هكذا أدارت المقاومة الحرب النفسية مع الاحتلال في غزة

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 13 دقيقة للقراءة

ظهرت في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أهمية الحرب النفسية باعتبارها جبهة أساسية من جبهات هذه المعركة، وحاول كل طرف توظيف الدعاية للتأثير النفسي في مخاطبة جمهوره والجمهور المعادي.

ووفق لما أوردته كل من “موسوعة أكسفورد للتاريخ العسكري والدبلوماسي الأميركي” و”موسوعة الاستخبارات ومكافحة التجسس”، فإن الحرب النفسية تقوم بدور مهم جدا في حسم المعركة.

وبحسب المصدريْن السابقين، فإن الحرب النفسية تسعى إلى تحقيق أهداف عسكرية عبر التأثير على عقول العدو، وغالبا ما يكون ذلك عن طريق التلاعب بالمعلومات لتضليل العدو أو إضعاف معنوياته من خلال وسائل غير مميتة.

الحرب النفسية تقوم بدور مهم جدا في حسم المعركة (رويترز)

حيل الحرب

كانت الحرب النفسية إحدى حيل الحرب منذ فجر العنف المنظم، وقد أكد ذلك بقوة المفكر العسكري الصيني صن تزو في القرن الرابع قبل الميلاد في كتابه “فن الحرب” بقوله “إن القتال والانتصار في كل معاركك ليس أعلى درجات التميز، فالتفوق الأسمى هو كسر مقاومة العدو دون قتال”.

ولهذا الغرض تم استخدام الدروع المتقنة، والرسم على الوجه، والأعلام، واللافتات، وصرخات المعركة، والموسيقى العسكرية على المستوى التكتيكي لتعزيز معنويات الفرد نفسيا مع تخويف العدو في الوقت نفسه.

وعلى سبيل المثال، قامت القوات الجوية الألمانية في الحرب العالمية الثانية بربط صفارات الإنذار بالهياكل السفلية لقاذفاتها من طراز “ستوكا” (Stuka)، مما أدى إلى إصدار صوت صراخ أثناء هبوط الطائرة، وقد أنتج هذا تأثيرا مخيفا لدرجة أن القوات المدربة القادرة على تحمل وابل المدفعية هربت.

30th May 1940: German Junkers Ju-87B-2 Stuka dive bombers of the Luftwaffe 5 Staffel/Stukageschwader 2, fly in formation over France during World War II. The close air support dive bomber were a mainstay of Germany's Blitzkrieg style of attacks. (Photo by Hulton Archive/Getty Images)
قاذفات من طراز “ستوكا” تحلق فوق فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية  (غيتي)

ومع ظهور تقنيات الاتصال الجماهيري في أوائل القرن العشرين، تطوّرت الحرب النفسية من حيلة تكتيكية إلى إستراتيجية، مما عزز بشكل كبير قدرة الحكومات على نشر الدعاية.

وفي عام 1917 اعتمد الجيش الأميركي مصطلح “الحرب النفسية” للإشارة إلى استخدام الثقافة أو المعلومات أو الإجراءات غير القتالية كمضاعف للقوة في حالة الصراع.

ويرسم الجيش الأميركي فروقا واضحة بين الشؤون العامة العلنية وعمليات المعلومات و”العمليات النفسية” التي تتمتع بمجال التضليل إذا لزم الأمر.

ورغم أن الحرب النفسية نشأت في سياق قتالي ضيق مع أهداف تكتيكية مثل كسر إرادة العدو في المقاومة أو تشجيع الاستسلام، فإن استخدامها اتسع ليصبح أكثر إستراتيجية مع أهداف تشمل تقسيم السكان على طول خطوط الصدع العرقية أو الإقليمية، أو دفعهم إلى الابتعاد عن قيادتهم.

غرق سفينة الركاب لوسيتانيا عام 1915 (شترستوك)

في الحرب العالمية

وقد شهدت الحرب العالمية الأولى أول استخدام منهجي للحرب النفسية على نطاق واسع، فقد سعى البريطانيون من بداية الحرب إلى تقويض الدعم الدولي لألمانيا من خلال نشر الفظائع الألمانية، مثل الهجمات المزعومة على المدنيين البلجيكيين العزل في عام 1914 أو الإغراق غير المبرر لسفينة الركاب لوسيتانيا عام 1915.

كما أنتج كل من الألمان والفرنسيين صحائف (منشورات) إخبارية دعائية موجهة إلى الجنود والمدنيين في منطقة خط المواجهة. وعلى سبيل المثال، ذكرت إحدى المطبوعات الألمانية، واسمها “غازيت دي آردين” أن الجنود المغاربة والبريطانيين أنجبوا أطفالا من زوجات الجنود الفرنسيين.

ولم تكن الجهود النفسية في الحرب تستهدف العدو فحسب، بل القوات الصديقة؛ فقد عملت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) من خلال البث الموجه إلى أجزاء أوروبا الواقعة تحت السيطرة السوفياتية إلى رفع الروح المعنوية، وتوفير معلومات عن تطورات الحرب، ونقل المعلومات إلى جماعات المقاومة.

كما تم استخدام المنشورات على نطاق واسع خلال الحرب العالمية الثانية، إذ تشير التقديرات إلى أن الطائرات الأميركية والبريطانية أسقطت نحو 30 منشورا لكل رجل وامرأة وطفل في أوروبا الغربية.

الطائرات الأميركية والبريطانية أسقطت نحو 30 منشورا لكل شخص في أوروبا الغربية في الحرب العالمية الثانية (مواقع التواصل)

الحرب الباردة

خلال حقبة الحرب الباردة تم إنشاء بنية تحتية مؤسسية للحرب النفسية في الولايات المتحدة، إذ كانت الدعاية “البيضاء” أو العلنية من مسؤولية وكالة المعلومات الأميركية، في حين كانت الدعاية “السوداء” و”الرمادية”، التي تشمل التضليل وإخفاء مصادر المعلومات، تحت رعاية مكتب تنسيق السياسات التابع لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) التي أنشأت إذاعة أوروبا الحرة وإذاعة ليبراسيون التي عُرفت فيما بعد باسم راديو الحرية.

وفي عام 1962، نشر الجيش الأميركي أول دليل ميداني له “إف إم 33-5” حول هذا الموضوع، واستبدل مصطلح الحرب النفسية بالعمليات النفسية.

كما قامت العمليات النفسية بدور مركزي في حرب فيتنام، إذ تم إلحاق الأفراد المدربين في الشؤون المدنية والسياسية بوحدات القوات الخاصة.

واستخدم الجيش ومنظمة دعم العمليات المدنية والتنمية الريفية “كوردز” (CORDS) التابعة لوكالة المخابرات المركزية العمليات النفسية، من بين تكتيكات أخرى، لتأمين “تهدئة” الأراضي، وتعزيز إعادة إعمار الريف، وتشجيع أنصار الفيتكونغ على الانشقاق إلى الجانب الفيتنامي الجنوبي.

ومع تزايد أهمية العمليات النفسية العملية، فقد ساءت سمعتها أيضا بفعل الجدل المحيط بأساليب “كوردز”، ولأن القوى التقليدية لا تثق في الطبيعة غير الملموسة للعمليات النفسية العملية.

عصر الإنترنت

ولاحقا أدى ظهور الإنترنت إلى دفع الولايات المتحدة إلى مسرح جديد للحرب النفسية، فقد تضمنت الأنشطة عبر الإنترنت أعمال المشاركة الرقمية التي يقوم فيها الأفراد العسكريون الأميركيون بمراقبة المناقشات المتعلقة بالحرب على “الإرهاب” والمساهمة فيها.

وكان ضمن الوحدات الإدارية المسؤولة عن الحرب عبر الإنترنت “الأسطول العاشر للبحرية الأميركية”، وهو أسطول من دون سفن.

وعادت المخاوف من أساليب الحرب النفسية إلى الظهور عام 2002 عندما أدت ضجة إعلامية إلى إغلاق مكتب التأثير الإستراتيجي التابع للبنتاغون.

وللتكيف مع ذلك، أسقط البنتاغون رسميا في عام 2010 مصطلح “الحرب النفسية” واختار مصطلح “عمليات دعم المعلومات العسكرية”.

مجريات الحرب النفسية في غزة

باستعراض التعريفات والاستخدامات المذكورة للحرب النفسية أو العمليات النفسية، يمكن استخلاص مجموعة من الأهداف الإستراتيجية والتكتيكية التي يحاول كل طرف تحقيقها من خلال وسائل منها: التلاعب بالمعلومات، ومكافحة دعاية العدو، وتوفير معلومات عامة للسكان، وإنتاج دعاية تدفع مواطني العدو إلى الامتثال أو عدم التدخل، وإنتاج أفعال نفسية إيجابية أو سلبية تدعم العمليات العسكرية.

ويمكن إيراد الشواهد لهذه الوسائل من سلوك جيش الاحتلال والمقاومة وداعمي الطرفين في الحرب الجارية في قطاع غزة، لتحقيق أهداف الحرب النفسية الإستراتيجية والتكتيكية.

ويمكن ملاحظة هدفين إستراتيجيين للحرب النفسية؛ يتمثل الأول في محاولة كسر إرادة العدو في المقاومة أو تشجيعه على الاستسلام.

ويسعى الاحتلال إلى تحقيق ذلك من خلال الخطابات المتشددة بشأن حتمية القضاء على المقاومة، في حين يتداول بعض داعميه طروحا من قبيل “إخراج قادة حماس من القطاع”، أو إثارة النقاش عن “اليوم التالي لحكم حركة حماس”، في مسعى لتعزيز دعوى القدرة على تقويض المقاومة.

وفي المقابل، تعمل المقاومة على كسر إرادة الاحتلال من خلال وسائل منها: إصدار المقاطع المصورة التي تخاطب المجتمع والجيش الإسرائيلي، ويساعدها في ذلك جهود مؤيديها وأصدقائها لإبراز روايتها الإعلامية، ومقاومة تكتيكات الحرب النفسية للاحتلال.

أما الهدف الإستراتيجي الثاني فيتمثل في الإسهام في تقويض الدعم الدولي للعدو، لذلك يسعى الاحتلال إلى نشر الإشاعات عن فظائع ارتكبتها المقاومة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومهاجمة الدول التي تقيم علاقات مع حركة حماس والتحريض عليها.

ويساعده داعموه من خلال السعي لعزل حركة حماس دوليا، وبذل مساع لتشكيل حلف دولي لمحاربة تمويل حماس، وتبني إشاعات الاحتلال بشأن “فظائع المقاومة”.

في المقابل تكثف المقاومة عملها الإعلامي، إذ ينشط إعلاميون كثر تحت القصف والتهديد لتوثيق مجازر الاحتلال ونشرها وترجمة مضمونها إلى لغات عدة.

وتبذل فصائلها جهودا سياسية ودبلوماسية لتقويض مساعي الاحتلال لشرعنة عدوانه وحربه، وتدعمها في هذا المجال دول كثيرة تنشط في الجهد الدبلوماسي في المنظمات الدولية والأممية، الساعي لإدانة الاحتلال ووقف العدوان، كجهود روسيا والصين لوقف الحرب، ولجوء جنوب أفريقيا ونيكاراغوا إلى محاكمة الاحتلال وألمانيا أمام محكمة العدل الدولية.

الاحتلال يعمد إلى التكتم على خسائره العسكرية من القتلى والجرحى والمعدات (غيتي)

الأهداف التكتيكية

وفي إطار الأهداف التكتيكية للحرب النفسية، يسعى كل طرف إلى تحقيق ما يلي:

  • تضليل عدوه أو إضعاف معنوياته:

إذ يعمد الاحتلال إلى التكتم على خسائره العسكرية من القتلى والجرحى والمعدات، ويحرص حلفاؤه على الامتناع عن إظهار الخلافات معه إلا عند الضرورة.

وفي المقابل، تحرص المقاومة على التكتم على تكتيكاتها وخسائرها، بل تبرز قدرتها على التعافي من ضربات الاحتلال، وتبرز هي ومؤيدوها خسائر الاحتلال التي يحاول التكتم عليها.

  • تعزيز معنويات الجبهة الداخلية:

وفي سبيل ذلك، تصور سلطات الاحتلال هجماتها على المقاومين وتنشرها، في حين يواظب مؤيدوها على زيارتها وإصدار خطابات الدعم والتأييد لها.

أما المقاومة فتبذل جهودا كبيرة لتصوير عمليات استهداف قوات الاحتلال ونشرها، في وقت يسهم فيه مؤيدوها في نشر هذه الإصدارات على نطاق واسع، وخدمتها بالإثبات والتحليل.

  • تسهيل العمليات العسكرية ودعم عملية الاستهداف العسكري:

إذ يعمد الاحتلال إلى تخويف السكان بهدف تهجيرهم من “مناطق العمليات”، وإلقاء المنشورات التي تطالب الفلسطينيين بالامتثال لأوامر الجيش، ومخاطبتهم عبر صفحات الناطقين باسم جيش الاحتلال على مواقع التواصل الاجتماعي.

كما تتواطؤ بعض الدول الحليفة له مع بعض حيله الإعلامية بهذا الشأن، كقبول وتسويق فكرة المناطق الآمنة، رغم أنها كانت وسيلة للتهجير.

بدورها، تعمل المقاومة على تفنيد الخطاب الإعلامي الداعي إلى التهجير باعتباره أداة لخدمة العمليات العسكرية للاحتلال، إضافة إلى خطره الإستراتيجي. وتشاركها في ذلك القوى المؤيدة والحليفة لها.

  • تأمين التهدئة واستعادة النظام المدني:

ولتحقيق ذلك تنتج الآلة الإعلامية الإسرائيلية باستمرار خطاب التخويف لفلسطينيي الضفة الغربية والداخل، وتقارن بين معاناة أهل قطاع غزة والأمن النسبي الذي يحظى به من لا ينخرطون في المقاومة من سكان هذه المناطق.

وبدوره يتبنى “الذباب الإلكتروني” العربي هذه المقولات، ويجعل المقاومة نقيضا للاستقرار والتنمية. كما تستحضر دول غربية الحديث عن إحياء مسار حل الدولتين، رغم عدم توفر فرص حقيقية له، وذلك لتبرير إعادة إنتاج السلطة لتصبح أكثر خضوعا للاحتلال وأكثر جاهزية لتخلف حركة حماس في إدارة القطاع.

على الطرف الآخر، تكثف المقاومة خطاب استنهاض العمل المقاوم في مختلف الساحات، وتفند دعاوى إحياء مسار حل الدولتين، التي توفر غطاء لاستمرار الحرب على القطاع، وتشجع النازحين على العودة إلى بيوتهم باعتبارها أساسا لإعادة الإعمار.

كما يعمل مؤيدوها على دعم روايتها وتوجهاتها، وإبراز أعمالها داخل فلسطين وخارجها، وعلى تحفيز العمل الإغاثي والإنساني.

  • تقسيم مدنيي العدو ودفعهم للابتعاد عن قيادتهم:

بهذا الصدد يركز الاحتلال اللوم على حركة حماس وبعض قياداتها في نشوب الحرب، ويحاول استمالة بعض الفصائل والعوائل للتعاون معه في الإدارة المدنية للقطاع.

وتروج وسائل إعلام لدول مطبعة لأي مظاهر للخلاف داخل قطاع غزة، وتتبنى إشاعات الاحتلال بشأن قيادات المقاومة بهدف إفقاد أهل القطاع الثقة فيهم.

في المقابل توجّه المقاومة خطابا مركزا إلى أهالي الأسرى الإسرائيليين، وتسلط الضوء على قلة اهتمام حكومتهم بتحريرهم، وعلى تمييزها في توفير الحماية لسكانها.

ويستهدف عناصر المقاومة وأنصارها الجبهة الداخلية للاحتلال عبر الجهود السيبرانية الساعية إلى إثارة الخلافات بين مكونات مجتمعه، مع إبراز مظاهر التماسك واللحمة الفلسطينية في مواجهة جرائم الاحتلال.

  • تشجيع مقاتلي الخصم على الانشقاق:

ولهذا الغرض يروج الإعلام الإسرائيلي مقاطع يدعي أنها لاستسلام مقاتلين من المقاومة، كما يروج الإشاعات التي تتهم قادة المقاومة بالانفصال عن قواعدهم وعموم شعبهم وعدم مشاركتهم معاناتهم.

في حين تتلقف بعض وسائل الإعلام الغربية والعربية في الدول المطبعة هذا الخطاب وتروّجه وتخدمه بالتأكيد والتحليل.

وفي المقابل يفند إعلام المقاومة وأصدقاؤها هذه الدعاوى، وتسلط الضوء على ظاهرة الامتناع عن الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، وتسعى لتشجيعها.

وتسلط هذه التكتيكات الضوء على مركزية موقع الحرب النفسية في إستراتيجية الصراع لدى المقاومة والاحتلال وحلفاء كل منهما، انطلاقا من إدراك أن نتيجة الحرب متوقفة إلى حد كبير على كسب عقول وقلوب جمهور الطرفين.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *