بين توقعات مسنودة بمعطيات باجتياح إسلامي لأوروبا، وحملات تهويل يقودها المتطرفون فكريا وسياسيا، أضحى الوجود الإسلامي في أوروبا واحدا من أبرز القضايا التي تشغل قادة الرأي وصناع القرار الأوروبيين.
وتعتبر أستاذة علم الاجتماع نيلوفر غول في كتابها “الإسلام والعلمانية” أن مستقبل أوروبا وديمقراطيتها باتا مرهونين بقدرتها على التغلب على سياسات الهوية والإشكالات المرتبطة بالمهاجرين المسلمين.
وتنطلق هذه المخاوف من حقيقة الوجود المتعاظم للإسلام في أوروبا، التي تعكس حالة الخوف والهلع التي تنتاب أوروبا رسميا وشعبيا من الإسلام والمسلمين.
ونتج عن ذلك إصدار العديد من القوانين والقرارات التي تحظر الحجاب والأذان والمساجد، إلى غير ذلك من ممارسات التضييق على المسلمين خصوصا في حرياتهم الدينية، رغم سقف الحرية المرتفع في أوروبا.
ولا تنحصر حالة الهلع من الإسلام عند هذا بل تتجاوزه إلى حظر النشاطات المتعاطفة مع قضايا المسلمين، كما وقع منذ بدء العدوان الحالي على غزة، ومنع الكثير من المظاهرات والأنشطة المنددة بالجرائم الإسرائيلية في العديد من المدن الأوروبية.
وتؤكد الباحثة نيلوفر غول أن مواجهة أوروبا مع الإسلام أمر محسوم في ظل ازدياد حملات التضييق والكراهية ضد المسلمين وتصدر الحركات اليمينية للمشهد السياسي.
تقديرات مستقبلية
تشير تقديرات استشرافية إلى أن المسلمين سيشكلون مع منتصف القرن الحالي خمس سكان الاتحاد الأوروبي، وهو ما تعززه دراسة لمركز بيو الأميركي للأبحاث توقعت أنه بحلول العام 2050 ستبلغ نسبة المسلمين 20% في ألمانيا و18% في فرنسا و17% في بريطانيا.
ونشر الباحثان بيير روستان والكسندرا روستان دراسة عام 2019 تحت عنوان: “متى سيكون السكان المسلمون الأوروبيون أغلبية وفي أي بلد؟”.
وخلصت الدراسة التي شملت 30 دولة أوروبية إلى أنه حسب السيناريو الأكثر ترجيحا فإن المسلمين سيصبحون أغلبية بعد نحو 100 عام في كل من السويد وفرنسا واليونان، وسيتأخر الأمر إلى نحو 115 في بلجيكا وبلغاريا، بينما سيستغرق ذلك نحو 150 عاما في كل من إيطاليا ولوكسمبورغ وبريطانيا.
وأكد هذه التوقعات الرئيس السابق للمكتب الاتحادي الألماني لحماية الدستور (المخابرات) هانز جورج ماسن في مقابلة مع صحيفة أكسبرس النمساوية، معتبرا أنه بحلول عام 2200 سيكون معظم سكان أوروبا مسلمين، ومحذرا مما وصفه بغزو ثقافة مختلفة تدمر تدريجيا الثقافة الأوروبية.
المعطيات الحالية
من الصعب الحصول على معطيات دقيقة للوجود الإسلامي الراهن في أوروبا لأسباب عديدة منها أن دساتير بعض الدول الأوروبية تحظر إجراء أي إحصاء على أساس ديني كما هو الحال في السويد مثلا، ومنها الإقبال المتزايد وغير المنظم على اعتناق الإسلام.
وتشير التقديرات إلى أن أعلى نسبة للمسلمين في الدول الأوروبية الرئيسية توجد في فرنسا، فحسب دراسة للمعهد الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية صادرة في يونيو/حزيران 2023 فإن 10% من الفرنسيين يعلنون أنهم مسلمون، بينما تشير تقديرات أخرى إلى أنهم يشكلون 15%.
وتشير التقديرات في دول أوروبية أخرى إلى نسب أقل مما عليه في فرنسا، ففي السويد تشير التقديرات إلى أن نسبة المسلمين تزيد على 8% بينما تحوم النسبة حول 7% في بلجيكا وبريطانيا وهولندا وألمانيا، وتقارب النسبة 6% في إسبانيا والدانمارك وإيطاليا.
الوجود الإسلامي
تجتمع عدة عوامل حاسمة تدل على أن الوجود الإسلامي في أوروبا في تصاعد، والأرجح أن وتيرته ستكون أسرع خلال الأعوام والعقود القابلة، ومن هذه العوامل:
- نمو مقابل انحسار
أكد تقرير لصحيفة “تلغراف” البريطانية في يناير/كانون الثاني 2023 حدوث تغيرات في القارة الأوروبية تتعلق بالهوية الدينية للسكان.
وشرحت الصحيفة أن هذه التغيرات تتجسد في زيادة مضطردة في أعداد الجاليات المسلمة المهاجرة من ناحية، وفي ارتفاع معدلات مواليد المسلمين في أوروبا مقابل انخفاض معدلات المواليد بين السكان الأصليين من ناحية ثانية.
وتظهر المؤشرات الفارق الكبير بين معدلات الإنجاب لدى السكان الأصليين والتي تقدر بـ1.5% في ألمانيا مثلا، وبين معدلات الإنجاب لدى السكان الجدد من المسلمين التي تصل أحيانا 8.1%.
ولهذا يؤكد باحثون في مجال الديموغرافيا أن التغير في أوروبا كبير وسيتضاعف خلال عقود، وهو عائد إلى أن الأوروبيين أنفسهم معرضون للضمور العددي، إذ تنخفض معدلات الخصوبة في أوروبا.
- اعتناق مقابل ارتداد
العامل الثاني أن الإقبال المتنامي على الإسلام في أوروبا يقابله إعراض أو ارتداد عن المسيحية في أوروبا، فقد كشفت دراسة أجريت في بريطانيا عام 2021، عن تحولات عميقة وغير مسبوقة داخل المجتمع الإنجليزي، ففي حين تتراجع بقدر كبير أعداد الأشخاص الذين يعلنون أنهم يعتنقون المسيحية، يرتفع عدد المواطنين الذين قالوا إنهم يعتنقون الإسلام.
هذا مع العلم أن نسبة كبيرة من الأوروبيين أصلا لا يدينون بشيء ويشكلون مثلا في بريطانيا نسبة 37% من السكان.
- كنائس تختفي ومساجد ترفع
ومن المؤشرات الدالة على تعاظم الوجود الإسلامي في أوروبا تهاوي الكنائس فيها واستبدالها في أماكن كثيرة بالمساجد، ففي حين يتراجع اهتمام المسيحيين الأوروبيين بكنائسهم، يقبل المسلمون على بناء المساجد بل ويشترون الكنائس المهملة لتحويلها إلى مساجد.
ونورد أمثلة من ذلك: ففي ألمانيا اشترى المسلمون كنيسة دورتموند يوهانس، وحولوها إلى جامع مركز دورتموند، وفي هولندا شيد جامع الفاتح في العاصمة أمستردام على أنقاض إحدى الكنائس.
وفي فرنسا حولت كنيسة دومينيكان في ولاية ليل إلى مسجد، وفي بريطانيا يوجد قرابة ألفي مسجد معظمها كانت كنائس في السابق.
وأوضحت دراسة أعدها معهد الرأي العام الفرنسي أنّ 4.5% فقط من عامة الشعب الفرنسي يذهبون إلى الكنائس بشكل منتظم، بينما أغلقت 515 كنيسة في ألمانيا خلال الأعوام العشر الأخيرة لقلة الاهتمام بها.
من العوامل المعززة لهيمنة الإسلام مستقبلا في أوروبا أن جميع أبناء المسلمين تقريبا يصبحون مسلمين، وهو ما لا ينطبق على أبناء المسيحيين.
فقد أظهرت دراسة اجتماعية أجريت في فرنسا أن توريث الدين أقوى بين المسلمين، حيث إن 91% من الأفراد الذين نشؤوا في أسرة مسلمة أكدوا انتماءهم إلى دين آبائهم، مقابل 67% فقط من المسيحيين.
- الأوطان الطاردة
عامل آخر كان وسيظل على المدى المنظور المحرك الرئيسي لهجرة أغلب المسلمين هو الأوضاع المضطربة والظروف الاقتصادية الصعبة في بلدانهم الأصلية.
ولا تلوح في الأفق القريب تحولات جذرية في هذه البلدان تحقق الاستقرار والازدهار وتحد بالتالي من هجرة أبنائها فضلا عن عودة مهاجريها، وهو ما يعني استمرار أوروبا في استقطاب أبناء المسلمين الباحثين عن فرص حياة أفضل.
من المؤشرات على تنامي الإسلام في أوروبا أن المسلمين باتوا قوة سياسية يحسب لها حسابها، وأقرب مثال على ذلك حضورهم المؤثر في الانتخابات البريطانية الجزئية التي جرت مطلع مايو/أيار الجاري، حيث ساهموا في جر حزب المحافظين إلى أسوأ هزيمة انتخابية له منذ 40 عاما بسبب مواقفه الداعمة للعدوان الإسرائيلي على غزة، بل وعاقبوا أيضا حزب العمال لذات السبب.
وأدى لإحداث تغيير جذري في التركيبة الحزبية البريطانية، بحيث حل الحزب الليبرالي ثالثا، كما تمكن الناخبون المسلمون في نفس الوقت من منع مرشحة حزب المحافظين الحاكم المعروفة بعدائها للمسلمين من النجاح في منصب عمدة العاصمة لندن.
وقد اعترفت قيادة حزب العمال بأن رسالة أنصار غزة وصلت وأنها تنظر فيها، ولذلك لا يستبعد مراقبون تغييرا في خطاب الحزب حول فلسطين في الأيام القادمة، فلعل ذلك يمكنه من استمالة الناخبين المسلمين فيحصل على أغلبية في الانتخابات التشريعية المقبلة.
تضخيم وتهويل
وفي مقابل هذه المعطيات الواضحة والمتكآت الموضوعية حول قوة وتنامي الوجود الإسلامي في أوروبا، هناك مؤشرات أخرى على وجود مساع حقيقية لتضخيم هذا الوجود لتخويف الأوروبيين وتصوير الأمر على أنه تهديد وجودي لهم.
وتقف وراء هذا التهويل جهات متطرفة سياسية وفكرية ودينية، ويتجلى في تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا وازدياد حملات الكراهية ضد المسلمين في أوروبا.
واختارت الاتجاهات اليمينية في أوروبا تصوير المسلمين كعدو وهو ما نشأ عنه ما بات يعرف برهاب الإسلام أو الإسلاموفوبيا، والتي شكلت أرضية لبث حملات الكراهية ضد المسلمين ومهدت للاعتداءات المتصاعدة ضدهم.
وبدت الحكومات الأوروبية عاجزة عن الوقوف في وجه هذه الحملات، بل إن الحكومة البريطانية تراجعت عن إصدار قانون كانت قد تعهدت بإصداره لوضع تعريف رسمي للإسلاموفوبيا.
ويؤكد بعض القائمين على المنظمات الإسلامية في أوروبا أن مؤشرات عديدة تظهر عدم اكتراث الحكومات الأوربية بما يتعرض له المسلمون من عنصرية وتضييق.
اليمين المتطرف
تصاعد حضور التيار اليمني المتطرف في المشهد السياسي الأوروبي خلال السنوات الأخيرة، وكان آخر فصول ذلك فوز حزب الحرية الهولندي في انتخابات 2023، وقبله تمكنت رئيسة حزب “إخوة إيطاليا” جورجيا ميلوني عام 2022 من الوصول إلى رئاسة الحكومة.
وبالإضافة لهولندا وإيطاليا يحكم اليمين المتطرف في المجر وسلوفاكيا وهو جزء من تحالفات حاكمة في فنلندا وليتوانيا والسويد، ويتأهب للانقضاض على السلطة في ألمانيا من خلال حزب “البديل لألمانيا”.
وفي فرنسا بواسطة حزب “التجمع الوطني” الذي وصل للشوط الثاني من الانتخابات الرئاسية في الاقتراعين السابقين واحتل المرتبة الأولى في الانتخابات الأوروبية الأخيرة.
ويرى باحثون سياسيون أن ظاهرة اليمين المتطرف آخذة في التنامي أوروبيا، بل إن عدواها مست الأحزاب التقليدية التي بدأ بعضها استنساخ مقولات اليمين المتطرف سيرا مع التيار.
الاستبدال العظيم
مما يغذي الكراهية ضد المسلمين في أوروبا شيوع بعض الأفكار والمعتقدات المتطرفة مثل ما يعرف بنظرية الاستبدال العظيم وتقوم على شعور بالمؤامرة ضد الإنسان الأبيض وتكالب الآخرين عليه لإحلال أعراق أخرى مكانه.
ويقول أستاذ الدراسات العرقية والإثنية بجامعة ميامي الأميركية رودني كوتس إن أصول هذه النظرية تعود لأواخر القرن الـ19، ففي عام 1892 حذر الكاتب والسياسي البريطاني تشارلز بيرسون من أن البيض “سوف يستيقظون يوما ليجدوا أنفسهم محاصرين ومُزاحمين وربما مطاردين”.
ومع التدفق الهائل للمهاجرين إلى أوروبا تعززت المخاوف من انقراض “البيض” لدى أصحاب هذه النظرية، فظهرت دعوات إلى السعي بحملة تستهدف تحديد النسل أو التعقيم القسري لغير “البيض” من الأعراق الأخرى.
واستمرت أفكار هذه النظرية تعشعش في أذهان بعض المثقفين الغربيين، فقد تبناها حرفيا الكاتب الفرنسي رينو كامو في كتابه “الاستبدال العظيم” الصادر عام 2011، حيث اعتبر أن العرق الفرنسي والأوروبيين البيض تم استبدالهم جسديا وثقافيا وسياسيا بمجموعات أخرى، وأن سياسات الهجرة الليبرالية والانخفاض الكبير في معدلات المواليد البيض يهددان الحضارة والتقاليد الأوروبية.
وتردد صدى نظرية الاستبدال مع الهجوم الإجرامي الذي نفذه الأسترالي برينتون تارانت في نيوزيلندا في مارس/آذار 2019 وأودى بحياة 51 مسلما أثناء صلاتهم في أحد المساجد، وردد تارانت عبارة “الاستبدال العظيم” في البيان الذي كشف فيه دوافع فِعلته، وقال إنه لاحظ أثناء زيارة لفرنسا غزو السكان غير الأوروبيين للغرب وهو ما دفعه لارتكاب جريمته.
وفي الختام نجد أن أوروبا والدول الغربية تقع بين خيارين أحلاهما مر، فهي إما أن تيسر استقبال المهاجرين وأغلبهم مسلمون فيكثرون وينتشرون، وإما أن تضيق عليهم مع ما قد يعنيه ذلك من تضاعف أزماتها الاقتصادية بفعل نقص اليد العاملة، وتزداد شيخوختها فتحث الخطى نحو نهايتها.