واشنطن- صُدمت الولايات المتحدة من قرار المحكمة الجنائية الدولية الساعي لمحاكمة قادة إسرائيل، التي تجمعها علاقات خاصة بواشنطن، حيث تعد هذه هي المرة الأولى التي تسعى فيها المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة حليف لأميركا.
ورغم رفض الولايات المتحدة وإسرائيل الانضمام للمحكمة، فإن واشنطن دعمت جهود الجنائية الدولية في حالات انتهاكات سابقة متعلقة بصربيا وروسيا والسودان وغيرها، لكنها بالمقابل عارضت باستمرار تمكين محكمة دولية يمكنها محاكمة القادة العسكريين والسياسيين الأميركيين بموجب القانون الدولي.
الخوف الأميركي
رفضت النخبة الأميركية في مجملها موقف المدعي العام الرئيسي للمحكمة -بريطاني الجنسية- كريم خان، الذي أعلن عن طلبه إصدار أوامر اعتقال شخصيات إسرائيلية وفلسطينية، حيث اعتبرته مساواة بين “جماعة حماس الإرهابية، والحكومة الإسرائيلية الديمقراطية المنتخبة”.
وانتقد الرئيس جو بايدن وكبار أركان إدارته موقف المحكمة الجنائية الدولية ونيتها إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت.
من جانبه، حذر ريتشارد غولدبرغ، الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، والمسؤول السابق في مجلس الأمن القومي، إدارة بايدن من خطورة خطوة المحكمة ضد قادة إسرائيل، ونبه إلى أن واشنطن قد تكون الهدف التالي للمحكمة.
وكتب غولدبرغ محذرا أن التهديد للولايات المتحدة من المحكمة الجنائية الدولية ليس افتراضيا، وأن واشنطن قد تواجه تحقيقا نشطا للمحكمة الجنائية الدولية في جرائم حرب مزعومة في أفغانستان، واعتبر أن الدفاع عن إسرائيل ضد خطوة المحكمة الجنائية الدولية الآن سيساعد في حماية الجنود الأميركيين والمسؤولين الحكوميين في المستقبل.
مجلس الشيوخ
خلال الشهرين الماضيين، شارك عدد من أعضاء الكونغرس في مباحثات مع مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية وراء الكواليس، في محاولة لثنيهم عن التحرك في هذا الاتجاه.
واتهم السيناتور الجمهوري من ولاية كارولينا الجنوبية ليندسي غراهام المحكمة الجنائية الدولية بتضليله وزملائه في الكونغرس بشأن خطط المحكمة، وقال “أريد أن يعرف العالم أنني وزملائي الجمهوريين والديمقراطيين وأعضاء الإدارة تباحثنا مع المحكمة الجنائية الدولية في هذه القضية قبل أسابيع، وقيل لنا إنه ستكون هناك مناقشات مع إسرائيل قبل اتخاذ أي إجراءات”.
وشدد غراهام على ضرورة تطبيق مبدأ التكامل، الذي يتطلب من المحكمة الجنائية الدولية أن تسمح للنظام القانوني للدولة المعنية بالتحرك أولا، قبل أن تتخذ المحكمة أي إجراء، وعلق على ذلك بقوله “أشعر أنه تم الكذب علي، وعلى زملائي”.
ولهذا السبب، تعهد غراهام أنه “سيعمل بشكل محموم مع زملائه من كلا الجانبين في كلا المجلسين لفرض عقوبات دامغة ضد المحكمة الجنائية الدولية”.
كما هدد السيناتور الجمهوري من ولاية “أركنساس” توم كوتون -في بيان شديد اللهجة- مدعي المحكمة، وتوعد بالتأكد من أن المدعي العام خان وشركاءه وعائلاتهم “لن تطأ أقدامهم الولايات المتحدة مرة أخرى”.
كما تعهد رئيس مجلس النواب مايك جونسون بتصويت المجلس على فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، حيث يتوقع أن يتم التصويت هذا الأسبوع، كما يرجح أن يُقسم التصويت الحزب الديمقراطي بين مؤيد ومعارض للقرار.
تهديد النظام الدولي
وعلى النقيض من ذلك، اتخذ بعض المعلقين والمسؤولين السابقين الأميركيين موقفا مؤيدا لخطوة المحكمة، وأدانوا موقف إدارة بايدن، حيث انتقد بن رودس مستشار الرئيس السابق باراك أوباما في تغريدة له موقف إدارة الرئيس بايدن، وقال “لا يوجد شيء اسمه نظام دولي قائم على القواعد إذا كانت القواعد تنطبق فقط على الأشخاص والبلدان التي لا تحبها”.
كما غرد نائب رئيس معهد كوينسي بواشنطن تاريتا بارسي على موقع “إكس”، مهاجما بيان بلينكن، ووصفه بالبيان “المخجل” بسبب رفضه أوامر المحكمة الجنائية الدولية لنتنياهو وغالانت وحماس، وقال إنه “من الواضح أن فكرة بلينكن عن النظام القائم على القواعد تعتمد على تحكم الولايات المتحدة فيه، وليس نظاما تخضع فيه جميع الدول -بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة- للقواعد على قدم المساواة”.
واشنطن والمحكمة
ويفسَّر الموقف الأميركي من المحكمة الجنائية الدولية بخوف الولايات المتحدة -إلى حد كبير- من تعرض الجنود والساسة الأميركيين إلى المحاكمة دون حماية دستورية أميركية، وخصوصا من قبل مدع عام مناهض للولايات المتحدة في محكمة بها قضاة غير أميركيين.
وبدلا من ذلك، تتم محاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في المحاكم المحلية الأميركية بموجب قانون جرائم الحرب لعام 1996، وهو قانون يطبق إذا كان أحد الضحايا أو مرتكب جريمة حرب مزعومة مواطنا أميركيا أو عضوا في الجيش الأميركي.
ووصلت معارضة واشنطن للمحكمة الجنائية الدولية إلى ذروتها خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث هدد مستشار الأمن القومي جون بولتون بفرض عقوبات على القضاة والمدعين العامين في المحكمة إذا شرعوا بالتحقيق في ما قالت عنه المحكمة إن أفرادا من الجيش الأميركي ووكالة الاستخبارات المركزية ربما ارتكبوا جرائم حرب بتعذيب المعتقلين في أفغانستان عام 2016.
وقال بولتون إن الولايات المتحدة ستمنع قضاة المحكمة ومدعيها العامين من دخول أراضيها، وأضاف “سنعاقب أموالهم في النظام المالي الأميركي، وسنحاكمهم تحت النظام الجنائي الأميركي”، مضيفا أنهم سيفعلون الشيء نفسه مع أي شركة أو دولة تساعد في تحقيق المحكمة الجنائية الدولية مع الأميركيين”.
وبالفعل، فرضت واشنطن عقوبات على أعضاء المحكمة، وحظرت الحسابات المصرفية لرئيسة المحكمة السابقة فاتو بنسودا، لكن العلاقات بدأت بالتحسن مع بدء عهد الرئيس جو بايدن، الذي تعهد باحترام قواعد القانون الدولي، حيث أسقطت واشنطن العقوبات.
من جانبها، اتخذت المحكمة موقفا رماديا بعد ذلك، مع تحول تحقيقاتها حول أفغانستان بعيدا عن انتهاكات القوات الأميركية، لتركز بالمقابل على الجرائم المزعومة لمقاتلي طالبان ومقاتلي تنظيم “داعش” المحليين، الأمر الذي أثار انتقادات من منظمات حقوق الإنسان واعتبرها البعض محاولة من المحكمة لكسب ود واشنطن.