أخلاقيات ثقافية وآفاق زمنية.. تباين تصورات الغد بين معمار العالمين العربي والغربي

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 11 دقيقة للقراءة

التفاعل بين البيئة والإدراك في نسيج الوجود البشري الواسع يؤثر بعمق على رؤيتنا الجماعية للمستقبل. وتستكشف هذه الرحلة الفسيفساء المعقدة للآفاق العربية والغربية تجاه الغد، مع فحص كيفية تشكل البيئات المتنوعة للوعي الجمعي لكل من المجتمعين.

وتقف جمالية الأراضي القاحلة والكثبان الرملية المتغيرة باستمرار في تناقض مع التلال الخضراء والمناظر الطبيعية الغنية في الغرب، حيث تترك كل بيئة أثرها اللافت على التعبيرات الثقافية، من السرد الأدبي والمعتقدات الدينية إلى المعالم المعمارية. ومهمتنا هي كشف الخيوط التاريخية التي تنسج معًا مختلف التصورات الزمنية والطموحات.

الظروف القاسية للصحراء وقلة موارد الحياة فيها تدفع ساكنيها لقراءتها بطرق إبداعية ومتجددة باحثاً عن طرق جديدة للنجاة تحت تلك الظروف. ولذلك يميل قاطنوها لرؤيتها كنص مفتوح: فسعتها وسيولتها تسمح بتفسيرات ثقافية متنوعة، مما يجعلها رمزًا قويًا لزوال الحياة وشاهداً على مرونة البشر في البقاء على الحياة.

الرموز الثقافية والسيميائيات البيئية

في العالم العربي، الصحراء ليست مجرد ظاهرة جغرافية بل هي رمز ثقافي عميق مشبع بمعانٍ متعددة. ومفهوم “العمل المفتوح” لأومبيرتو إيكو مفيد بشكل خاص هنا. وفي “العمل المفتوح” يناقش إيكو الأعمال الفنية والنصوص التي تكون متعمدة النقصان أو التي يكتسيها الغموض، مما يسمح بمجموعة من التفسيرات من قبل الجمهور. وعند تطبيق هذا على الصحراء، فإن الظروف القاسية للصحراء وقلة موارد الحياة فيها تدفع ساكنيها لقراءتها بطرق إبداعية ومتجددة باحثاً عن طرق جديدة للنجاة تحت تلك الظروف. ولذلك يميل قاطنوها لرؤيتها كنص مفتوح: فسعتها وسيولتها تسمح بتفسيرات ثقافية متنوعة، مما يجعلها رمزًا قويًا لزوال الحياة وشاهداً على مرونة البشر في البقاء على الحياة.

غالبًا ما ترمز المناظر الطبيعية الخضراء ووفرة موارد الحياة المستقرة في الغرب إلى الاستمرارية والاستقرار وإرث يتجاوز هشاشة الحياة البشرية ويعطي شعوراً بالاستغناء. وتعمل هذه المناظر الطبيعية كرموز ثقافية لمجتمع يقدر السيطرة ويسعى على الدوام للقوة سواء في بيئته أو في منتجاته الثقافية.

وبالمقابل، يمكن تحليل المناظر الطبيعية الخصبة والمستدامة للعالم الغربي باستخدام نظرية إيكو عن “النصوص المغلقة” كما ورد في كتابه “حدود التفسير”. والنصوص المغلقة هي تلك التي تكون فيها المعاني أكثر تحديدا وتقييدا، مما يوجه القارئ أو المراقب نحو تفسيرات محددة. وغالبًا ما ترمز المناظر الطبيعية الخضراء ووفرة موارد الحياة المستقرة في الغرب إلى الاستمرارية والاستقرار وإرث يتجاوز هشاشة الحياة البشرية ويعطي شعوراً بالاستغناء. وتعمل هذه المناظر الطبيعية كرموز ثقافية لمجتمع يقدر السيطرة ويسعى على الدوام للقوة سواء في بيئته أو في منتجاته الثقافية. وهذا واضح في السردية الغربية للتقدم، حيث يُنظر إلى السيطرة على الطبيعة من خلال الزراعة والتطوير الحضري كمؤشر على تقدم الإنسان وتفوقه. وتُعد التلال الخضراء والجبال الراسخة رمزًا لنظرة عالمية تطمح إلى مستقبل مضبوط ومتوقع، وهي مكون رئيسي من وعود الحداثة الغربية.

الفن كانعكاس ثقافي

يعد الفن مرآة قوية تلتقط جوهر روح الثقافة. ونرى ذلك جليا في العالم العربي، حيث تروي الصحراء حكايات الانتقال ومرونة التكيف، وغالبًا ما تجسد التعبيرات الفنية إيقاع الحياة الديناميكي على الرمال المتحركة. وتعكس الزخارف العربية المعقدة والأنماط الهندسية الساحرة في الفن الإسلامي القوانين العلمية والنظام الذي يقف عليه هذا العالم المتغير في حالة كينونة مستمرة، لتنعكس حاجة العربي التواقة لما يطمئن روحه لتسكن إليها وتجذرها فيما هو ثابت وغير متقلب.

وعلى النقيض من ذلك، يعكس الفن الغربي، الذي يتميز بتركيزه على ديمومة المناظر الخضراء، مفاهيم الاستمرارية والملكية، ويظهر ذلك جليًا في عصر النهضة، حيث يُحتفل بانتصارات الإنسان وتمجيد الحياة الدنيوية. ففنانون بارزون -مثل ليوناردو دا فينشي وميكل أنغلو- أبدعوا في رسم الشكل البشري، معتبرين إياه رمزًا للقوة الأبدية، مما يعكس سعي الغرب نحو خلق إرث يبقى على مر العصور. كما يٌظهر اهتمامهم بتطوير تقنيات الرسم المنظوري، والتي تعمل على التقاط الواقع وتجسيده في لوحات فنية رغبةً في تملكها وتوثيق تلك اللحظات عبر الزمن.

الدين ورؤية المستقبل

تلعب المعتقدات الدينية دورًا حاسمًا في تشكيل الآفاق الثقافية لما هو آت. وفي الساحة الصوفية، كتيار روحي ضمن الإسلام، تبرز كمثال فريد على تأثير البيئة على التجربة الدينية. وتنشأ الصوفية في مناطق مختلفة، لكن لها جذور عميقة في البيئات الصحراوية التي تغلب على العالم العربي. والصحراء، بامتدادها الواسع وقسوتها، تفرض تحديات خاصة تنعكس في التصوف من خلال التأكيد على فكرة الفناء والتجرد من الماديات. والممارسات الصوفية مثل الذكر والتسبيح الجماعي تهدف إلى تحقيق الوحدة مع إرادة الله، معبرة عن تقدير عميق للحياة كرحلة روحية تتجاوز الارتباطات الدنيوية.

وتعلم الصحراء الصوفيين كيفية التعايش مع عدم اليقين والتقلبات الحياتية. والبيئة القاحلة والمناظر الطبيعية البسيطة تسهم في تطوير منظور يرى الجمال في التقشف ويجد الراحة في العزلة، مما يعزز تقدير اللحظة الحاضرة والبحث عن معنى أعمق في العالم الروحي، وبالمقابل جعلته ميالًا للزهد بالدنيا وظواهرها المادية.

وفي المقابل تتبنى العديد من التقاليد الروحية، في الغرب، نظرة ترى الكون كمخلوق مرتب ومحدد بأمر إلهي، حيث توجد خطة مسبقة واضحة للمستقبل. وهذه المعتقدات -التي تعزز فكرة الخلاص ورؤية كونية ثابتة- تسهم في تشكيل منظور يميل نحو الاستقرار والدوام، كما ناقش لين وايت جونيور في مقالته “الجذور التاريخية لأزمتنا البيئية”. ووفقًا لوايت، فإن هذا النمط من الفكر قد شجع على استغلال الموارد الطبيعية بطريقة قد تكون متعارضة مع الاستدامة البيئية. وإن الرؤية الدينية التي تُعلي من شأن الإنسان وتُعطيه السلطة الأخلاقية لتسخير الطبيعة قد سهلت تطوير سياسات تُظهر قلة الاهتمام بالعواقب البيئية طويلة المدى.

البيئة العمرانية كشاهد ثقافي

في تفكيك ألغاز العمارة والتخطيط العمراني، تبرز الحاجة الماسة لفهم أعمق للمكونات الفضائية التي تشكل نسيج أي مدينة أو مبنى. ويوضح الدكتور وليد أحمد السيد في مقاله “السالب والموجب بين العمارة العربية والغربية في التصميم الحضري” جوهر هذه المقارنة في التعرف على الفروق الجوهرية بين الفضاءات الفراغية في العمارة العربية التقليدية مقابل العمارة الغربية المعاصرة، حيث يوضح أن هذه المساحات، المعروفة بالحيز الفراغي الموجب والسالب، تحمل أبعادًا ثقافية واجتماعية عميقة تتجلى بوضوح في تخطيطها واستخدامها. والحيز الفراغي الموجب يتكون من الكتل المعمارية كالجدران والفواصل التي تفصل الداخل عن الخارج وتميز العام عن الخاص.

وفي العمارة العربية، يظهر هذا الحيز بشكل يمكن وصفه بالعفوي وغير المنظم، حيث تتداخل الشوارع والأزقة بشكل يبدو طبيعيًا وتدريجيًا من المتسع إلى الضيق. وهذا التنظيم يعكس البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية التي تعتبر الخصوصية والألفة عناصر مركزية.

والتحليل المفصل للنظم العمرانية لا يقتصر على الملاحظة السطحية لتوزيع المساحات، بل يمتد ليشمل الدور الذي تلعبه هذه الفضاءات في التأثير على التفاعلات اليومية وتشكيل الهوية الثقافية. ومن خلال استكشاف هذه الديناميكيات، نستطيع أن نرى كيف تؤثر العمارة والتخطيط العمراني ليس فقط في شكل المدن، بل وفي نسيج حياة من يعيشون فيها، مع مراعاة الفروقات الثقافية والاجتماعية العميقة بين المجتمعات.

كما يوضح الدكتور خالد عزب في كتابه “فقه العمران” أن التخطيط الحضري للمدن يستند إلى مبدأين فقهيين رئيسيين هما: حديث النبي “لا ضرر ولا ضرار” والآية القرآنية “خذ العفو وأْمُر بالعرف وأعرض عن الجاهلين” فهذه المبادئ تشكل أساس التنظيم الذاتي للفضاءات المشتركة والبينية في النسيج العمراني، مما يسمح بتكيفه وتفاعله المستمر مع مستجدات الحياة عبر الأزمنة والأمكنة.

ومن ناحية أخرى، تظهر المدن الغربية تخطيطًا معماريًا يركز على الحيز الفراغي السالب، حيث تحتل الشوارع والساحات مكانة مركزية، غالبًا ما تكون مستقيمة ومنظمة بشكل يبدو مفروضًا على الكتل المعمارية المحيطة. وهذا النهج يعكس قيم الوضوح والتخطيط والتنظيم، والتي هي حجر الزاوية في الفكر الغربي المعاصر. ومثالًا على ذلك، تم تخطيط مدينة باريس الذي قام به جورج أوجين هوسمان، وتصميم الشوارع والبوليفارات بطريقة تسبق الاستيطان وتحدد أساليب الحياة المستقبلية.

والتحليل المفصل للنظم العمرانية لا يقتصر على الملاحظة السطحية لتوزيع المساحات، بل يمتد ليشمل الدور الذي تلعبه هذه الفضاءات في التأثير على التفاعلات اليومية وتشكيل الهوية الثقافية. ومن خلال استكشاف هذه الديناميكيات، نستطيع أن نرى كيف تؤثر العمارة والتخطيط العمراني ليس فقط في شكل المدن، بل وفي نسيج حياة من يعيشون فيها، مع مراعاة الفروقات الثقافية والاجتماعية العميقة بين المجتمعات.

رؤى متباينة للمستقبل

جسر الرؤى الزمنية الثقافية مع تجولنا عبر المشهد الغني للتعبيرات الفنية، والسرد الأدبي، والمعتقدات الدينية، والتخطيط العمراني للمدن، تبرز الرؤى المتباينة للمستقبل بين العالم العربي والغربي بوضوح. والصحارى المتغيرة والمناظر الخضراء الثابتة لها تأثير عميق على هذه الرؤى الثقافية، مخلفةً إرثًا دائمًا على التراث الفني، والأدبي، والديني، والمعماري. وتدعونا هذه الرؤى الزمنية المتنوعة، المنحوتة من بيئاتها المتباينة، إلى التأمل في الطيف الواسع لطموحات الإنسان ونحن نستشرف مستقبلات غير مكتشفة بعد.

وفي مواجهة التباينات البيئية بين العالم العربي والغربي، تبرز الاختلافات اللافتة في استجاباتهم الوجودية. وفي النطاق العربي، حيث تتميز الأراضي بقسوتها وندرة المساحات الخضراء، تظهر فلسفة للوجود متأصلة في الزوال بدلاً من الديمومة، مفضلة البرية اللامحدودة على حدود الحضارة. وآفاق الصحارى الواسعة تخدم ليس فقط كلوحات لتأمل الكون بل أيضًا كمسيل لتشكيل الروح العربية، روح تتوق لتجسيد الشجاعة، والكرم، والشهامة، والشرف.

زرع هذا الانقسام البيئي أخلاقيات ثقافية متميزة في كليهما: في العالم العربي، روح مرنة مثل الصحراء، تتقبل الزوال. وفي الغرب، روح دائمة مثل التلال الراسخة، تسعى لنقش علامة دائمة على الأرض.

وفي المقابل، نرى كيف أن الغرب، عبر العصور، طور أدوات تمكنه من الاستفادة من موارده وتحسين جودة الحياة، مما أدى إلى حياة أكثر تطورًا وتعقيدًا. ومع ذلك، نرى كيف أن التزام الغرب بقراءته للعالم “كنص مغلق” قد أوصله إلى الصدام مع الطبيعة، مما يضطره اليوم إلى إعادة النظر في طريقته لفهم العالم.

ولقد زرع هذا الانقسام البيئي أخلاقيات ثقافية متميزة في كليهما: في العالم العربي، روح مرنة مثل الصحراء، تتقبل الزوال. وفي الغرب، روح دائمة مثل التلال الراسخة، تسعى لنقش علامة دائمة على الأرض. وبينما نقف على مفترق طرق هذه الرؤى الزمنية، نُدعى للتفكير في كيفية تشكيل بيئاتنا لرؤيتنا للمستقبل، وأي إرث نختار أن نتركه وراءنا، وكيف يمكن لهذا التباين في المنظور أن يثري استدامة حضارتينا.


  • باحث في قضايا الهندسة المعمارية *

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *