من جديد يعود رئيس مكتبة قطر الوطنية الدكتور حمد الكواري لموضوع الدبلوماسية الثقافية، إذ يؤكد الدبلوماسي والمثقف ووزير الدولة القطري على حتمية الاعتماد على الثقافة كقوة دافعة ومعاضدة للعلاقات بين الدول كونها تشكل البنى العميقة للمجتمع وتسمح بفهم خصوصيات المجتمعات.
وبعد كتابه لعام 2022 “جسور لا أسوار.. مقاربة جديدة لعلاقات الشمال بالجنوب” صدر للدكتور حمد الكواري حديثا كتاب “بعض مني.. الدبلوماسية الثقافية بعد مونديال قطر” رافعا من مكانة الثقافة ودورها في الحياة المعاصرة، ومانحا لها دورا دوليا جديدا، إذ لم تعد قوة الدول تقاس بقوة اقتصادها أو حضورها السياسي والعسكري فحسب، وإنما بمدى قدرة ثقافتها على إنشاء العلاقات في ما بينها.
جاء الكتاب في 236 صفحة وصدر عن دار الوتد بقطر والمركز الثقافي للكتاب بالمغرب، وضم فصولا عديدة تناول فيها المؤلف قضايا عديدة، بينها التواصل بين الثقافات والتفاعل بينها، والدبلوماسية الثقافية، والقوة الناعمة، وكأس العالم، وسحر الصورة، وما بعد المونديال، والإرث الثقافي لكأس العالم، والتوثيق من منظور عربي، ومسيرة الكتاب والمكتبة في عالم المعرفة، والمكتبات في العصر الرقمي، وغيرها.
ويقول المؤلف إنه التقى عقب مونديال قطر 2022 بعدد كبير من الأصدقاء من دول مختلفة ومن اتجاهات فكرية شتى، وكلهم يُجمعون على أن ما عاشوه أثناء المونديال هو نوع من الحلم الذي لا يقبل التصديق لولا أنهم كانوا متابعين لمجريات هذا الحدث التاريخي الذي نظمته قطر باقتدار أثار الإعجاب والدهشة.
الدبلوماسية الثقافية
ويقول المؤلف إنه بعد أن أمضى أكثر من نصف قرن في مجال الممارسة الدبلوماسية والثقافية أيقن أن مزايا التواصل الثقافي بين الشعوب صمام أمان لها على اختلاف اتجاهاتها الفكرية وتنوع أجناسها ولغاتها، مشيرا إلى أن الترجمة هي الأداة الجوهرية للثقافة لكن إتقان لغة أجنبية لا يضمن بشكل منفرد التفاهم بين شعوب تنتمي لثقافات مختلفة، فالأمر يتطلب نوعا من الثقافة وهي “مشترك بين مختلفين” لا تتحقق إذا خلت من طرفين واقتصرت على طرف واحد.
ولما كانت “الدبلوماسية الثقافية” ترتكز على المعرفة باعتبارها طريقا إلى تبادل الثقافات بين الشعوب فإن المعرفة تنهل من الآداب العالمية “ولنا أن نتعرف بأن الآداب ساهمت في تحقيق التواصل الثقافي منذ العصر اليوناني، والنهضة العربية، والأوروبية حتى نهايات القرن العشرين”.
ويعتبر المؤلف أن دولة قطر بعد كأس العالم ستكون مختلفة عما قبل، إذ سيتسع نطاق دبلوماسيتها الثقافية لإيمانها بأن التواصل الثقافي بين الشعوب هو شرط من شروط محركات التقدم الحضاري.
الثقافة أولا
يقول الشاعر الألماني غوته “ليس ثمة عقاب أقسى على المرء من العيش في الجنة بمفرده، فالمؤكد أن الوجود من دون الآخرين يبدو ضربا من المستحيل”، ومثلما يكون الإنسان مدنيا بطبعه بمعنى أهليته للتواصل مع غيره من البشر تكون المجتمعات مدنية في احتكامها إلى ضرورة التواصل الدولي.
وينظر المؤلف إلى الثقافة بوصفها شرطا للوجود الإنساني لما توفره من إمكانات لإبداعه في شتى المجالات، ويعتبر أنها حجر الأساس في العلاقات التي يقيمها الإنسان مع أبناء مجتمعه ومع المجتمعات الأخرى، ويقول “عندما أدعو إلى تمكين الثقافة من مكانتها الطبيعية في العلاقات الدولية فإنني لا أقدمها بديلا عن السياسة”، مستشهدا بمقولة للناقد الأدبي البريطاني تيري إيغلتون، إذ يقول إن الثقافة نتاج للسياسة أكثر بكثير من كون السياسة تلك الخادمة المطيعة للثقافة.
ويرفض الكاتب خطاب المفاضلة بين الثقافات، مشددا على أنه ما من ثقافة كاملة ونهائية ولا مجال للادعاء بأن ثقافة واحدة لها حظوة على أخرى أو تمتلك الشرط الأساسي لبناء الحضارة الإنسانية، ويرى بالمقابل أن الدبلوماسية الثقافية ليست حديثة فجذورها ممتدة في تربة الحضارات القديمة، لافتا إلى أن التاريخ الدبلوماسي للحضارات لم يكتبه التاريخ الرسمي، بل كتابات الرحالة التي تبادلتها الشعوب في ما بينها.
ويقول المؤلف إن السياسة الدولية سريعة التغيير، ولكن العرب مطالبون باستلهام التجارب الناجحة للقوة الناعمة والمضي في تفعيلها، فأثر الدبلوماسية الثقافية الغربية يتراجع قياسا بنمو دبلوماسية الصين التي تعمل على إعادة صياغة “قوانين اللعبة”، وقد منحت السياسة الخارجية الصينية للموارد الثقافية والاقتصادية دورا مركزيا في تحقيق هذه الغاية.
وأضاف المؤلف أن الدور الصيني يذكره بما لعبته الحضارة العربية الإسلامية في أزهى مراحلها حين كان العرب يهبون الإنسانية علومهم وآدابهم، فانتعشت حركة الترجمة بين العرب وغيرهم من الشعوب، لما تفطن إليه العرب من أثر للتبادل الثقافي في تطور الحضارة الإنسانية، مشيرا إلى استفادة الغرب من التراث الفكري العربي، وضاربا المثل بطليطلة في القرن الـ11 ميلادي، والتي كانت مركزا للترجمة يقدم للعالم الغربي ثمرات التآليف العربية.
وفي فصل بعنوان “الدور الغائب للثقافة في العلاقات الدولية”، يقول المؤلف إنه كثيرا ما يعود لتدبر الأفكار الواردة في كتاب “روح الأنوار” للفيلسوف الفرنسي تزفيتان تودوروف وهو أحد أبرز مفكري أوروبا وناقديها، منوها بهذا الصوت النقدي الذي يؤمن بأن الغرب خائن لعصر الأنوار، فالأنظمة الشمولية والاستعمارية التي نبعت منه لا يمكن أن تكون وليدة روح ذلك العصر، فأين هي من قيم العدل والحرية والتسامح وقبول الآخر، تلك القيم التي صدع بها فولتير ومونتيبكو وديدرو وغيرهم من المفكرين؟ وأين هي ثقافة التنوير التي كان من المفترض أن تؤسس لعلاقات دولية متسامحة بين الأمم؟ وهل آثار انحرافات هذه الثقافة لا تزال مبثوثة في خطابنا الثقافي المعاصر الذي يدعي احترام الثقافات، فيما تهيمن باسمه ثقافات على حساب أخرى.
وينقل المؤلف عن تودوروف قوله “ليس بإمكاننا بلوغ هدف نبيل بوسائل قذرة لأن الغرض المنشود يتلاشى في الأثناء، فبهذه الكيفية فعلا تصرف المستعمرون الذين أقدموا على إخضاع شعوب بأكملها بحجة جعلها تتمتع بمبدأ المساواة، وبهذه الكيفية أيضا تتصرف اليوم القوات المسلحة التي تزعم وهي تنتشر هنا وهناك جلب الحرية للشعوب وتعمد من أجل هذه الغاية إلى قصفها بقنابل إنسانية”.
المونديال
يتناول الكتاب تجربة تنظيم قطر لمونديال 2022 في فصول عدة، ويرى المؤلف أن هذه النسخة من المونديال أعادت الأمل من جديد في قدرة العرب على مجاراة نسق الحضارة.
وأضاف المؤلف “لأكن أكثر جرأة في القول إن هذا النجاح المستفز لكل العنصريين في العالم مكن العرب والمسلمين من التخلي عن تلك الصورة التي كست تفكيرهم بشأن دورهم في العالم، وهي صورة استشراقية تعمد الغرب الاستعماري تصويرها لنا وإرغامنا على الاقتناع بأنها حقيقتنا..”.
وأشار المؤلف إلى أن قطر اعتنت بالدبلوماسية الرياضية منذ سنوات، معتبرا الرياضة جزءا من إستراتيجية السلام الدولي، ومنوها بدور الخارجية القطرية في السنوات الأخيرة في جهود الوساطة المتعددة في ملفات سياسية ساخنة وشائكة من قبيل اتفاق السودان ولبنان 2008 وأفغانستان 2022 وتشاد 2022.
وفي السياق، اعتبر المؤلف أن قطر قدمت الثقافة العربية خير تقديم بإنقاذها من النمطية المجحفة التي كرسها الغرب في إعلامه وأفلامه السينمائية.
وضم الكتاب مجموعة من التوصيات، منها مقترحات لتعزيز اللغة العربية وتطوير مكانتها، إذ يرى الكاتب أن لكل مرحلة نظامها الثقافي وينبغي التفكير جديا في إبداع هذا النظام بشروط جديدة أكثر واقعية وفاعلية مما كانت عليه في السابق، فالتحولات التي تعيشها المنطقة العربية هي مخاض عسير لولادة مرحلة جديدة ولا يمكن استبعاد الحاجة إلى الدبلوماسية الثقافية من هذا النظام الجديد في زمن يحتاج فيه العرب إلى استئناف حقيقي لحضارتهم.