الجزائر- كشف وزير خارجية الجزائر أحمد عطاف، عن فتح بلاده رسميّا ملف تواجد قوات فاغنر خلف حدودها الجنوبية في منطقة الساحل الأفريقي مع روسيا. وأوضح، في لقاء مع ممثلي وسائل إعلام محليّة، أنه ناقش الأمر شخصيّا مع نظيره الروسي سيرغي لافروف.
وأعلن المسؤول الحكومي الجزائري عن إنشاء آلية مشتركة، تضم دبلوماسيين وأمنيين، برئاسة الأمين العام لوزارة الخارجية، لوناس مقرمان، عن الجانب الجزائري، وميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية، والمبعوث الشخصي للرئيس فلاديمير بوتين، عن الطرف الروسي.
وأكد عطاف أنّ اللجنة الثنائية المكلفة بمتابعة تواجد قوات فاغنر في الإقليم ستجتمع مرة أخرى في المستقبل القريب.
وتعتبر هذه التحركات الأولى من نوعها في موقف الجزائر من الحضور الروسي في المنطقة، بعدما ظلت مرارًا تُعرب عن رفضها للتواجد الأجنبي في المنطقة، خاصة في ليبيا وعقب الانقلاب الأخير في مالي.
وتأتي مساعي الجزائر مع حليفها الإستراتيجي في وقت أبرمت فيه موسكو اتفاقات مع عدد من دول الساحل، ومع قوات خليفة حفتر داخل ليبيا.
وفي شهر مارس/آذار الماضي، قال مركز “ذي جيمستاون فونديشن” (مؤسسة جيمستاون) الأميركي إن الاستخبارات العسكرية الروسية تولت نشاط مجموعة فاغنر في ليبيا من خلال الفيلق الأفريقي التابع لوزارة الدفاع الروسية.
ويرى مراقبون أنّ روسيا وضعت بذلك موطئ قدم لها في عدد من مناطق أفريقيا بديلا للقوات الغربية، وعلى رأسها الفرنسيّة والأميركية، في إطار التنافس على النفوذ القارّي، وهو ما يجعل التفاعل مع مطالب الجزائر المتوقعة بخصوص وضع فاغنر أمرًا معقّدا.
مسألة أمن قومي
وفي هذا الصدد، قال الخبير في الشؤون الأمنية للساحل الأفريقي أحمد ميزاب، إن الجزائر رفضت بشكل واضح الحضور الروسي عن طريق فاغنر أو غيره، لأن الأمن القومي بالنسبة لها فوق كل الاعتبارات.
وأوضح ميزاب في تصريح للجزيرة نت أن الرئيس عبد المجيد تبون في زيارته إلى موسكو في شهر يونيو/حزيران 2023 تحدث عن التوجه نحو علاقات إستراتيجية معمقة، لكنه في الوقت نفسه مرّر رسائل مفتاحية لروسيا وللآخرين، بمقولته الشهيرة التي أطلقها هناك “الجزائريون وُلدو أحرارًا وسيبقون أحرارًا”، تعبيرًا منه عن عدم القبول بسياسة الضغط أو المساومة لأجل التنازل على المواقف.
كما شدّد تبّون حينها من موسكو على “مبدأ عدم الانحياز ورفض سياسة المحاور”، في رسالة أخرى مفادها أن الجزائر لن تكون وسيلة للصراع بين القوى الدوليّة، برأي الخبير ميزاب.
وخلال الأيام الماضية، أكد رئيس أركان الجيش، الفريق أول، سعيد شنقريحة، عند استقباله، الممثل الخاص لرئيس فدرالية روسيا للشرق الأوسط وأفريقيا، على “القرار السيّد للجزائر وبسط سيادتها كاملة غير منقوصة على إقليمها الوطني”.
ويقرأ الخبير ميزاب رسالة رئيس الأركان في اتجاه الرفض القاطع للحضور العسكري الأجنبي، بعيدا عن شكل العلاقات الإستراتيجية وطبيعتها مع أي طرف.
وأضاف المتحدث أنّ روسيا أدركت انزعاج الجزائر، مما دفع بها لمناقشة الملفّ بحثًا عن صيغة توافقيّة، لكي لا تنعكس الأمور على العلاقات الثنائية بين البلدين.
بروتوكول يضبط “فاغنر”
ومن جهته، يعتقد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة “الجزائر3” توفيق بوقعدة، أنّ حالة الاستياء ازدادت بعد مشاركة فاغنر رفقة الجيش المالي في الاستيلاء على كيدال، وكان من نتائجه التخلي عن اتفاق الجزائر للمصالحة.
وقال للجزيرة نت، إن الامتعاض الجزائري ترجمه توقف الاتصالات الدبلوماسية، وكذا تجاهل الإعلام الرسمي الجزائري للانتخابات الرئاسية الروسية الأخيرة.
واعتبر بوقعدة، الخبير في قضايا الساحل الأفريقي، أنّ تأسيس “آلية متابعة مشتركة” هو في حد ذاته إقرار بحالة الأزمة في العلاقات الروسية الجزائرية، جرّاء نشاط فاغنر.
ويقدّر المحلل أن الهدف هو البحث عن مسار يحدّ من الضرر الذي مسّ المصالح الحيوية للجزائر بالمنطقة، وكبح دوره في تقويض الأمن والاستقرار بدول مجاورة للبلاد، نتيجة استقواء الحكام الجدد في مالي والنيجر بروسيا في إبطال الحلول السلمية وفرض الأمر الواقع بقوة السلاح، على حد تعبيره.
لكنه يستبعد أن تطالب الجزائر روسيا بسحب قواتها من الساحل، لأنها “تدرك جيدا ما تصبو إليه من خلال استعمال مجموعة فاغنر في فرض نفوذها على القارة، في إطار صراع أوسع مع القوى الغربية، والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص”.
لذلك تسعى الجزائر، من خلال هذه الآلية، إلى “وضع بروتوكول يرسم حدود نشاط فاغنر، عندما يتعلق الأمر بمصالح الجزائر وأمنها الإستراتيجي”، وفق الخبير الجزائري ذاته.
أوراق جاهزة
وفي السياق، أكد بوقعدة، أن الجزائر تملك مجموعة من الأوراق ستضعها على الطاولة في مباحثات اللجنة الثنائية، أوّلها علاقاتها الإستراتيجية مع روسيا، باعتبارها أكبر زبائنها في أفريقيا، ويربطهما تاريخ طويل من التفاهم والتعاون في القضايا الإقليمية والدولية.
كما تدرك روسيا جيدا أنّ المغامرة بعلاقاتها مع الجزائر أمر له ما بعده، حتى على الهدف الذي تسعى إليه في أفريقيا نفسها، بينما الخيارات البديلة للجزائر عن روسيا موجودة، كما يقول الخبير، مؤكدا أن “صانع القرار الجزائري جادّ في تغيير وجهته، لو استشعر اللامبالاة الروسية تجاه مخاوفه”.
ويعتقد المحلل أنّ مؤشرات ذلك عديدة، خاصة ما يتعلق بتوريد الأسلحة، حيث انفتحت الجزائر على أسواق جديدة، مثل الصين وتركيا وإيطاليا.
كما أن الجزائر لن تتوانى عن تشكيل تكتل أفريقي يعرقل المصالح الروسية في القارة السمراء، بتكثيف جهودها الدبلوماسية في الإطار الثنائي أو الجماعي، لمعالجة المشاكل الأمنية والسياسية التي تتحرك في مستنقعها مجموعة فاغنر، على حد وصفه.
إنكار المسؤولية المباشرة
وبخصوص ردّ فعل موسكو المتوقع إزاء تحفظات الجزائر على قوات فاغنر، قال العضو السابق بالمجلس العسكري العلمي الروسي نسيم بلهول، إنه “في ظل هكذا طلب رسمي جزائري، لا يمكن أن ننتظر ردّا رسميّا روسيّا واضحا، لأنه عادة ما يتم إنكار المسؤولية المباشرة للدولة أو رئيسها تجاه الوسائط الإستراتيجية الصامتة أو حتى العمليات السريّة منها”.
وأوضح بلهول للجزيرة نت، أن القانون الروسي يحظر نشاطات الارتزاق، بينما وفّرت مجموعة فاغنر للدولة الروسيّة قدرة معقولة على الإنكار، على طريقة “إنه ليس جيشنا، إنها شركة خاصة، لا نعرف ما هي”.
بالمقابل، أكد المتحدث تبعيّة التشكيلات شبه العسكرية للكرملين، وهو “ما تجلى من خلال مرسوم بوتين، بعد 48 ساعة من وفاة زعيم فاغنر، والذي يلزم بموجبه أعضاءها بأداء اليمين لروسيا، كما يفعل جنود الجيش النظامي”.
وأشار إلى أن جزءا من امتيازات تعدين الذهب لشركة فاغنر قد أُعيد توجيهها إلى احتياطي موسكو البالغ 130 مليارات دولار، مما ساعد بوتين في التحايل على العقوبات الاقتصادية المفروضة بسبب الحرب في أوكرانيا.
وبالتالي، يعتقد بلهول أنه “ليس من الذكاء الإستراتيجي أن تعترف موسكو بمثل هكذا ارتباط حساس ومهم بالنسبة لمصالح تموضعها الإستراتيجي خارج محيطها الإقليمي في الجوار البعيد أو جوار الجوار”.