إشارات مخادعة.. كيف تؤثر هجمات الخداع على رحلات الطيران المدني؟

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 8 دقيقة للقراءة

في أواخر أغسطس/آب من العام الماضي، بدأ الطيارون ممن يعملون ضمن منطقة الشرق الأوسط في الإبلاغ عن حالات تعرض أنظمة الملاحة على متن طائراتهم لإشارات مزيفة من نظام “جي بي إس”، مما أدى أحيانا إلى إظهار الطائرة وكأنها بعيدة عن مسارها بمئات الكيلومترات.

خلال الفترة الماضية، وقعت الطائرات التجارية، التي تحلق فوق منطقة الشرق الأوسط وشمال أوروبا، ضحية لسلسلة من حوادث خداع نظام تحديد المواقع العالمي (GPS spoofing)، التي أدت إلى انحراف أنظمة الملاحة على متن تلك الطائرات عن مسارها، مما يشكل خطورة متزايدة على حركة الملاحة الجوية في مختلف أنحاء العالم، بحسب ما أكده خبراء المجال وهيئات الطيران الدولية.

ينتج عن هذا فقدان كامل للقدرات الملاحية، مما يجبر طاقم الطائرة في بعض الحالات بالاعتماد على التوجيهات الشفهية من مراقبي الحركة الجوية، وفقا لما ذكرته منظمة “أوبس غروب” (Ops Group)، وهي منظمة تضم في عضويتها الطيارين ومنظمي الرحلات الجوية. وقد تأثرت الطائرات بمختلف أحجامها بتلك الحوادث، بما في ذلك طائرات رجال الأعمال الصغيرة وطائرات البوينغ 777 الضخمة.

وقعت أولى الحوادث التي أُبلغ عنها في منطقة من المجال الجوي العراقي بالقرب من حدود البلاد مع إيران، التي تستخدمها عادة الرحلات الجوية المتجهة بين أوروبا ودول الخليج. وهذا الأمر قد يؤدي إلى حوادث دولية حقيقية، كما قال تود همفريز أستاذ هندسة الطيران بجامعة تكساس في أوستن لمجلة فورين بوليسي.

ارتفاع في معدل الهجمات

في السنوات الأخيرة، تزايدت الهجمات على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي والأنظمة الأوسع نطاقا للملاحة عبر الأقمار الاصطناعية، المعروفة باسم “جي إن إس إس” (GNSS)، بما في ذلك إشارات أنظمة الملاحة في أوروبا والصين وروسيا.

تأتي العمليات الهجومية على تلك الأنظمة في نوعين، أولا التشويش على نظام “الجي بي إس” الذي يهدف إلى إغراق الإشارات اللاسلكية التي يتكون منها النظام، مما يجعله غير صالح للاستخدام. وثانيا، هجمات الخداع التي يمكنها استبدال الإشارة الأصلية بإشارة أخرى لموقع جديد.

التشويش على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS Jamming) من الظواهر الشائعة نسبيا، وخاصة حول ساحات الحروب والمواقع العسكرية الحساسة، إذ تُستخدم تلك الممارسة لتفادي وتشتيت الضربات المحتملة من الطائرات المسيرة أو الصواريخ الموجهة. لذا، ينتبه الطيّارون إلى تلك المواقع الإقليمية الخطرة التي يُحتمل أن تقع بها مثل تلك الحوادث، ويمكنهم الاعتماد على وسائل المساعدة الملاحية الأخرى المتاحة على متن الطائرة.

لكن في حوادث الخداع، تُبث إشارات زائفة تتسبب بدورها في تضليل المعدات الإلكترونية للطائرة بحيث تحتسب موقعها بشكل خاطئ وتعطي توجيهات مضللة للطيار، وهو ما يعني خداع جهاز الاستقبال الخاص بنظام “الجي بي إس” داخل الطائرة ليعتقد أنها تحلق في منطقة ليست موجودة فيها فعلا.

يشير الخبراء إلى أن عمليات الخداع قد تفوق في خطورتها عمليات التشويش على أنظمة “الجي بي إس”، لأن الطيار قد لا يدرك ما يحدث أصلا في بادئ الأمر، كما أن الإشارات الخادعة قد تصيب النظام المرجعي للقصور الذاتي “آي آر إس” (IRS) في الطائرة الذي يمثل مركز العصب الملاحي فيها.

وفي فبراير/شباط الماضي، ذكرت وثيقة نقاشية، صادرة عن اجتماع لمكتب الشرق الأوسط التابع لمنظمة الطيران المدني الدولي، أنه “منذ أغسطس/آب عام 2023، تبلغ أطقم القيادة في الطائرات عن نوع جديد من عمليات خداع نظام تحديد المواقع العالمي، إذ تصبح الإشارة قوية وذات درجة من الصلاحية كافية لتغذية أنظمة الطائرة. والنتيجة هي أنه في غضون دقائق يصبح النظام المرجعي للقصور الذاتي غير صالح للاستخدام، وفي كثير من الحالات تُفقد كل قدرات الملاحة على متن الطائرة”.

كما يؤكد أحد الباحثين في جامعة تكساس أن التغيير الأكبر في الأشهر الستة الماضية هو بالتأكيد مقدار عمليات الخداع التي أصابت الطائرات خلال تلك المدة الزمنية، وفقًا لتقرير موقع وايرد. فمثلًا داخل حدود إقليم البلطيق، أظهرت 46,000 طائرة علامات محتملة على التشويش بين شهري أغسطس/آب 2023 حتى مارس/آذار 2024، وفقا لتقارير وبيانات موقع “جي بي إس جام” (GPS Jam)، وهو موقع يستخدم البيانات المتاحة للعامة عن الرحلات الجوية لتحديد مناطق التشويش المحتملة في أنحاء العالم.

وخلال شهر أبريل/نيسان الماضي، تعرضت أكثر من 15 ألف طائرة لعمليات خداع لمواقعها في مطار بيروت، وفقا لبيانات أشار لها موقع وايرد. كما أظهرت البيانات أن أكثر من 10 آلاف طائرة قد تعرضت مواقعها للخداع في مطار القاهرة، في حين أن أكثر من ألفي طائرة ظهرت مواقعها في ياروسلافل في روسيا.

آثار ثانوية للحروب

في المرحلة الحالية، يؤكد الخبراء أن مخاطر خداع نظام “الجي بي إس” التي تتسبب في تحطم الطائرة منخفضة نسبيا. وأشار الأستاذ تود همفريز إلى أن قطاع الطيران يعاني حاليا من الآثار الثانوية للتشويش وخداع أنظمة “الجي بي إس” حول ساحات الحروب التي تهدف في الأساس إلى صد الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة.

فقد ارتفعت معدلات البلاغات عن عمليات الخداع في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط بعد بدء الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو ما يرجح الخبراء بأنه محاولة من الجيش الإسرائيلي لإحباط أي هجوم صاروخي تنفذه قوات حزب الله، وفقا لتقرير مجلة فورين بوليسي.

ومنذ الحرب الروسية على أوكرانيا في عام 2022، شهدت دول شمال أوروبا أيضا موجة من التشويش على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي، بما في ذلك ارتفاع في بلاغات الخداع التي بدأت في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2023. إذ أظهر موقع “جي بي إس جام” ارتفاعا في التشويش على إشارات نظام “جي بي إس” في دول البلطيق وشمال أوروبا منذ 25 ديسمبر/كانون الأول الماضي.

وكما هو الحال في الشرق الأوسط، يأتي التشويش على أنظمة “الجي بي إس” في أوروبا نتيجة لتأثير غير مباشر، مما يحدث في ساحة الحرب المحيطة. وأشار رئيس المخابرات العسكرية بإستونيا، لمجلة فورين بوليسي، أن أغلب الحالات مرتبطة بتأمين القواعد العسكرية الروسية، إذ يشوش الروس على الترددات لتجنب هجمات الطائرات المسيرة القادمة من أوكرانيا، وقد واجهت روسيا العديد من تلك الهجمات بطائرات مسيرة منذ اندلاع الحرب، بما فيها هجمات على العاصمة موسكو. وهو الأسلوب نفسه الذي اتبعه الجيش الإسرائيلي للتشويش على صواريخ ومسيرات إيران التي أطلقتها ضد دولة الاحتلال في 13 أبريل/نيسان الماضي.

3D illustration. Two waving on wind flags. Russia and Ukraine.; Shutterstock ID 1011237385; purchase_order: aljazeera ; job: ; client: ; other:

تفوق روسي

بالرغم من أن القوات المسلحة الروسية يُنظر إليها عموما على أنها أقل براعة من الناحية التقنية مقارنة بنظيراتها الغربية، فإن الخبراء ومسؤولي الاستخبارات يشيرون إلى تفوق موسكو في مجال الحرب الإلكترونية. وفي مقابلة مع صحيفة بلومبيرغ في يناير/كانون الثاني الماضي، أشار قائد قوات الدفاع الإستونية الجنرال مارتن هيرم إلى أن روسيا ربما تختبر قدراتها في التشويش على تلك الأنظمة تحسبا لأي حرب مستقبلية مع دول حلف الناتو.

تمتلك روسيا سجلا حافلا في عمليات التشويش على إشارات أنظمة “جي بي إس” في شمال أوروبا، كما أنها قادرة على توظيف مجموعة من تقنيات الحرب الإلكترونية، ومنها التشويش على نشاط الطائرات المسيرة والصواريخ في أوكرانيا، كما كثفت روسيا من أنشطة التشويش في موسكو وسان بطرسبرغ لتجنب هجمات محتملة بالطائرات المسيرة، كما أشار تقرير بلومبيرغ.

وكانت وزارة الدفاع الروسية قد أكدت سابقا أن وحدات الحرب الإلكترونية التابعة لها في كالينينغراد أجرت تدريبات على التشويش على إشارات الراديو والأقمار الصناعية. وأوضح هيرم “لقد أظهرت روسيا قدراتها في الحرب الإلكترونية في أماكن أخرى، ليس فقط في أوكرانيا ودول البلطيق. إنهم أقوياء بالتأكيد في هذا المجال”.

وفي نهاية أبريل/نيسان الماضي، صرح رئيس الشؤون العامة في البحرية السويدية جيمي أدامسون لموقع وايرد “لا يمكن استبعاد احتمال أن يكون هذا التشويش نوعا من أنواع الحرب الهجينة التي تهدف إلى خلق حالة من الشك والاضطرابات”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *