نواكشوط – بعد 6 عقود على استقلال موريتانيا، شهد العالم خلالها تطورا مبهرا في شتى المجالات، ما زال الشعور باليأس والإحباط ينتاب أكثر الموريتانيين جراء التدفق الهائل للسلع والبضائع الأجنبية التي تغزو أسواق بلادهم، وتكلفهم المليارات من العملات الصعبة سنويا.
ورغم السياسات الحكومية الهادفة لتطوير الصناعة المحلية وتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الرئيسية، فإن غزو البضائع الأجنبية للأسواق المحلية آخذ في الاتساع، ويتسبب من حين لآخر في القضاء على الصناعات والمنتجات المحلية بسبب ضعف منافستها للمنتجات المستوردة.
وخلال الربع الأخير من عام 2023، بلغت قيمة الواردات الموريتانية السلعية قرابة 49 مليار أوقية (1.25 مليار دولار) من بينها 10.55 مليارات أوقية (ما نسبته 29.3%) قيمة المواد الغذائية التنافسية من إجمالي الواردات.
وخلال احتفالية اليوم الوطني الأول للصناعة الأسبوع الماضي قال وزير الصيد والاقتصاد البحري، وزير التجارة والصناعة بالوكالة، مختار حسينو لام: “إن الإصلاحات والإجراءات التي قامت بها الحكومة مكنت من رفع مؤشر الإنتاج الصناعي في موريتانيا، بنسبة 7.3% في العام الماضي، مقارنة بمستواه سنة 2022”.
لكن موريتانيا حسب خبراء كثر ما زالت تائهة في فلك الصناعات الاستخراجية، ورغم مقدراتها الخام الهائلة لم تستطع بعد الخروج من الوحل وإحداث ثورة في مجال الإنتاج الصناعي وتحقيق حلم الشعب في الاكتفاء الذاتي.
الصناعة المعدنية شريان الاقتصاد الموريتاني
وتعتمد موريتانيا على قطاع الصناعات الاستخراجية المعدنية، الذي يمثل نسبة 30% من الناتج الداخلي الخام، ويبلغ عدد العاملين في شركتي الحديد والذهب حوالي 16 ألف موريتاني، وخلال الربع الأخير من 2023 بلغت قيمة الصادرات الموريتانية من الصناعات الاستخراجية الحديد والذهب 31.77 مليار أوقية (800 مليون دولار)، تمثل نسبة 78% من إجمالي الصادرات الموريتانية.
وتظل الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (سنيم) هي رائدة المجال الصناعي في موريتانيا، وخصوصا في الصناعات الاستخراجية لكنها أيضا تقتحم مجالات عديدة من الصناعات التحويلية من بينها البناء والتصنيع الميكانيكي والمسبك (الصلب).
وفي حديثه للجزيرة نت يقول مدير التسويق في شركة الأطلسية للتصنيع الميكانيكي التابعة لـ”سنيم” إن تركيز شركته على التصنيع الميكانيكي والمسبك جاء من أجل تعزيز القاعدة الصناعية في البلاد، وتحقيق الاستقلالية والقدرة التنافسية في السوق المحلية والإقليمية.
وتوفر هذه الشركة الرائدة في الصناعة الميكانيكية قرابة 500 فرصة عمل، وتعمل في مجال التصنيع الميكانيكي والبناء الحديدي والألواح العازلة وتصنيع الأسلاك الإلكترونية للمحركات، وقطع غيار الآليات الكبيرة، وعربات القطارات، وتنشط الشركة حسب مدير التسويق في مجالي النفط والغاز وتتولى تصنيع الأنابيب وخزانات الغاز العملاقة في مختلف أنحاء موريتانيا.
كما أن هذه الشركة لها الفضل في تأسيس الشركة الموريتانية لصناعة السفن التي كانت تابعة لها قبل أن تستقل وقد واكبت نشأتها حتى تطورت وأصبحت الآن تنتج عشرات السفن بأيادٍ محلية.
صناعات تحويلية
وإلى جانب الصناعات الاستخراجية تسعى موريتانيا منذ زمن طويل إلى تطوير الصناعة التحويلية في قطاع الأسماك والمواد الغذائية، وهو القطاع الأبرز والأساسي حاليا للتصنيع في الاقتصاد الموريتاني.
وتمتلك موريتانيا شركات للصناعات السمكيّة لإنتاج دقيق الأسماك وزيوتها وتضم وحدات لتمليح وتجفيف الأسماك وأخرى للتعليب، والتجميد، وقد بلغت صادرات البلاد من الصناعات التحويلية السمكية وحدها أزيد من 16 ألف طن خلال 2023.
أما مجمل صادرات المنتجات البحرية من الأسماك المجمدة والمعلبة وزيت ودقيق السمك فقد بلغت قيمتها 6.38 مليارات أوقية (161 مليون دولار) وهو ما يمثل نسبة 15% من إجمالي الصادرات الوطنية.
وتنشط في موريتانيا حتى الآن 6 شركات خاصة لتصنيع الألبان ومشتقاتها توفر فرص عمل لحوالي 13 ألف موريتاني، ما بين مباشرة وغير مباشرة، كما تنشط 5 شركات أخرى في مجال صناعة المعجنات الغذائية، وتغطي هذه الشراكات نسبة معتبرة من حاجيات السوق الوطني.
مقدرات ضائعة
وفي موريتانيا التي تملك مقدرات هائلة من الثروة الحيوانية تقدر بـ30 مليون رأس من الماشية يفقد الرعاة نسبة 40% من الحليب نتيجة لغياب المعالجة والتصنيع، وحسب مصادر رسمية فإن منتوج موريتانيا السنوي من الجلود يبلغ 1.8 ألف قطعة جلد، يضيع ولا يصل منه مرحلة التصنيع إلا نسبة 6%.
وفي موريتانيا أيضا تنشط شركة للنسيج يعود تأسيسها إلى سنة 1962، يعمل بها نحو ألفي امرأة وتنتج سنويا ما يقارب 3 آلاف متر من السجاد الموريتاني، لكن هذه الصناعة ما زالت غير قادرة على منافسة السجاد المستورد نتيجة للندرة والغلاء.
ورغم خبرتها التي امتدت منذ ستينات القرن الماضي إلى اليوم، فإن شركة الزرابي هذه ما زالت غير قادرة على المنافسة، وما زالت بلاد الثروة الحيوانية عاجزة عن توفير المواد الأولية المتمثلة في وبر الإبل، من أجل تطوير وزيادة إنتاج شركة النسيج الوحيدة في موريتانيا.
وحسب المحلل الاقتصادي سيد الخير عمرو فإن الصناعة في موريتانيا تواجه عدة تحديات من بينها:
- ضعف البنية التحتية وهو ما يؤثر سلبا على قدرة الشركات على توسيع نشاطها وتطويرها.
- وجود تعقيدات بيروقراطية وبعض التجاوزات التي تصنف تحت باب الفساد الإداري.
- تعاني الشركات الصناعية في موريتانيا من نقص في المهارات العمالية المؤهلة، وهو ما يؤثر على كفاءتها وقدرتها على التنافسية.
- في موريتانيا ما يزال الإنفاق على مراكز البحث العلمي ضعيفا وقاصرا على الحكومة، وتستورد القطاعات الصناعية التكنولوجيا التي تستخدمها في الإنتاج.
ويرى عمرو “أن ضعف الخدمات العمومية والطاقوية والمصرفية يؤثر على نشاط الشركات واستثماراتها، لكن رغم ذلك فإن الأرقام تشير إلى أن هناك آفاقا واعدة لهذا القطاع مع قرب دخول البلاد في مرحلة إنتاج وتصدير الغاز في أفق 2025”.
وتعد عقلية المستهلك الموريتاني ونظرته للمنتوج المحلي واستنقاصه له من أبرز التحديات التي يتحدث عنها المنتجون، ويطالب المستثمرون في الصناعة من القطاع الخاص بدعم المنتوج المحلي وحمايته من المنافسة الخارجية، وهو ما سيقود حسب رأيهم إلى مزيد من الاستثمار في قطاع الصناعة وتحقيق قيمة مضافة للناتج المحلي الإجمالي للبلد.