لم يخل الرد الإيجابي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) على مقترح الوسطاء من المطلب الأساسي الداعي لوقف الحرب على غزة، الأمر الذي وجدت فيه الحكومة الإسرائيلية صعوبة في قبوله، فأرسلت دباباتها إلى معبر رفح واحتلته في حركة استعراض للقوة.
وتهدف إسرائيل من هذا التحرك إلى ممارسة ضغوط ميدانية على حماس، بدون أن تضطر لإثارة حفيظة الولايات المتحدة والعالم بعملية شاملة في رفح.
فما حقيقة الموقف الإسرائيلي من المقترح، في ضوء الموقف الأميركي الذي سبق وأبدى تفهما لمصطلح وقف العمليات العسكرية والعدائية بشكل دائم الذي ورد في الاتفاق؟
مطالب أساسية
من المهم الإشارة إلى أن حماس تجنبت تقديم مقترح جديد كما فعلت في مرحلة سابقة من المفاوضات، وأعلنت موافقتها على مقترح الوسطاء بعد أن عملت معهم على إدخال تعديلات تتوافق مع مطالبها، وتؤمن مخرجا مناسبا للخلافات، وتسمح لحكومة نتنياهو بالنزول عن الشجرة التي اعتلاها برفض وقف إطلاق النار.
فاستخدمت مصطلحا سبق أن قدمته الولايات المتحدة، ويتحدث عن “وقف العمليات العسكرية والعدائية”، وأضافت لها “بشكل دائم”.
علما أن التعديلات التي أجرتها هذه الحركة على صيغة باريس نجحت في تثبيت مطالب أساسية، وهي -حسب تصريحات قادتها- وقف العدوان بشكل دائم، وانسحاب الاحتلال من كامل قطاع غزة، وعودة النازحين بدون قيد أو شرط، والإغاثة وإعادة الإعمار وإنهاء الحصار، وإنجاز صفقة تبادل حقيقية وجادة.
وبهذا التكتيك، ظهرت حماس بموقف المسهل للاتفاق، على عكس الصورة التي كان يتمناها نتنياهو ويسوق لها بأنها تعطل الاتفاق، بل إنها رمت كرة اللهب تجاه الحكومة المتشددة.
وبدون شك، فقد قدمت حماس استحقاقات مهمة، مثل تخفيض معادلة تبادل الأسرى لصالح التركيز على المطالب الإغاثية الإنسانية التي تخفف من آلام ومعاناة حاضنتها الشعبية، في ظل معركة طويلة يخوضها الشعب الفلسطيني مع الاحتلال.
كما تمسكت حماس بمطلب عودة النازحين بدون أي عقبات إسرائيلية، عبر التأكيد على انسحاب القوات الإسرائيلية من معبر نيتساريم ودوار الكويت.
غير أن المقاومة لم تكن لتفرط بمطلب انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، ووقف الحرب، إذ لا معنى لتبادل الأسرى، بدون أن يتم النص على عدم قيام جيش الاحتلال بشن عدوان جديد على غزة بعد أن تكون المقاومة فقدت ورقة الأسرى، وهي أهم ورقة تفاوضية لديها.
وقسمت ورقة حماس (نشرت في الجزيرة 2024/5/6) الاتفاق إلى 3 مراحل، وتضمنت تأكيد مطلب رفع الحصار عن الشعب الفلسطيني بنهاية المرحلة الثالثة.
ومن خلال مراجعة بنود الاقتراح، نجد أن حماس وافقت على خطة حقيقية لوقف الحرب وتبادل الأسرى مع معالجة آثار الحرب وإغاثة الشعب الفلسطيني، على عكس ما يريده الاحتلال من عملية تبادل أسرى فقط.
اجتياح معبر رفح
لم تخف حكومة الاحتلال تفاجئها بإعلان حماس موافقتها على مقترح الوسطاء، ولكنها حرصت على القول إن المقترح جرى عليه تعديلات غير مقبولة لديها، بل إن بعض التسريبات تحدثت عن غضب من موافقة مدير المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وليام بيرنز الذي كان في الدوحة، على مطالب حماس بدون أن يتشاور مع إسرائيل.
وباشرت قوات الاحتلال بعملية عسكرية لاحتلال معبر فتح، واحتلت من أجل ذلك نحو 3.5 كيلومترات من محور صلاح الدين (فيلادلفيا) الذي يمتد بطول 14.5 كيلومترا من البحر المتوسط حتى معبر كرم أبو سالم، وتزامن ذلك مع الإعلان عن إرسال وفد تفاوضي غير مخول لمصر لمناقشة الصيغة الجديدة لمقترح الوسطاء.
وفي التصريح الذي أدلى به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكد أن مقترح حماس بعيد عن المطالب الضرورية بالنسبة لإسرائيل، معتبرا أن الهدف منه “نسف دخول قواتنا إلى رفح وهذا لم يحدث”.
كما أكد نتنياهو أن إسرائيل لن تسمح لحماس بإعادة بناء قدراتها العسكرية، واستعادة الحكم في قطاع غزة، بمعنى أنه يريد الحصول على الأسرى، ثم يستأنف الحرب على غزة.
وقد كشفت القناة الإسرائيلية 12 عن أبرز الاعتراضات التي يراها نتنياهو وفريقه التفاوضي على المقترح الجديد، ولكن عند التدقيق فيها نجد أنها خلافات على أساس عددي، وهذا على الأغلب لن يشكل عائقا أمام الاتفاق في النهاية.
أما الخلاف الأساسي فيتمثل بالإعلان عن وقف الحرب قبل الشروع بالمرحلة الثانية، إضافة إلى مطالبة إسرائيل بفرض الفيتو على أي فلسطيني من أصحاب الأحكام العالية تطالب به حماس مقابل المجندات.
خلافات إسرائيلية
وعزز الاقتراح الجديد الخلافات داخل حكومة الحرب الإسرائيلية، فعلى خلاف رغبة نتنياهو الذي يريد تعطيل الصفقة ومنع الوصول لاتفاق يؤدي لوقف الحرب وتعريضه للمحاكمات، فإن عضوي المجلس من كتلة المعسكر الوطني، بيني غانتس وغادي آيزنكوت يطالبان بالتوصل لصفقة تؤدي لعودة الأسرى.
ويتناغم موقفهما مع الموقف الأميركي بهذا الصدد، بل ويتعرضان لضغوط من قاعدتهما الانتخابية حول جدوى استمرار وجودهما في حكومة فشلت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وتفشل في إدارة الحرب، وتسعى لإطالة أمدها لأهداف شخصية تخص نتنياهو.
غير أن إدارة نتنياهو للتفاوض سيؤدي إلى زيادة الخلافات داخل ائتلافه، خصوصا في ظل فشل الاحتلال من تحقيق هدفي الحرب بالقضاء على حماس وتحرير الأسرى.
وقد توصلت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مجتمعة على أن الكيان فقد ميزتين أساسيتين في هذه الحرب، وهما: الدعم الأميركي ووحدة الشارع، وأن الحرب وصلت إلى طريق مسدود، وذلك يضرب مبررات نتنياهو للاستمرار بالحرب وتسويق ذلك بشعار النصر الكامل الذي هو غطاء لرغبته في الاستمرار في الحكم، وتجنب محاكمته بالفساد وبالفشل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وبعدها.
وسيؤدي الموقف المتشدد لنتنياهو إلى تسعير الاحتجاجات من قبل أهالي الأسرى، بما يشكل ضغطا متصاعدا على الحكومة بمختلف أطيافها.
الموقف الأميركي
إن استمرار الهجوم على رفح سيعزز من التباينات مع الحكومة الأميركية، التي تسعى للتوصل إلى اتفاق وقف النار، لإنقاذ شعبيتها التي تضررت كثيرا من فظاعات الحرب التي ارتكبها الإسرائيليون، وتضعضع التحالف الغربي الذي أنشأته مع بداية الحرب، ومطالبة العديد من الدول الأوروبية بوقف إطلاق النار.
كما أن إدارة بايدن تسعى لتحقيق وقف إطلاق نار لإنجاز عملية تطبيع بين إسرائيل والسعودية، وتضغط بقوة من أجل ذلك، لأنها تريد تحسين موقفها في الانتخابات الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام. ولذلك، تضغط على حكومة نتنياهو للتعامل بإيجابية مع مقترح الوسطاء، الذي أدى موافقة حماس عليه إلى توجيه سهام الضغط على الكيان.
وفي هذا السياق، أكدت مصادر عدة أن الإدارة الأميركية، وبقرار من مجلس الأمن القومي الأميركي أجّلت إرسال شحنات محددة من الأسلحة من إنتاج شركة بوينغ إلى الاحتلال، وتفيد المصادر أن التأجيل تم لأسبوعين فقط، ولكن دلالة الموضوع أنها المرة الأولى منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول التي يتم فيها اتخاذ مثل هذا الإجراء بحق إسرائيل.
على أن هذا الإجراء المحدود لا يقلل من أهمية استمرار الدعم الأميركي، الذي عبر عنه بايدن مؤخرا عندما قال إن “دعم الولايات المتحدة لإسرائيل ثابت ولن يتغير حتى لو كانت هناك خلافات”.
ولا ينفي ذلك استمرار تخوف الإدارة الأميركية من قرار نتنياهو باجتياح رفح، حيث قال الناطق بلسان وزارة الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر “إن سيطرة إسرائيل على معبر رفح بين مصر وقطاع غزة تبدو بمثابة مقدمة لعملية عسكرية كبيرة”.
على أن الإدارة الأميركية تدرك أنها ما لم تنجح في كبح جماح نتنياهو، فإن شن هجوم كبير على رفح سيؤدي إلى توقف المفاوضات، خصوصا أن حماس هددت بذلك في حال تنفيذ الهجوم، وهو ما يؤدي إلى الإضرار بالإستراتيجية الأميركية التي تسعى للهدوء في المنطقة ليس لتوفير الأجواء لعملية التطبيع فقط، بل للحيلولة دون انزلاق المنطقة لتصعيد إقليمي يتعارض مع سعيها للتركيز على الصين وروسيا.
إلى أين تذهب الصفقة؟
من الصعب التكهن بمستقبل الصفقة في ظل التفاعلات داخل إسرائيل، والصيغة التي ستتوصل لها الحكومة في التعامل مع مقترح الوسطاء، والتباينات مع الموقف الأميركي.
ولكن من المرجح أن تستمر المفاوضات أياما أو حتى أسابيع، وستشهد ضغوطا أميركية معتدلة على إسرائيل بما في ذلك محاولة ثنيها عن شن حرب شاملة على رفح.
غير أن هذه الضغوط المعتدلة، مثل تأخير وصول شحنات الأسلحة للكيان قد لا تكون كافية للجم طموح نتنياهو لاستمرار الحرب وتعطيل أي صفقة للأسرى، بما في ذلك المضي قدما في احتلال أجزاء أخرى من رفح مع احتمال التسبب بمجازر، ستؤدي إلى المزيد من تفكك الدعم الغربي لإسرائيل، وتصاعد المواجهات مع حزب الله والحوثيين.
ومن المشكوك فيه أن يحقق العدوان على رفح نجاحا لم يحققه جيش الاحتلال في الشمال والوسط، بل قد يؤدي- حسب تقديرات الأجهزة الأمنية- لمواجهة أفخاخ إستراتيجية أعدتها المقاومة لجيش الاحتلال.
ومن المرجح ألا يتعامل نتنياهو جديا مع المفاوضات إلا بعد أن ينجح بتسويق إكمال مهمته واحتلال كل غزة وتحقيق هدف النصر الكامل، ولكنه قد يضطر مع تصاعد الضغوط الأميركية إلى التعامل الإيجابي مع مقترح الوسطاء قبل اكتمال مهمة احتلال رفح، خصوصا أن شركاءه لا يرون خلافات جوهرية بين ما تريده إسرائيل وبين ما هو معروض في الصفقة.
وقد يسفر ذلك عن الشروع بتطبيق المرحلة الأولى من الصفقة بعد التوصل لحلول مرضية للطرفين، مع استمرار تمسك المقاومة برهن المضي بالمرحلتين الثانية والثالثة ببند صارم يؤكد وقف إطلاق النار.
حيث إن المقاومة تستطيع من خلال تطبيق المرحلة الأولى أن تحقق إنجازات مهمة على صعيد إغاثة الشعب الفلسطيني ووقف جرائم الاحتلال فضلا عن النجاح بالإفراج عن نحو ألف فلسطيني بينهم 250 مقاوما من أصحاب الأحكام العالية والمؤبدات، مع استمرار الاحتفاظ بالورقة الأهم وهم العسكريون.
غير أن نتنياهو وبعد الموافقة على الصفقة بإدخال تعديلات عليها، قد لا يستطيع تسويقها أمام شركائه المتشددين، بما يؤدي لانسحابهم من الحكومة. ولا يشترط أن يؤدي ذلك لانفراط عقد الحكومة، وذلك بعد تعهد خصمه المعارض نفتالي بينيت بتوفير شبكة أمان له إذا ما قرر المضي في الصفقة.
وربما يؤدي شعور الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش بعدم توفر بدائل لهم في حالة الخروج من الحكومة، بالبقاء فيها ومحاولة تعطيل ما يستطيعون من الصفقة.
ولذلك قد يتضمن هذا السيناريو نجاحا للمرحلة الأولى، ولكن نجاح المراحل الأخرى يظل غير مضمون.
وفي كل الأحوال فإن توقيع الصفقة سيؤذن بنهاية حكومة نتنياهو على المدى المنظور، وسيعزز موقع المقاومة ويعطيها الفرصة لالتقاط أنفاسها في معركة مستمرة مع الاحتلال، وسيحبط محاولات إيجاد البديل عنها، مع تفعيل خطة إعادة الإعمار لقطاع غزة من خلال حكومة وطنية ضمن توافق فلسطيني.
وما تؤكده هذه المفاوضات أن المقاومة لا تدخل المفاوضات في حالة ضعف وانكسار، كما أن إسرائيل لا تدخلها ضمن حالة انتصار تستطيع بها فرض شروطها. ولكن معادلات الواقع التي تضغط على الطرفين تحتم عليهما اللجوء لصفقة تبادل ووقف النار ضمن جهود الوساطة العربية والدولية.