يتفشى الجوع وتكشر المجاعة عن أنيابها في السودان وسط غياب أي مؤشرات على تراجع حدة الحرب وفي ظل توقعات مؤلمة وصادمة، حسبما تشير مقابلات أجريت مع أكثر من 160 مدنيا عصف بهم القتال، وأكثر من 60 موظفي الإغاثة وخبراء الأمن الغذائي، فضلا عن مراجعة المسوحات الغذائية التي تجريها وكالات الإغاثة.
أصبح التراب وورق الأشجار طعام المضطرين من سكان بعض مناطق السودان، وفقا لتقرير وكالة رويترز للأنباء، بعد أن عزّ الغذاء كما هو الحال في مخيم اللعيت للنازحين في شمال دارفور، والذي يشهد تدفقا جديدا للنازحين مع اتساع رقعة الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في عامها الثاني بعد أن شملت مساحات واسعة من البلاد.
يقول قرنق أشين أكوك، وهو واحد من آلاف الوافدين الجدد إلى مخيم اللعيت -واحد من 13 مخيما للنازحين في شمال دارفورـ إنه وزوجته وأطفالهما الخمسة تركوا منزلهم في منطقة كردفان بالجنوب بعدما اقتحمت مليشيات على ظهور الجمال قريتهم وأحرقت كوخهم.
ووصل أكوك (41 عاما) إلى مخيم اللعيت في ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكنه بلا عمل ولا يستطيع إعالة أسرته. وفي بعض الأحيان، يمضون يومين أو ثلاثة أيام من دون طعام، حسب تعبيره.
وقال أكوك “إنه ينظر عاجزا إلى زوجته وأطفاله وهم يحفرون حفرا في الأرض ويدخلون أيديهم فيها ويلتقطون بعض التراب ويصنعون منه كرات ويضعونها في أفواههم ويبتلعونها بالماء”، مضيفا “أظل أقول لهم ألا يفعلوا ذلك.. لكنه الجوع.. ليس بوسعي أن أفعل أي شيء”.
الموت جوعا
وفي بعض الأماكن يموت الناس بالفعل. وخلصت تقديرات منظمة أطباء بلا حدود إلى وفاة طفل واحد في المتوسط كل ساعتين في مخيم زمزم الضخم للنازحين في شمال دارفور نتيجة المرض وسوء التغذية.
ويشير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وهو أداة عالمية لرصد الجوع، إلى أن ما يقرب من 18 مليون شخص في السودان، أي أكثر من ثلث سكان البلاد البالغ عددهم 49 مليونا، يواجهون “مستويات عالية من الانعدام الحاد للأمن الغذائي”.
وتشير تقديراته أيضا إلى أن من بين هذا العدد هناك ما يقرب من 5 ملايين نسمة على شفا المجاعة. ووضع تقرير لمؤسسة كليجندال البحثية الهولندية ثلاثة تصورات للسودان، يرجح أكثرها تفاؤلا أن تعصف المجاعة بـ6% من السكان، وفي أسوأ الحالات سيعاني 40% من المجاعة خلال الجفاف بين مواسم الحصاد، والذي يبدأ في مايو/أيار ويستمر حتى سبتمبر/أيلول المقبل.
شبح المجاعة
أصبحت أجزاء من السودان بالفعل على شفا مجاعة من صنع الإنسان تعتمل منذ فترة. فقد انهار قطاع الزراعة في ظل سرقة قوات الدعم السريع المحاصيل من المزارعين، الذين اضطروا للفرار من أراضيهم بسبب أعمال العنف. وصار الجوع سببا آخر للنزوح، وليس القتال وحده.
ويهجر البعض منازلهم بحثا عن الطعام. وتنتشر الملاريا وأمراض أخرى بين النازحين. وتتعرض مراكز المساعدات الرئيسية للنهب من قوات الدعم السريع ومليشيات متحالفة معها.
وقالت آنيت هوفمان، التي أعدت تقريرا لمؤسسة كليجندال، إن “الحرب تسببت في أكبر أزمة جوع في العالم.. من المرجح أن تحدث مجاعة لم نشهدها منذ عقود”.
ومن أجل البقاء على قيد الحياة يلجأ الناس في أنحاء السودان إلى تدابير يائسة. ففي غرب دارفور، لم يجد المزارعون ما يسد رمقهم سوى البذور التي كانوا قد اشتروها لغرسها، بعد أن نهبت قوات الدعم السريع أراضيهم.
وفي منطقة كردفان، باع البعض أثاثهم وملابسهم للحصول على نقود لشراء الطعام. وفي الخرطوم، لم يجد سكان محاصرون في منازلهم خيارا سوى قطع أوراق الأشجار وغليها وأكلها.
انهيار الزراعة
تدمر الفوضى التي تعصف بمناطق كانت يوما بمثابة سلة غذاء للسودان، الإمدادات الغذائية. وخلص تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) في مارس/آذار الماضي إلى أن السودان شهد انخفاضا بنسبة 46% في إنتاج الحبوب في 2023 مقارنة بالعام السابق.
ويتعرض المحصول للنهب في منطقة الجزيرة الواقعة جنوبي العاصمة الخرطوم والتي تسهم بأكثر من نصف إنتاج البلاد من القمح. ويؤدي هذا إلى إفقار المزارعين، ويعرقل قدرتهم على تمويل زراعة محاصيل جديدة.
وزرع خالد مصطفى، وهو أحد المزارعين في ولاية الجزيرة، نحو عشرة أفدنة بالذرة والعدس العام الماضي، وكان يخطط لبيع المحصول بعد الحصاد في السوق المحلية لأداء ديونه وتغطية نفقات الموسم الزراعي القادم.
لكن في فبراير/شباط الماضي اقتحم أفراد من قوات الدعم السريع منزله، ودفعوه أرضا ووضعوا سكينا على رقبته، وأجبروه على تسليم محصوله بالكامل، الذي كان 110 أجولة من الذرة والعدس. وأضاف أنهم استولوا أيضا على شاحنات ومعدات أخرى.
وتشير شهادات العديد من السكان إلى أن قصة مصطفى تكررت في عشرات القرى في الجزيرة منذ أن شنت قوات الدعم السريع هجومها على الولاية في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ووصف المزارعون كيف كان رجال يرتدون زي قوات الدعم السريع يستقلون شاحنات صغيرة ودراجات نارية ويتنقلون من منزل إلى منزل، ويعتدون على السكان ويستولون على ممتلكاتهم، ويجبرونهم تحت تهديد السلاح على نقل محاصيلهم إلى مركبات قوات الدعم السريع.
وخلال نهب القرى، دمر رجال المليشيات ألواحا شمسية تستخدم لتشغيل المولدات التي تساعد في سحب المياه من الآبار العميقة. وتحدث مزارعون أيضا عن سرقة الوقود اللازم لتشغيل مطاحن الدقيق، مما ترك سكان القرى دون أي وسيلة لطحن الحبوب والحصول على الدقيق (الطحين) المستخدم في صنع العصيدة، وهي من الأطباق الرئيسية في المطبخ السوداني.
كما فرضت قوات الدعم السريع ضريبة انتقال في أماكن مثل دارفور والجزيرة، حيث تجبر المزارعين على دفع ضريبة في أثناء تنقلهم.
حرب منسية
وعلى الرغم من الأزمة الغذائية التي تطبق على البلاد، فإن الوضع في السودان لم يحظ بقدر معتبر من التدقيق الدولي مقارنة بالأزمات الإنسانية الأخرى في أماكن مثل أوكرانيا وقطاع غزة. ويطلق بعض المراقبين على الصراع في السودان وصف “الحرب المنسية”.
وقالت تشاسا لطيفي، كبيرة مستشاري برامج الصحة العالمية في منظمة الإغاثة بروجكت هوب، “أكبر تحد يواجهنا هو التمويل وقلة الاهتمام بالسودان.. هناك اهتمام كبير بكل من أوكرانيا وغزة لدرجة أنه لا توجد فرصة لدى أي أحد للتفكير في السودان أو حتى الاستماع لما يحدث هناك”.
وحملت إيزوبيل كولمان نائبة مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية كلا من قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) المسؤولية عن عدم وصول المساعدات للسكان.
وقالت لرويترز “يتحملان مسؤولية شبح المجاعة التي تلوح في الأفق.. الناس حرفيا يموتون كل يوم بسبب عدم إمكانية الحصول على الغذاء وغيره من الضروريات”.
خراب الخرطوم
لا يقتصر الحرمان على الفقراء. وحتى قبل الحرب، كان السودان يواجه فقرا متفشيا وجوعا واسع النطاق. وتقول الأمم المتحدة إن السودان صار يعاني من أكبر أزمة نزوح، إذ إن واحدا من كل 8 نازحين في العالم سوداني. وتسبب القتال في انهيار الاقتصاد، مما أثر على الجميع دون تمييز.
وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن ما يقرب من نصف السكان يعانون البطالة. وانهار النظام المصرفي الرسمي، مما حال دون إمكانية وصول المواطنين إلى ودائعهم.
وأدى انقطاع خدمات الاتصالات إلى حرمان الناس من شريان الحياة الرئيسي المتمثل في تحويل الأموال عبر الإنترنت. وأشار وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم إلى انكماش الاقتصاد 40% بسبب الحرب.
وفي أحياء الطبقة المتوسطة في الخرطوم، صارت الحياة معركة يومية يسودها الجوع والخوف، إذ يجد الناس أنفسهم محاصرين بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وبالنسبة للينا محمد حسن وأسرتها، يتسلل وحش المجاعة ببطء. وبعد اندلاع الحرب العام الماضي، سقطت قذائف مورتر حول منزلها في حي بانت بأم درمان.
تقول لينا (32 عاما): كانت هناك أيام يبدأ فيها القصف في الخامسة صباحا ويستمر طوال اليوم، ويجعل ذلك الخروج للبحث عن الطعام محفوفا بالمخاطر.
حصار وتضييق
وضربت قوات الدعم السريع حصارا على مناطق في أنحاء العاصمة مثل حي بانت القريب من قواعد الجيش السوداني، في محاولة للتضييق على القوات التي تحاول وقف تقدمها.
وبدأ الطعام يختفي، ودمر القتال الأسواق. وقال سكان إن أموال الناس نفدت بعد أن نهبت قوات الدعم السريع بنوك الخرطوم، وأخذت منها أكواما من الأوراق النقدية والذهب. ونفت قوات الدعم السريع تورطها في أعمال نهب.
واضطر ذلك لينا وعائلتها المكونة من 11 فردا للتحول إلى وجبات تتكون في الأساس من العدس والأرز. وقالت “حتى هذا كان من الصعب الحصول عليه لأن الأسعار صارت خمسة أضعاف الطبيعي”.
ويقول سكان إنه بحلول نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كانت قوات الدعم السريع قد قطعت الكهرباء وخط أنابيب المياه الرئيسي عن بانت. وبدأ جنود من قاعدة عسكرية قريبة ومدنيون في اصطياد القطط لأكلها.
وقالت لينا إن النساء اللائي يحملن الطعام يتعرضن للتفتيش عند نقاط أمنية تابعة لقوات الدعم السريع، ويُتهمن بدعم الجيش ويتعرضن للضرب والاعتداء الجنسي.
ولم تحدث طرود الأغذية التي أسقطها الجيش جوا على الحي فرقًا يذكر. وقالت لينا إن الطرود تحطمت عندما اصطدمت بالأرض واختلط الطعام بالتراب. وبمرور الوقت، أصبح من المستحيل الحصول على أي شيء، لا مال ولا طعام.
وقالت إن الجنود كانوا يتقاسمون طعامهم في بعض الأحيان مع أطفال عائلتها، وبدأت هي والبالغون الآخرون في عدم تناول بعض الوجبات، أحيانا ليومين متواصلين، حتى يتمكن الصغار من تناول
الطعام. وصارت أوراق الأشجار المغلية في الماء مع بعض البهارات جزءا من نظامهم الغذائي.
وقالت “حاولنا أن نبتعد عن ورق الشجر السام.. فقط أوراق شجر المانجو والليمون والجوافة.. الأطفال كانوا يأكلونها.. كانوا جائعين، لا يقولون لا”.
ولا يزال الناس محاصرين في أكثر من 12 منطقة بالخرطوم. وأفادت هيئة عالمية معنية بانعدام الأمن الغذائي، وهي شبكة أنظمة الإنذار المبكر من المجاعة، في مارس/آذار الماضي بأن هناك مناطق في العاصمة عرضة “لخطر المجاعة”، إذ إن طرفي الصراع “يستخدمان تكتيكات شبيهة بالحصار ليقطع كل منهما الإمدادات عن خصمه”.
البحث عن ملاذ
قالت كثير من الأسر التي حوصرت في العاصمة إنها تريد الفرار، لكن القصص التي سمعتها عن تعرض نساء للاغتصاب وعن اعتقال وقتل شبان على أيدي قوات الدعم السريع تجعلها تحجم عن ذلك.
وخلصت واحدة من سكان بانت تبلغ من العمر 24 عاما إلى أنه ليس أمامها خيار سوى محاولة الهروب عندما أخبرها طبيب في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن ابنها البالغ من العمر 3 سنوات قد لا ينجو إذا بقوا في الحي.
وقالت إنها كانت تطعم ابنها بضع ملاعق من الحمص يوميا لعدة أشهر، ورغم أنها كانت حبلى، فإنها كانت تضطر إلى تفويت بعض الوجبات. وبعد أن أنجبت طفلة، لم تكن قادرة على الرضاعة الطبيعية ولم تتمكن من العثور إلا على حليب صناعي منتهي الصلاحية لإطعام مولودتها الجديدة. وقالت إن ابنها أصيب بفقر الدم وكان يتقيأ بشكل متكرر.
وعلى طريق الخروج من بانت، كان يتعين عليها المرور عبر نقاط تفتيش تسيطر عليها قوات الدعم السريع. وقالت إن رجال المليشيات الذين كانوا يبحثون عن النقود والمصوغات الذهبية ضربوها بالسياط، ولمسوا جسدها أثناء تفتيشها. وأُجبرت بعض النساء على التجرد من ملابسهن. وقالت إن الجنود اغتصبوا امرأة أمامها. وأكدت جارة لها هربت معها هذه الرواية.
وقالت المرأة التي تحدثت بشرط عدم الكشف عن هويتها “رأيت نساء يسحبن إلى بيوت خالية.. تحرشوا بي 3 أو 4 مرات، وعندما وصلت الأسرة أخيرا إلى منطقة يسيطر عليها الجيش في أم درمان كنت على وشك الانهيار في ظل معاناتهم من الجوع والجفاف والمرض”.
بورتسودان
في ظل هذه الأوضاع، أصبحت بورتسودان مركزا لجميع المساعدات منذ أن انتقلت الحكومة ووكالات الإغاثة إلى هناك بعد سيطرة قوات الدعم السريع على جزء كبير من العاصمة الخرطوم.
ومع ذلك، يواجه النازحون سوء التغذية والأمراض في المدينة الساحلية. وتشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى فرار ما يقرب من ربع مليون شخص منذ بداية الحرب إلى ولاية البحر الأحمر التي عاصمتها بورتسودان. وتحولت عشرات المدارس إلى مراكز إيواء للنازحين.