رغم توقف العمليات العسكرية في معظم مناطق سوريا منذ أكثر من 3 سنوات، فإن نتائج هذه الحرب لا تزال تشكل عبئا يرهق حياة الناس يوميا.
ومن القواسم المشتركة في مختلف المناطق السورية تدهور التعليم، وإرسال الأطفال إلى سوق العمل للمساعدة في الأعباء المعيشية، مما ينذر بارتفاع نسبة الأمية وتفشي الجهل بين مكونات المجتمع.
واقع التعليم في مناطق النظام
بشكل متسارع وتبعا للانخفاض المتزايد لسعر صرف الليرة السورية يزداد غلاء المعيشة في البلاد وتتقلص قدرة الفرد على تحمل الأعباء الاقتصادية، وأصبح من المألوف لدى كثير من العائلات إخراج أبنائها من المدارس وإرسالهم إلى سوق العمل في سن مبكرة بهدف المساعدة في كسب القوت اليومي.
وتشير التقارير الإحصائية للمنظمات المعنية بقطاع التعليم في سوريا إلى تزايد عدد المدارس في عام 2010 واقترابها من المعدلات العالمية النموذجية لاستيعاب الطلاب داخل الفصل الواحد، حيث اقترب العدد حينها من 22 ألفا و200 مدرسة تغطي مختلف مناطق الجغرافيا السورية.
وفي العام الماضي قدر وزير التربية السابق في حكومة النظام عدد المدارس المتضررة بنحو 10 آلاف مدرسة، منها 5 آلاف مدمرة بشكل كامل، ليتضاءل عدد المدارس الصالحة للتعليم إلى 14 ألفا و505 مدارس.
ويقول الأستاذ ياسر المحمود -من ريف دمشق– إن معظم المدارس تحولت إلى أبنية غير صالحة للتعليم، من حيث انعدام معايير الأمان وتلف الأثاث المدرسي، بالإضافة إلى ندرة مواد التدفئة في فصل الشتاء.
ويوضح المحمود -الذي عمل سابقا موجها لمادة اللغة الإنجليزية- أن هذه الظروف أسهمت في تردد الأهالي في إرسال أطفالهم إلى المدارس.
وبينما تمتلك فئة من الناس القدرة على تحمل التكاليف الباهظة للدراسة، توقف كثير من الأهالي عن إرسال أطفالهم إلى المدارس، ودفعوهم إلى سوق العمل بهدف مساعدتهم في الأعباء المعيشية.
وهناك عامل آخر، وراء توقف الناس عن إرسال أبنائهم للمدارس، وهو تلاشي الأمل في التعليم ومستقبله في ضوء المعطيات الراهنة.
وتؤكد أميمة -وهي معلمة لغة عربية في محافظة حلب– أن التعليم بات نوعا من الرفاهية لعائلات الطبقة المتوسطة، وهي الطبقة التي تضاءلت تدريجيا لتندمج مع الطبقة الفقيرة أو المسحوقة.
وتقول “كيف لعائلة تتكون من أب وأم وطفلين يحتاجون شهريا إلى 2.5 مليون ليرة بالحد الأدنى لتأمين تكاليف الأكل والشرب، أن ترسل أولادها إلى المدارس، وتتحمل تكاليف شراء اللوازم المدرسية لهؤلاء الطلاب، ولا يتجاوز دخل الأب والأم مليون ليرة سورية. إنه نوع من الترف الاجتماعي الذي لم تعد تقوى عليه كثير من العائلات”.
أرقام أممية صادمة
وتشير تقارير المنظمات التابعة للأمم المتحدة عام 2123 إلى أن 18% من الأطفال السوريين غير ملتحقين بالمدارس، فهنالك أكثر من مليوني طفل سوري تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عاما لم يلتحقوا بالمدرسة.
وفقا لتقديرات تلك المنظمات، لم تعد لدى المدارس القدرة اللازمة على استيعاب الطلاب، كما تفتقر هذه المدارس إلى الحد الأدنى من شروط العملية التعليمية، وذلك بسبب اكتظاظ الطلاب داخل الفصول، ونقص الأثاث المدرسي واللوازم المدرسية، وندرة توفر المواد اللازمة للتدفئة والإنارة الجيدة، بالإضافة إلى تلف الحمامات ومرافق الصرف الصحي.
كما تُظهر البيانات الرسمية -وفق منظمات الأمم المتحدة- ظاهرة تسرب الأطفال من المدارس، حيث تشير البيانات إلى أن عدد الأطفال المسجلين في الصف الابتدائي الأول وصل في عام 2011 إلى أكثر من 726 ألف طفل، ومع نهاية عام 2019 كان العدد لا يتجاوز 434 ألفا، أي أن هنالك انخفاضا بنسبة تصل إلى 40%.
التعليم في مناطق المعارضة
بالانتقال إلى الشمال الغربي، نجد أن الواقع لا يختلف كثيرا كما أسلفنا، من حيث جودة التعليم وتوفير الظروف المناسبة لخلق بيئة تعليمية صحية، وإن كان يختلف عن غيره من المناطق من حيث نوعية الاحتياجات، ومضمون مناهج التعليم والأيديولوجيا المتبعة في رسم سياسة التعليم لتلك المنطقة.
ففي هذه المناطق، نجد أن 13% من الأطفال لم يعرفوا المدارس، كما أن نسب التسرب تتصاعد لدى فئات الأطفال في المرحلتين المتوسطة والثانوية، فقد وصلت إلى 3 أرباع عدد الطلبة من الفئات العمرية بين 12 و17 عاما، وفق دراسة لـ “مركز عمران للدراسات الإستراتيجية” حول “احتياجات جيل ما بعد الحرب.. الفجوات التعليمية في شمال غرب سوريا”.
ومن جانبها، أنجزت “وحدة الاستقرار والدعم في سوريا” دراسة تهدف إلى رصد الوضع الحالي للمدارس واحتياجات قطاع التعليم في شمال غربي سوريا في محافظة إدلب وريف حلب بعد الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غرب سوريا عام 2023.
وكشفت هذه الدراسة أن أكثر من 1009 أبنية مدرسية تعرضت لأضرار متفاوتة، بينها 15 مدرسة تحتاج إلى هدم وإعادة بناء، وبقية المدارس بحاجة إلى ترميم.
أما بالنسبة للمخيمات في تلك المناطق فقد بينت الدراسة أن هناك 189 مخيما فقط يحتوي على مدارس من أصل 1270 مخيما في الشمال.
والحاجة هنا تتمثل أولا في تهيئة المباني لتكون صالحة لاستيعاب الطلاب، وتسيير عملية التعليم وفق ظروف صحية مناسبة. ومن ثم تبرز مشكلة أخرى لا تختلف في جوهرها عن مشاكل قطاع التعليم في باقي المناطق، ألا وهي تهيئة الكادر التعليمي علميا وإداريا، وخلق ظروف عمل مناسبة تشجع هؤلاء المعلمين على تأدية دورهم بالشكل المطلوب.
فإذا كان الراتب في مناطق سيطرة النظام لا يسد حاجة المعلمين كي يواجهوا ضغوطات الحياة الاقتصادية ويتابعوا عملهم بالشكل الأمثل، فإن المعلمين في مناطق سيطرة المعارضة لا يتقاضون رواتب في كثير من الأحيان لفترات قد تصل إلى 6 أشهر.
يقول مدير إحدى المدارس في ريف إدلب “لم نتسلم رواتبنا منذ ما يزيد على 3 أشهر، وفي عام 2022 ترك المدرسة 7 معلمين عبروا الحدود مع تركيا وتوجهوا إلى أوروبا. الراتب لم يعد يكفي وحده ما لم يكن لديك مصدر دخل إضافي”.
وفي هذا الصدد أشارت الدراسة الأخيرة إلى أن 7% من المعلمين في المدارس في شمال غربي سوريا لم يتقاضوا مرتباتهم عن العام الدراسي 2022-2023، وأكثر من نصف الطالبات والطلاب لا يمتلكون كتب مناهج مدرسية، أما الغالبية العظمى من المدارس فلا توجد فيها خدمات إرشاد نفسي.
يتسلم المعلمون في شمال غربي سوريا رواتبهم بالليرة التركية منذ سيطرة قوات المعارضة على تلك المناطق. وكان المعلم يتقاضى راتبا قدره 500 ليرة تركية، بما يعادل حوالي 125 دولارا أميركيا آنذاك، وهو يعتبر دخلا مقبولا في ذلك الوقت، إلا أن عدم انتظام تسليم الرواتب في موعدها من قبل السلطات المحلية، بالإضافة إلى الانخفاض المتزايد لقيمة العملة التركية، زاد من معاناة المعلمين وأدى لتراجع فاعليتهم في تأدية عملهم.
ويشير تقرير “الشبكة المشتركة لوكالات التعليم في حالات الطوارئ” لغياب ثقة الأهالي في العملية التعليمية، بسبب انتشار الفوضى في إدارة التعليم تبعا لتعدد المرجعيات، وغياب جهة واحدة أو مركز يدير العملية التعليمية، وعدم وجود قواعد ناظمة تضبط العلاقة بين المعلمين والإدارة التعليمية.
واقع التعليم في مناطق الإدارة الذاتية
في مناطق الإدارة الذاتية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية لا يبدو قطاع التعليم في هذه المناطق أحسن حالا من باقي مناطق سوريا.
فالمشاكل والصعوبات في هذه المنطقة تكاد تكون ذاتها في باقي المناطق، وربما تختلف طريقة معالجتها إن وجدت طرق لحلها.
يقول عيسى المحمد -وهو مدير مدرسة سابق- “أسفرت عمليات التحالف والقصف الجوي المتواصل ضد تنظيم الدولة عن خسائر مادية وبشرية هائلة في المدينة، ومن تلك الخسائر تدمير معظم المدارس، حيث كان التنظيم يستخدمها مقرات لعناصره أو سجونا أو معسكرات تدريب”.
من ناحية أخرى، يذكر الأستاذ محمد السلمان أن كثيرا من الأهالي لم يرسلوا أطفالهم إلى المدارس التي تدرس اللغة الكردية، فالمناهج مختلفة وتبدو غريبة عنهم، لذا فهم يخشون على أطفالهم من تلقيهم ثقافة وأيديولوجيا قد تؤثر سلبا على تربيتهم ومستوى تعليمهم، بالإضافة إلى انعدام الفائدة العلمية مستقبلا، إذ لا يعترف النظام بتلك المدارس أو الشهادات التي تصدرها دوائر التعليم هناك.
ويضيف “يضطر الطلاب إلى ارتياد المعاهد الخاصة المنتشرة بكثرة في المدينة، ومن ثم يسافر طلاب الشهادة الإعدادية أو الثانوية إلى الريف الغربي الخاضع لسيطرة قوات النظام من أجل التقدم للامتحانات العامة، والحصول على شهادة معترف بها تخوله دخول الجامعات أو المعاهد المتوسطة”.
ومن الطبيعي إذن حصول مشاكل تعيق الدراسة، في ظل ندرة المباني الصالحة للتعليم وتكدس الطلاب داخل الفصل الدراسي، وتدريس مناهج مختلفة ثقافيا ولغويا بالنسبة للطلاب والمعلمين على حدٍ سواء.
هذه العوامل، باتت تهدد استمرارية الطلاب في المدارس، وتشجع الأهالي على عدم إرسالهم إليها، ودفعهم نحو سوق العمل، مما يشكل عاملا أساسيا لانتشار الأمية والجهل بين تلك الفئة من السوريين، وفق تعبير السلمان.
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد سيطرة ما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية عام 2017 على مناطق في شمال شرقي سوريا وطردها تنظيم الدولة منها، باتت البلاد منذ ذلك الحين مقسمة سياسيا وعسكريا إلى 3 مناطق رئيسة: مناطق سيطرة النظام، مناطق سيطرة المعارضة وما يتبعها من كتائب في الشمال الغربي، ومناطق سيطرة ما يعرف بالإدارة الذاتية.
ونتيجة لذلك، بات قطاع التعليم في سوريا أيضا، تبعا لهذا التقسيم، مقسما إلى 3 أنماط رئيسية تختلف كل واحدة عن الأخرى من حيث الشكل والمضمون والأيديولوجيا والغايات والأهداف، وتشترك جميعها في الرداءة وقلة الجودة وعدم وجود رؤية مستقبلية واضحة لتربية الأجيال القادمة، وفق تقارير محلية ودولية.