أعلنت وزارة المالية المصرية، الأسبوع الجاري، تحقيق الموازنة العامة للدولة، فائضًا أوليًا خلال فترة التسعة أشهر الأولى من العام المالي 2024/2023، يتجاوز 8 مرات ونصف نفس الفترة من العام المالي السابق.
وقال وزير المالية، محمد معيط، إن الفائض الأولي وصلت نسبته إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي بقيمة 416 مليار جنيه، بمعدل نمو سنوي يتجاوز 8 مرات ونصف، وذلك رغم التأثر بالأزمات العالمية.
والتصريحات الحكومية عن تحقيق فائض أولي أثار تساؤلات بشأن دلالته وتأثيره، وعما إذا كان يعني تحسن الوضع الاقتصادي لمصر.
صورة مُضللة
وقال أستاذ الاقتصاد بجامعة لافبروه البريطانية، كريم سليمان، لموقع الحرة” إن “الفائض الأولي هو الفارق بين الإيرادات والمصروفات بعد استبعاد مصروفات الديون وفوائدها وليس قبلها”، موضحا أن “المؤشرات الحكومية ليست دقيقة وتعطي في الغالب صورة مضللة عن تحقيق إنجازات وهمية، وهذا الأمر ليس في مصلحة أحد”.
وأضاف أن “وزير المالية قال، في مارس الماضي، إن الفائض الأولي و50 في المائة من عائدات برنامج الاكتتاب الأولي سيتم تخصيصهما لخفض الدين وخدمته بشكل مباشر”.
وتابع الخبير الاقتصادي أن “الوزير قال في حوار مفتوح حول مشروع الموازنة الجديدة مع ممثلي الاتحاد العام للصناعات وجمعية رجال الأعمال المصريين وغيرهما، في مارس الماضي، إن موازنة العام المالي المقبل استثنائية، وتهدف إلى تحقيق فائض أولي بنسبة 3.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي”.
ويرى سليمان أن “هذا التصريح يعطي صورة مضللة عن الواقع” لأن “إجمالي الإيرادات المحلية يبلغ نحو 2.5 تريليون جنيه، بينما تبلغ النفقات العامة نحو 3.8 تريليون جنيه بمعدل نمو 23 في المائة”.
وتحدث سليمان عن دلالة الفائض الأولي بشكل عام، قائلا إنه “عندما نسمع في أي دولة عن تحقيقها لفائض في الموازنة، فهذا يعني أن الحكومة تنفق عند المستويات المتوقعة مع الوقت الذي تتماشى فيه الإيرادات مع التوقعات، لأن الفائض هو نتيجة لعنصرين أساسيين، الأول هو نجاح الجهود المبذولة لاحتواء التكاليف والإنفاق والثاني تجاوز الإيرادات للتوقعات والتي نادرًا ما تملك الحكومة أي سيطرة حقيقية عليها باستثناء رفع الضرائب أو خفضها”.
وأضاف أن “فائض الموازنة يعكس وجود اقتصاد صحي سليم قادر على الإنتاج وتخطي نفقاته وأن الحكومة تُدار بشكل فعال وبالتالي معيشة أفضل لأفراد المجتمع”.
وتابع “كما يمكن للحكومات في حالة تحقيق فائض أن تخُصصه لخفض الضرائب على الأفراد وتطوير البنية التحتية وتطوير برامج تحسين وضع الفرد مثل الضمانات الاجتماعية والرعاية الصحية”.
لكن أستاذ الاقتصاد أوضح أن “ما يحدث في مصر هو العكس تقريبا”، وقال إنه “من الممكن أن يكون هناك فائض في الموازنة في حالة خفض الحكومة الإنفاق وزيادة الضرائب، وهذه هي الحالة المصرية نظرا للزيادة الكبيرة في القروض التي تحصل عليها الحكومة سنويًا لتعويض العجز بين الإيرادات والمصروفات، وسداد فرائد القروض السابقة، بالإضافة إلى رفع الدعم تقريبا عن أغلب السلع الأساسية مثل الخبز والبنزين، وكذلك الكهرباء التي تشهد انقطاعات مستمرة”.
الديون تلتهم الجزء الأكبر
وقلل الخبير الاقتصادي، محمد جلال فاضل، لموقع الحرة” من أهمية التصريحات الحكومية عن تحقيق فائض أولي، قائلا إن “الحكومة لا تقدم الصورة كاملة”، مضيفا أنه “لا يجب إغفال ذكر الديون والفوائد التي تلتهم الجزء الأكبر من مصروفات الميزانية”.
وأضاف أن “حجم الدين المحلي وصل إلى 6 تريليون جنيه في الربع الأول من عام 2023، كما ارتفع الدين الخارجي إلى 165.361 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام الحالي”.
وتابع: “مصر لا تزال حتى الآن تقترض بشكل يزيد عن الفائض الأولي وذلك لتسديد فوائد الديون التي تأخذ حوالي 47.5 في المئة من مصروفات الموازنة العامة الحالية للدولة، بالإضافة إلى تطور إجمالي خدمة الدين كنسبة من الإيرادات الضريبية خلال السنوات الماضية والذي زاد من 55% في عام 2020 إلى 140% في عام 2023 ، وبالتالي في هذا الوضع، لا توجد أهمية كبيرة للفائض الأولي نتيجة تضخم حجم الدين”.
وقال إن “فوائد الدين العام على مصر وصلت إلى حوالي 2.4 تريليون جنيه، في حين أن الإيرادات تبلغ 2.14 تريليون جنيه، وهذا يعني أن الإيرادات التي يُحققها الاقتصاد المصري أقل من التزامات الدين العام بمفرده”.
وأوضح فاضل أن “الحديث عن تحقيق فائض أولي لا يعكس تحسن الوضع الاقتصادي أو عجلة الإنتاج في مصر، بل يعتبر نتيجة لعوامل خارجية مثل انخفاض أسعار بعض المنتجات والسلع التي تستوردها مصر بشكل أساسي من أوروبا مثل الغاز الطبيعي والقمح والأرز، أخذاً في الاعتبار أثر تحصيل 12 مليار دولار تمثل 50 في المائة من إيرادات مشروع تطوير مدينة رأس الحكمة لصالح الخزانة العامة، التي تعد مورداً استثنائياً غير متكرر، وصاحبها موافقة صندوق النقد على المزيد من القروض”.
وقال معيط في مؤتمر صحفي، في مارس الماضي، إن مصر تتوقع تحقيق فائض أولي لا يقل عن 3.5 بالمئة في السنة المالية التي تبدأ في الأول من يوليو ٢٠٢٤، معلنا أن بلاده ستتلقى تمويلا يبلغ 3 مليارات دولار من البنك الدولي.
وأضاف معيط أن مصر تهدف إلى إبقاء نسبة الدين دون 90 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وكشف معيط أن مصر ستحصل على تمويل يبلغ 3 مليارات دولار من البنك الدولي، وذلك في إطار حزمة تمويل من صندوق النقد الدولي للبلاد بقيمة متوقعة 20 مليار دولار.
وجاءت تصريحات الوزير بعد أربعة أيام من خفض مصر قيمة عملتها إلى نحو 50 جنيها للدولار من 30.85 جنيها، ورفعها أسعار الفائدة الرئيسية لليلة واحدة بمقدار 600 نقطة أساس، إلى جانب الإعلان عن اتفاق دعم مالي موسع بقيمة 8 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي.
وفي أواخر فبراير، أعلنت مصر عن صفقة مع القابضة (إيه.دي.كيو)، أحد صناديق الثروة السيادية الإماراتية، من شأنها أن تجلب للبلاد 35 مليار دولار على مدى شهرين، بما في ذلك 11 مليار دولار محولة من الودائع الموجودة بالفعل.
ومع خطوة البنك المركزي التي سمحت بتراجع حاد للجنيه، أعلنت السلطات عن اتفاق مع صندوق النقد الدولي لزيادة القرض الحالي لمصر إلى ثمانية مليارات دولار ارتفاعا من ثلاثة مليارات دولار في السابق.
وتسعى مصر أيضا للحصول على 1.2 مليار دولار من صندوق الاستدامة البيئية التابع لصندوق النقد لصالح البلدان الضعيفة ذات الدخل المنخفض أو المتوسط.
وتعاني مصر من نقص طويل الأمد في العملة الصعبة تفاقم في مطلع 2022، الأمر الذي أبطأ النشاط الاقتصادي وأدى إلى عجز في السلع المستوردة.
وتسارع التضخم وبلغ مستويات مرتفعة على نحو قياسي في العام الماضي، وتسببت موجة اقتراض في ارتفاع مستويات الدين الخارجي للبلاد.
وأكد معيط، في مارس الماضي، أن “العام المالي المقبل سيشهد فرض سقف صارم على ديون أجهزة الموازنة والهيئات الاقتصادية، مع عدم السماح بتجاوزه إلا بموافقة رئيس الجمهورية ومجلسي الوزراء والنواب”.
وأشار إلى أن “الفائض الأولي و50 في المائة من عائدات برنامج الاكتتاب الأولي سيتم تخصيصهما لخفض الدين وخدمته بشكل مباشر، مع بدء عملية خفض الدين وخدمته بشكل مباشر، بما يتماشى مع أهداف وضع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي على مسار تنازلي والبدء في خفضها إلى أقل من 80 في المائة خلال السنوات الثلاث المقبلة”.
تغيير العقلية الاقتصادية
وقال الخبير الاقتصادي، محمد عبدالشكور، لموقع “الحرة” إن “تحقيق مصر لفائض أولي يعكس تغيير العقلية الاقتصادية التي كانت تدار بها البلاد خلال الأعوام الماضية وتسببت في تأزم الوضع، موضحا أنه يجب الاحتفاء بأي تقدم أو نجاح ملحوظ والذي يمكن اعتباره مؤشرا على بداية تحسن الوضع الاقتصادي”.
وأضاف أن “هذا الفائض الأولي جاء مدفوعًا بتزايد الإيرادات غير الضريبية بنسبة 122.9%، وتحقيق إيرادات ضريبية بأكثر من تريليون جنيه بمعدل نمو 41.2 % دون فرض أعباء جديدة على المواطنين أو المستثمرين، وذلك من خلال التوسع في أعمال المكينة الهادفة لتوسيع القاعدة الضريبية، ودمج الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي”.
وتحدث الخبير الاقتصادي عن خطة الحكومة لخفض الدين، قائلا إن “السياسة المالية الحالية التي أعلنتها الحكومة تستهدف خفض فاتورة خدمة الدين إلى 30% من المصروفات العامة على المدى المتوسط، ضمن استراتيجية متكاملة لوضع معدل الدين في مسار نزولي ليبلغ 80% في يونيو 2027، وأن يصل عمر محفظة دين أجهزة الموازنة إلى 3.3 عام بنهاية يونيو 2024، للتخفيف من الاحتياجات التمويلية للموازنة العامة”.
ونفى عبدالشكور أن المواطن هو من يتحمل بمفرده ضريبة تحقيق مثل هذا الفائض الأولي، قائلا إن “موازنة العام المالي 2024/2025 تركز على الإنفاق المخصص للحماية الاجتماعية وقطاعات التعليم والصحة والتنمية البشرية، كما تهتم بالتنمية الريفية من خلال مبادرة حياة كريمة، وكذلك تسعى لتنفيذ منظومة التأمين الصحي الشامل، إلى جانب إجراء توسعات في زيادة الرقعة الزراعية والإنتاجية الزراعية لتحقيق الأمن الغذائي للمواطنين”.
وقال الخبير الاقتصادي إن “الموازنة العامة للدولة رفعت مخصصات الدعم والحماية الاجتماعية إلى 635.9 مليار جنيه في العام المالي الجديد 2024/2025 مقارنة بـ529.7 مليار جنيه في العام المالي الحالي بمعدل نمو سنوي 20%، مقسمة بين دعم السلع التموينية والمواد البترولية، كما تم زيادة دعم برامج الإسكان الاجتماعي وعلاج المواطنين على نفقة الدولة”.