تعد أفريقيا، التي تضم 54 دولة، موطنا لمجموعة واسعة من الديانات، وتظهر الكنائس المحلية الأفريقية التي نشأت حديثا المعروفة بـ “الكنائس الخمسينية” بوصفها واحدة من الفئات الدينية الأسرع نموًا في القارة، إذ تشكل حوالي ثلث المجتمع المسيحي في القارة.
وتبدي البنية الأساسية لهذه الكنائس انسجاما أوثق مع العقيدة اليهودية، كما أسلفنا في تقرير سابق، فقد توغلت إسرائيل بالمجتمعات المسيحية شرق أفريقيا ووسطها وجنوبها بالتعاون مع اليهود الأفارقة والكنائس الخمسينية.
ويأتي اليهود الأفارقة طليعة الدفاع عن إسرائيل، متبنين بشكل واسع السردية الدينية الإسرائيلية، وهو ما يسعى التقرير إلى تناوله.
تاريخ يهود أفريقيا
لعبت النصوص الكتابية والنبوءات الدينية دورا مهما في تشكيل الهوية الدينية والثقافية للعديد من المجتمعات الأفريقية، موفرة إطارا لربط اليهود الأفارقة بالعبريين القدماء.
ومن ذلك -تحديدا- الإشارة إلى نفي القبائل المفقودة إلى آشور، وذكر كوش أو إثيوبيا في الكتاب المقدس، ونبوءة إشعياء التي تتحدث عن عودة الشتات إلى صهيون. واعتبروا ذلك دلالة على جذورهم وهويتهم الروحية في العبرانية واليهودية.
وأوائل القرن العشرين، جرت مناقشات دينية بجنوب أفريقيا بين القاضي وعالم اللغات “جيمس إس كالاواي” و”لازاروس مكسابا” المثقف المنتمي لإثنية الزولو، أظهرت كيف استشهد الأخير بتاريخ إسرائيل واليونان القديمة لإعادة بناء تاريخ ديانة الزولو القديمة.
وكان مكسابا ومحيطه مقتنعين بأنهم ينحدرون من القبائل الضائعة لإسرائيل، مشيرين إلى عادات مشتركة كدليل على اتصالات قديمة بين الزولو والعبرانيين.
وفي كتابها “اليهود السود” استعرضت الباحثة إديث برودر عشرات المجموعات التي تدعي اليهودية، وتوضح أن تحليل الحمض النووي للمجموعة كشف عن أصولٍ غير أفريقية على الصعيد الأبوي، مما يشير إلى احتمالية قدوم رجالهم الساميين من خارج أفريقيا وزواجهم من أفريقيات، مما يعزز فكرة أن الهوية اليهودية الأفريقية ليست فقط مسألة تبنّ ديني، ولكنها قد تمتلك أيضا جذورا تاريخية وجينية.
وبينما يتمتع يهود الفلاشا من إثيوبيا بشهرة واسعة، توجد مجتمعات يهودية أخرى في أفريقيا كيهود اللمبا أو وا-ريمبا، وهي مجموعة إثنية توجد بشكل أساسي بين زيمبابوي وجنوب أفريقيا، مع وجود ملحوظ في موزمبيق وملاوي، ويُعرفون بتبنيهم التقاليد اليهودية. وفي أوغندا، تبرز مجموعة يهود أبيودايا التي تستمد اسمها من اللغة اللوغندية وتعني “شعب يهوذا”.
وفي الكونغو الديمقراطية، يشكل يهود لوبا أو بالوبا تجمعا آخر يدعي ارتباطه بالتقاليد اليهودية. وفي غرب أفريقيا، وتحديدا في تمبكتو بمالي، مجموعة زاخور، التي تعني “تذكر” بالعبرية، وقد أعلنت انتماءها لليهودية في الثمانينيات.
كذلك، في نيجيريا، قبائل من الإيغبو تُعرف نفسها بـ”إيبو بينيسي-إسرائيل”. بينما في غانا، تشتهر مجموعة “بيت إسرائيل” التي تمزج بين اليهودية والديانات الأفريقية التقليدية.
وبالانتقال إلى شرق أفريقيا، يُعرف يهود قبائل التوتسي في رواندا وبورندي بـ”العبرانيين التوتسي من هافيلا”. وفي زيمبابوي، يهود روسابي بالمثل، حيث يعتبرون جزءا من هذا الطيف المتنوع.
والقاسم المشترك بين هذه المجموعات هو كونهم جميعا من “الأفارقة السود” ويدعون الانتماء إلى اليهودية.
التحولات الثقافية والدينية
اكتسبت المجتمعات اليهودية تأثيراً كبيرًا رغم عددها الضئيل عبر ارتباطها بالكنائس الخمسينية الأفريقية، أما مسار احتضان الهوية اليهودية ضمن بعض الفئات الأفريقية فقد انبثق عبر مراحل مختلفة من حيث المدة الزمنية والتأثير، إذ استغرق الأمر ما يزيد على مئة عام حتى يُقبل يهود الفلاشا من إثيوبيا كجزء من الشتات اليهودي. وفي حالة اللمبا، استلزم قرابة عقدين للإقرار بهم كيهودٍ من أصول أفريقية.
يقول تيودور بارفيت، الرحالة والمؤرخ ذو الاختصاص في الدراسات اليهودية الذي قدر تعداد يهود اللمبا بما يقارب 70 ألفا عام 2010، إن تقاليدهم الشفهية تروي أن أجدادهم كانوا من اليهود القادمين من سيناء إلى جنوب أفريقيا.
وخلال الآونة الأخيرة، وفي ظل تزايد الاهتمام بالهويات الدينية لليهود الأفارقة، عملت مجتمعات غربية على نسج أواصر القبول بين اليهود الأفارقة مع المجتمعات المسيحية بأفريقيا، من خلال مؤسسات بارزة مثل مشروع “أفريقيا-إسرائيل” النرويجي، ومنظمة “المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل” (سي يو إف آي) بأميركا.
ومن هذا المنطلق، أتيحت لليهود الأفارقة فرصة التقارب مع المسيحية المحلية، مع ترويج رؤية إسرائيلية تعتبرهم شعب الله المختار، وذلك في سياق مجتمعي معزز بإغراءاتٍ روحانية أخرى مثل الحج المسيحي إلى القدس كعربون معنوي.
وعبر هذا النهج، تحولت إسرائيل إلى رمزٍ ديني، قبسًا من الأمل في منظورهم، حيث يُعتبر التأييد لليهود كتأييد للذات الإلهية، مع الإيمان بأنّ دعم إسرائيل يجلب البركات السماوية. وهذا النظر غير النقدي لإسرائيل فتح المجال لتوسع نفوذها الروحي في أفريقيا.
وفي هذا السياق، يُمكن الإشارة إلى تصريح جدعون بهار، رئيس مكتب أفريقيا في وزارة الخارجية الإسرائيلية سابقًا، والذي قال “نعطي أولوية للعلاقات مع الجماعات الدينية والعرقية والسياسية سواء.. غير أن الزيادة في حجم وتأثير المجتمعات الدينية بأفريقيا في الآونة الأخيرة الداعمة، تسهم تلقائيًا في تعميق الصلات مع إسرائيل وتنمية الإقبال على التواصل معنا..”.
دور يهود أفريقيا في دعم إسرائيل
ومن خلال التأثير على القساوسة ذوي النفوذ الكبير في المجتمعات المسيحية، بالإضافة إلى مجموعات ضغط دينية تسعى لكسب دعم النخب الحاكمة لإسرائيل ومواقفها دوليًا، أصبح اليهود قوةً داعمةً يعززون الرواية الإسرائيلية في أفريقيا.
وفي جنوب أفريقيا مثلا، سعت إسرائيل والاتحاد الصهيوني الجنوب أفريقي “إس إيه زد إف” بشكل مستمر للتعاون مع الكنيسة المسيحية الصهيونية القديمة “زد سي سي” وهي جماعات إيمانية ناشطة، في محاولة لمواجهة الدعم السياسي لفلسطين والحدّ من الزخم الشعبي لحملة المقاطعة والعقوبات.
“أعينونا على مقاومة هذه الظاهرة والجنون الذي استولى على الحزب الحاكم.. إذْ نحن لا نرغب في أن تطالنا اللعنات الناتجة عن هذه الممارسات، بل نطمح لأن نجلب البركات التي تستحقها جنوب أفريقيا بالفعل” بهذه الكلمات طلب رئيس الاتحاد الصهيوني بن سوارتز دعم الحاضرين بشغفٍ، في مؤتمر مؤيد لإسرائيل نُظم في جوهانسبرغ عام 2018، في إشارةٍ منه إلى دعم حكومة رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا للقضية الفلسطينية.
ورأينا مثله من ردود هجومية إسرائيلية على جنوب أفريقيا عقب رفعها قضية جنائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، والتي قامت بها بعد استشهاد ما يزيد على 21 ألف فلسطيني نتيجة العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وهكذا، ورغم نسبتهم القليلة في القارة، استطاع اليهود الأفارقة التأثير بشكل ملحوظ على الرأي العام في أفريقيا. لكن، يظل الإنجاز الأخطر هو قدرتهم على جعل الكنائس الخمسينية في أفريقيا تُعبّر عن قناعاتهم.