صدر حديثا كتاب جماعي بعنوان “القضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر الأبعاد التاريخية والتحولات الجيوستراتيجية” عن مؤسسة عقول الثقافة بشراكة مع مركز معارف المستقبل للبحوث والدراسات.
وتبلور جزء من الأوراق العلمية التي ضمها هذا الكتاب من خلال 5 ندوات علمية دولية عن بعد نظّمها “مركز معارف المستقبل للبحوث والدراسات” بتنسيق مع “مركز أندلس للأبحاث والدراسات”، بدأت منذ الـ11 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 وكانت هذه السلسلة العلمية بعنوان:”طوفان الأقصى: الأبعاد التاريخية والدلالات الإستراتيجية”. وذلك بغرض المواكبة العلمية والتحليل الأكاديمي من لدن نخب فكرية وأكاديمية مغربية وعربية لهذا الحدث ومآلاته على كافة المستويات السياسية والإستراتيجية والاقتصادية والحضارية.
وفي ضوء ذلك، جاءت محاور هذا العمل محاولة لاستيعاب مختلف أبعاد القضية الفلسطينية في ظل تحولات معركة طوفان الأقصى، وما أفرزه من نماذج جديدة في الحروب العسكرية وأشكال المقاومة التحررية، وما ولّده من حروب إعلامية ورقمية ونفسية تستهدف بالصورة والدعاية والتحكم في المحتوى الرقمي، خلق حالة ملتبسة من لوم الضحية وتبرئة الجلاد، ناهيك عمّا حصل من ارتباك في التجارة والملاحة الدوليتين ومن تعثر في النظام الاقتصادي العالمي، وما خلفه من توتر وإحراج قانوني وأخلاقي للمؤسسات الدولية.
تحديات
وقد اجتهد الكتاب والباحثون والمترجمون في قراءة التحديات الضاغطة والصعبة التي تمر بها القضية الفلسطينية والمنطقة العربية الإسلامية، من خلال تقديم قراءة في المشاريع المطروحة في المنطقة: سياقها ووسائلها وتجلياتها وإمكاناتها ومآلاتها وكيفيات التعامل معها، إضافة إلى تحليل الوضع الفلسطيني والعربي والدولي في خضم تحولات معركة طوفان الأقصى، وهي محاولة من أجل بناء موقف علمي يتجاوز العرض التسطيحي، ويغوص في أعماق الأحداث بما ينتج رؤية للواقع والمآل أكثر تفسيرية وموضوعية وإنصافا.
والمشاركون في الكتاب هم الأكاديميون والكتاب والباحثون: سلمان بونعمان، إسماعيل حمودي، فاطمة الزهراء هيرات، إدريس قسيم، محمد أقديم، عبد الحكيم أحمين، مصطفى الطالب، خالد عاتق، نور الدين أحمد لشهب، سعد عبد الرزاق السكندراني، يوسف المتوكل، محمد السعيد الكرعاني، والأستاذة: آمنة مصطفى دلة (مترجمة)، الحسن مصباح (مترجم).
حركة الذاكرة
ويقول الكاتب سلمان بونعمان في مقدمة الكتاب الجماعي إن “الطوفان” ذكّر العالم بأجمعه، أنه بعد أكثر 70 عاما على النكبة المستمرة، وأزيد من 50 سنة على النكسة وضياع فلسطين وتهويد القدس، لن تتغير حقائق الصراع مهما اجتهدت الصهيونية ومؤيدوها وأصدقاؤها في تحريف بوصلة الصراع وتغيير الوجهة وتمييع المعاني وتسميم الفكر، وأكّد أن قضية فلسطين لا يمكن تهميشها أو تغييبها، كما أكد “النموذج الطوفاني” المبدع أن الكيان الصهيوني ليس قوة مطلقة تحكم العالم ويستحيل هَزمها؛ ففي كل معركة ورغم اختلال موازين القوى المادية يثبت صاحب الحق أن كل شيء ممكن أن يتغير في حركة التاريخ، إذا توفرت الفكرة الأصيلة والإرادة الحرّة وتألقت الفاعلية الإنسانية وتفاعلت مع الإيمان المجاوز للمادة. وهذا ما أكدته حركة طوفان الأقصى ونموذجها الانتفاضي المقاوم، ورسخته كل تجارب المقاومة المسلحة وحركات التحرر الوطني، وهي تناهض كل أشكال الاحتلال الاستيطاني والاستعمار الإبادي، وتتمسك بحقها في الأرض والذاكرة والهوية، بحسب وصفه.
ويضيف “أهمية حدث السابع من أكتوبر وتداعياته وتأثيره تجاوز مساحة فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي ليفرض نفسه على بنية النظام الدولي برمته، فيختبر مؤسساته وفاعليه وقوانينه ويضعها على المحك، ثم يخترق “هدير فلسطين” قلب الجامعات الغربية والنخب الأكاديمية بها، لتصبح التظاهرات الطلابية في أرقى جامعات أوروبا وأميركا وأشهرها سمعة ومصداقية، مقرات للاعتصام والاحتجاج ضد الإبادة الإسرائيلية والتمويل الأميركي للإبادة، وتطالب بوقف الحرب والتجويع والحصار، وتصرخ الأجيال الشابة بأعلى صوتها:”فلسطين حرة”. وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ الجامعات الغربية من حيث رمزية حضور العلم الفلسطيني وألوانه ولبس الكوفية الفلسطينية في الفضاء الجامعي، وإصرار الأساتذة والطلاب على الصمود في وجه الأجهزة الأمنية التي تدخلت لفض الاعتصامات واعتقال الطلاب وتهديدهم بالطرد في صيغة تذكر بالدول الديكتاتورية والقمعية”.
ويتابع “لقد تنامى الدعم الشعبي العالمي لفلسطين ولحقوق شعبها ومطالبه، وتسارع بشكل لم يكن في حسبان الاحتلال وداعميه، رغم كل السياسات والتهديدات والإجراءات التي قامت بها الدول الغربية في تقييد حركة التضامن الإنساني. لقد مثلت انتفاضة الطلاب في الغرب حدثا دالا على تحولات عميقة تختمر في المجتمعات الغربية، فهو نجاح مقدّر للسردية العربية الفلسطينية الأصيلة، وفضح غير متوقع للرواية الصهيونية وسرديتها المزيفة، وخطوة مهمة في فضح ممارسات الاحتلال ومحاصرته دوليًا، وتعزيز المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية والشعبية”.
وفي حين اختارت غالبية النخب الفكرية والأكاديمية العربية “الحياد السلبي” وقررت “الصمت” تجاه الإبادة الجماعية في غزة بدعوى الموضوعية أو المصلحة الوطنية، كما وظف بعضهم قدراته المعرفية وأدواته البحثية لتبرير الاحتلال بتحميل المقـاومة المسؤولية عن هذه الجرائم البشعة وغير المسبوقة، بحسب مقدمة الكتاب.
خطاب النخب
إن خطاب هذه النخب -بوعي أو بدون وعي- صار جزءا من مشروع التطبيع الهادف إلى الصهينة الشاملة التي تتعرض لها المنطقة، فضلا عن فقدان هذه النخب للمصداقية العلمية والأخلاقية في تحيزها لصالح الظلم والاستكبار العالمي، وانكماشها عن إبداء أي موقف أخلاقي منحاز للمظلومين، بحسب الكتاب.
ويرى بونعمان أن “المعرفة تخيف دائما “الغالب/المسيطِر” الذي يقدم القوة على الحق، فيحرص على توظيفها ضد “المغلوب” بقلب الحقائق وتزوير السرديات. وإن امتلاك المعرفة والوعي بها يحرر الشعوب ويعزز ثقتها في ذاتها، ويشجعها على تحطيم الأساطير والتحرر من الأوهام ومساءلة نظام الأشياء القائم، وتفكيك السرديات المتغلبة (الإمبريالية والصهيونية في الزمن المعاصر)، مما يذكي فضيلتي التمرد والممانعة، فإذا انضاف إلى هذه المعرفة كل من الإيمان والإرادة والرسالية، تغيرت قوانين المعركة، وموازين القوى، وطبيعة الصراع واتجاهاته لصالح الشعوب الممانعة والمقاومة، وتحققت بشارات النصر والتمكين”.
ويعتبر أن معظم الخطاب العربي حول القضية الفلسطينية بقي حبيس خطاب اختزالي وتعبوي من جهة، ومستغرقا في مقاربات انفعالية وانطباعية من جهة أخرى؛ في ظل غياب للخطاب التفسيري المركب والمقاربات الفكرية والتاريخية والإستراتيجية المتعددة التخصصات، والقادرة على تقديم رؤية أكثر تركيبية لتحولات القضية الفلسطينية وتحليل تحدياتها، وهذا أحد أهداف هذا الكتاب الجماعي الذي يسعى إلى فهم عميق لطبيعة الصراع القائم في المنطقة، كما يقول.
ويرى أن الاشتغال المعرفي على دراسة المشروع الصهيوني وتياراته في علاقته بالقضية الفلسطينية، يقتضي الوعي المركب بالآخر/العدو والتعرف العلمي على مشروعه وآليات اشتغاله، وكذا مناهج تفكيره وحركاته ونفسياته، والفلسفات المؤطرة لفكره وسوسيولوجيا استيطانه، بالإضافة إلى فهم تحولات بنياته الاجتماعية والاقتصادية وجغرافيا تمدده في المحيط وتحالفاته الإقليمية والدولية، رصدا وتحليلا واستشرافا، فضلا عن وضع القضية الفلسطينية في سياق صراع المشاريع الكبرى ورهانات القوى الدولية والسياسات الغربية في المنطقة.