلى مدن سنية، كما هاجر آخرون إلى سوريا والأردن وتركيا ومصر، وبدأ اقتناع يسود لدى العرب السنة بوجود مخطط مدعوم من إيران، تنفذه الأحزاب الشيعية العائدة إلى العراق من إيران، لطردهم إلى خارج العراق بحسب طارق الهاشمي.
إخفاق الرهان على المشاركة السياسية
تراجعت حدة الاقتتال الأهلي، إثر زيادة عدد القوات الأميركية في العراق، في حين راهن من اختاروا المشاركة السياسية من العرب السنة على التحالف مع إياد علاوي، الشيعي والقيادي البعثي السابق المقرب من الولايات المتحدة.
قدّم علاوي خطابا وطنيا متجاوزا للطائفية، وفاز تحالفه “القائمة العراقية” بالأغلبية في انتخابات عام 2010، إذ حصل على 91 مقعدا مقابل 89 مقعدا حصلت عليها قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي. وقد تضمنت مقاعد “القائمة العراقية” 12 مقعدا في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، و79 مقعدا في المناطق السنية، مما عكس حجم الدعم السني لها.
غير أن المالكي تمكن من اجتذاب نواب شيعة من قائمة علاوي إلى صفه، فضلا عن اجتذاب نواب آخرين في ظل المخاوف من فقدان السيطرة على الحكومة لصالح تحالف يدعمه السنة. وقد منح المالكي رموز السنة في القائمة العراقية عددا من المناصب، مثل تعيين طارق الهاشمي نائبا لرئيس الجمهورية، وصالح المطلك نائبا لرئيس الوزراء، وأسامة النجيفي رئيسا للبرلمان، ورافع العيساوي وزيرا للمالية.
لكن في العام التالي مباشرة، وقبيل انسحاب القوات الأميركية من العراق، استخدم المالكي سلطة الحكومة في مطاردة قادة القائمة العراقية من العرب السنة، فأصدر القضاء قرارا باعتقال طارق الهاشمي لاتهامه بالتورط في اغتيالات، وحُكم عليه بالإعدام، فهرب إلى خارج العراق، كما أقيل صالح المطلك وحُرم من المشاركة السياسية بحجة ارتباطه سابقا بحزب البعث. واتُّهم الساسة العرب السنة من قِبَل جمهورهم، بأنهم قدموا مصالحهم الشخصية، وبأن المالكي تلاعب بهم ثم تخلص منهم.
حقبة تنظيم الدولة وما بعدها
عقب تراجع أنشطة جماعات المقاومة إثر تنامي الخلافات البينية، ونجاح تجربة الصحوات في مطاردة المقاومين بمختلف انتماءاتهم التنظيمية، سلمت واشنطن مسؤولية دفع رواتب عناصر الصحوات إلى حكومة المالكي بنهاية عام 2008، التي خشيت من تحول الصحوات إلى كيان سياسي منافس للحكومة، ففتحت قضايا إرهاب بحق قادتها، وسجنت وطاردت العديد منهم، واكتفت بدمج 20% منهم في وظائف حكومية، وسرحت الباقين، وانتهت التجربة باستخدام الصحوات في دحر المقاومة السنية، ثم التخلص منها.
نشر ذلك أجواء من الإحباط بين أبناء العشائر السنية، إذ تزامن تفكيك الصحوات مع الانسداد السياسي والتنكيل بالهاشمي ورفاقه. وواكب ذلك اندلاع الثورة في سوريا المجاورة، التي تمثل امتدادا جيوسياسيا للعراق، حيث تحولت إلى بؤرة صراع طائفي جديد عبر انخراط طهران والمليشيات العراقية الشيعية في القتال إلى جانب نظام بشار الأسد، في حين انضم مقاتلون سنة عراقيون إلى الثوار.
جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير، إثر اعتقال قوات الأمن العراقية لحراس النائب ووزير المالية رافع العيساوي في نهاية عام 2012، فاندلعت احتجاجات واسعة في محافظته الأنبار، ثم توسعت إلى بقية المناطق السنية في البلاد، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وتعديل قانون المساءلة والعدالة الذي حل محل لجنة اجتثاث البعث، ومحاسبة المتورطين في قتل واختطاف المواطنين على الهوية.
واجهت حكومة المالكي الاحتجاجات بالقمع، وقتلت قوات الأمن خمسين محتجا في مدينة الحويجة بمحافظة كركوك عام 2013. في هذه اللحظة، تحولت الاحتجاجات السلمية إلى أنشطة مسلحة، واجتمع أغلب المتضررين من حقبة ما بعد الاحتلال في جبهة واحدة ضمت قادة العشائر، وبقايا النظام السابق، وبقايا مجموعات المقاومة، واليائسين من جدوى المشاركة السياسية. ودخل تنظيم الدولة الإسلامية على الخط ليوظف تلك الحالة في شن عمليات عسكرية للسيطرة على المدن السنية، ثم أعلن إقامة الخلافة عقب سيطرته على مدينة الموصل ونحو ثلث العراق عام 2014.
ضغطت الولايات المتحدة على نوري المالكي للاستقالة، وشكلت تحالفا دوليا انخرط في قتال تنظيم الدولة في العراق وسوريا، وقدمت طهران الخطط والدعم للقوات العراقية، التي استعادت السيطرة على الموصل ومناطق سيطرة تنظيم الدولة تباعا، ولكن بثمن باهظ تضمن نزوح السكان مجددا من مدنهم وقراهم، وتدمير العديد من المناطق السنية. وقد ساهم خطاب وممارسات تنظيم الدولة في حشد أبناء الطائفة الشيعية خلف قياداتهم السياسية ومراجعهم الدينية، خوفا من التهديد الوجودي الذي شعروا به.
الحاجة إلى التقاط الأنفاس
لقد ساهمت سياسة تفكيك واستبدال مؤسسات الدولة العراقية في إعادة هيكلة المجتمع، وأخرجت السنة العرب من دوائر الحكم إلى الهامش، وأدى غياب مرجعية سنية أو قيادات مجمع عليها إلى التشظي وكثرة الخلافات البينية، بين من يرى الإصلاح من داخل المنظومة السياسية الجديدة، بيد أنه تعرض عمليا للتوظيف ضد منافسيه ضمن لعبة “فرق تسد” ثم أُقصِي لاحقا، ومن تبنى خيار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال لكنه فتح النار ضد الجميع بمن فيهم مخالفوه من نفس طائفته، فاتفقوا عليه، وكرّس بيئة عدائية نفرت المؤيدين قبل الخصوم.
لقد ثبت عدم فاعلية خيار المراهنة على الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الإيراني في العراق مثلما فعلت الصحوات، فضلا عن صعوبة مواجهة واشنطن وطهران في وقت واحد.
إضافة إلى ذلك، أدى الجمود في الملف السوري إلى إحباط الرهان على حلحلة الوضع العراقي عبر النافذة السورية. وفي المجمل أدت الصراعات المتتالية إلى استنزاف البيئة العربية السنية العراقية، وأوصلتها إلى مسارات مسدودة.
في النهاية، يحتاج السنة العرب في العراق إلى استراحة لالتقاط الأنفاس، يعيدون فيها بناء نخبهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويتبنون خلالها مشاريع جامعة قدر الإمكان، ويترقبون الفرص المتاحة في ظل التقلبات الإقليمية والدولية، مع تجنب الخيارات الصفرية في الأوقات غير المواتية، وفتح مسارات تواصل مع المكونات الأخرى العراقية للبناء على المشتركات معهم، وتحييد ما أمكن منهم، إذ إن الانخراط في المسارات الطائفية يعمق أزمتهم وأزمة العراق كله، ويفيد الأطراف الخارجية التي تستثمر في الأزمات.