مرت 3 عقود على الإبادة الجماعية بحق عرقية التوتسي التي شهدتها رواندا في أبريل/نيسان 1994.
آنذاك قتلت مليشيات من الهوتو قرابة 800 ألف رواندي من أقلية التوتسي والهوتو المعتدلين وعرقية التوا، في واحد من أحلك الأحداث في تاريخ العالم.
أدى إرث الاستعمار وحملات التحريض وخطاب الكراهية في وسائل الإعلام وبطء استجابة المجتمع الدولي للأزمة في رواندا إلى تأجيج الإبادة الجماعية.
توسعت الأزمة إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية المجاورة، فاشتعلت الحرب فيها، وتشهد حتى يومنا هذا أعمال عنف مستمرة.
كانت التوترات تختمر بالفعل بين الهوتو والتوتسي قبل أبريل/نيسان 1994. شكل التوتسي قرابة 8.4% من السكان وفقا لتعداد سكاني أجري عام 1991، وخلال حقبة الاستعمار تمتعوا بمزايا وامتيازات.
وشكل الهوتو 85% من السكان، لكنهم لم يتمكنوا عمليا من الحصول على التعليم والفرص الاقتصادية المساوية.
تقول الباحثة والأستاذة السابقة بجامعة غوتنبرغ السويدية لينارت وولجيموث “يستخلص المؤرخون بشكل عام أن البلجيكيين استخدموا التوتسي وكلاء في حكم البلاد، ولهذا قدموا لهم امتيازات خاصة”.
قبل الاستعمار، لم يكن ممكنا بسهولة التعرف على الانتماءات الإثنية للروانديين، كان من الاعتيادي أن ينال أثرياء الهوتو -على سبيل المثال- ألقابا بانتماء فخري للتوتسي.
وقالت وولجيموث “كان التقسيم يعتمد على مقدار الثروة الحيوانية التي يملكها الشخص، لكن البلجيكيين عززوا الخلافات بين الإثنيتين وتلاعبوا بهما”، وأضافت “كان التوتسي أفضل حالا بالفعل، وقد استخدموا بالطبع امتيازاتهم لتحسين حياتهم”.
في العام 1932 أجرت سلطات الاستعمار تعدادا سكانيا وأضافت التعريف الإثني على بطاقات الهوية. ساهمت هذه الخطوة في تعميق الانقسام المجتمعي. وفي العام 1959، عمت حركات الاستقلال أرجاء أفريقيا، فانتفض الهوتو ضد الاستعمار البلجيكي والنخبة الحاكمة من التوتسي.
أدى ذلك إلى فرار نحو 120 ألف شخص إلى دول الجوار، غالبيتهم من التوتسي، هربا من عمليات القتل والهجمات عليهم. وبعد الاستقلال عام 1962، وصلت حكومة من الهوتو إلى السلطة.
أما اللاجئون في دول الجوار، فبدؤوا بتنظيم أنفسهم في دول اللجوء، لا سيما التوتسي. وبدأت حكومة الهوتو تخشى تأثير إحدى أبرز المجموعات “جبهة رواندا الوطنية” التي اتخذت من أوغندا مقرا لها وتتمتع بدعم الرئيس يوري موسيفيني. وكان من بين أبرز قادتها الرئيس الحالي بول كاغامي. واندلع القتال أواخر عام 1990 بين الجبهة وحكومة رواندا.
فتيل الإبادة الجماعية
تعرض التوتسي في تلك الفترة لحملة قمع عنيفة من قبل حكومة الهوتو، واتهمتهم بالتواطؤ مع جبهة رواندا الوطنية. وصورتهم الدعاية الحكومية على أنهم خونة، مما أثار غضبا واسع النطاق ضدهم.
بعد تدخل دولي، وقع الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمانا على اتفاقيات أروشا في أغسطس/آب 1993 لإنهاء القتال، مما أدى إلى وقف هجمات جبهة رواندا الوطنية. ونشرت الأمم المتحدة قوات لتسهيل عملية السلام في إطار بعثة أممية لمساعدة رواندا.
أثار ذلك غضبا بين الهوتو وحتى داخل الحكومة، وبدأ البعض تنفيذ عمليات قتل بناء على قوائم كانت تضم أسماء منتمين إلى إثنية التوتسي.
في 6 أبريل/نيسان 1994، أُسقطت طائرة تقل الرئيس الرواندي والرئيس البوروندي سيبريان نتارياميرا فوق كيغالي. وتوفي الرئيسان ومن كان على متنها.
لم يتم تحديد المتورطين في إسقاط الطائرة، إلا أن وسائل الإعلام المحلية وجهت أصابع الاتهام للتوتسي، واتهمتهم بالضلوع في اغتيال الرئيس، وحثت الهوتو على “التدخل والقيام بواجبهم”.
عمليات القتل
كانت جرائم القتل ممنهجة. بعد ساعات على سقوط طائرة الرئيس، اغتالت قوات الأمن رئيسة الوزراء، وهي من الهوتو المعتدلين، و10 من قوات حفظ السلام البلجيكية المكلفة بحمايتها في منزلها يوم 7 أبريل/نيسان 1994.
ثم قامت القوات الحكومية بالتعاون مع مليشيا الهوتو المعروفة باسم إنتراهاموي -وهو اسم يعني “أولئك الذين يهاجمون معا”- بإقامة حواجز على الطرق في كيغالي، وبدأت في مهاجمة التوتسي والهوتو المعتدلين. وسرعان ما انتشر القتل إلى مدن أخرى.
فتح الجنود النار على الحشود، في وقت تنقل فيه رجال بالسلاح الأبيض بين المنازل مستهدفين التوتسي ومن يحاول حمايتهم أو تقديم الملاذ لهم من الهوتو، مستخدمين المناجل والهراوات الحادة أو غير الحادة. قتلوا الجيران وأفراد الأسرة، واغتصبوا النساء، ونهبوا المنازل. وفي وقت لاحق، تم اقتياد الضحايا إلى مناطق مفتوحة واسعة مثل الملاعب أو المدارس لذبحهم.
انتهت أعمال القتل بعد 100 يوم في 4 يوليو/تموز 1994 عندما سيطرت جبهة رواندا الوطنية على كيغالي. فر الهوتو، الذين شاركوا في الإبادة الجماعية بالإضافة إلى المدنيين من الهوتو خوفا من الانتقام، إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، في حين نهب المسؤولون خزائن الدولة وفروا إلى فرنسا.
أعداد الضحايا
يصعب تقديم رقم دقيق لأعداد الضحايا، إذ لا تزال المقابر الجماعية تُكتشف حتى اليوم. ففي يناير/كانون الثاني من العام الحالي، على سبيل المثال، اكتُشف موقع يحتوي على رفات 119 شخصا في منطقة هوي جنوبي رواندا.
قالت الأمم المتحدة إن 800 ألف رواندي قتلوا في الإبادة الجماعية التي استمرت 3 أشهر، لكن تقديرات أخرى تشير لمقتل نحو 500 ألف شخص، أما الحكومة الرواندية فتقدر عدد الضحايا بأكثر من مليون شخص.
وتغيب أيضا الإحصائيات لأعداد الهوتو والتوتسي، وألغت الحكومة كليا أي تعريف يظهر الانتماء العرقي في تعداداتها السكانية.
قبل الإبادة الجماعية، قدر تعداد عام 1991 عدد التوتسي بنحو 657 ألف نسمة أي نسبة 8.4%، وتتهم حكومة هابياريمانا بتعمد إدراج أرقام أقل من الواقع للحد من حصولهم على التعليم وغيره من الفرص. وتشير تقديرات هيومن رايتس ووتش إلى مقتل ما لا يقل عن 500 ألف من التوتسي، أي 77% منهم عام 1991.
قُتل ما يقدر بنحو 1.1 مليون شخص في المجمل، بما في ذلك الآلاف من الهوتو الذين لقوا حتفهم على أيدي جبهة رواندا الوطنية.
إعلام الكراهية
لعبت محطة الإذاعة والتلفزيون الحرة وإذاعة رواندا المملوكة للدولة دورا أساسيا في تأجيج الكراهية ضد التوتسي في جميع أنحاء البلاد. وقام كل منهما بتغذية المخاوف بين الهوتو من إمكانية عودة التوتسي للحكم.
اجتذبت محطة الإذاعة الحرة شريحة ديمغرافية شابة، وكانت بديلا لراديو رواندا. فقد درج مقدمو البرامج على الإدلاء بتصريحات مهينة بحق التوتسي بنزع صفة الآدمية عنهم ووصفهم بتعابير مثل “مجموعة قذرة”، كما تم استخدام مصطلحي “الصراصير” و”الثعابين” بشكل متكرر في البرامج الإذاعية.
كانت محطة الإذاعة الحرة أول من اتهم جبهة رواندا الوطنية بإسقاط طائرة هابياريمانا. وقبل أشهر من الإبادة الجماعية، طلبت المحطة الإذاعية من المستمعين أن يتوقعوا “حدثا كبيرا”، وفقا لباحثين إعلاميين درسوا برامجها.
أثناء الإبادة الجماعية، تجوّل المهاجمون في الشوارع حاملين المناجل في يد وأجهزة الراديو في اليد الأخرى، واستمعوا إلى إذاعة راديو رواندا وإذاعة الحرة التي تذكر أسماء التوتسي أو حماتهم، وأبلغت الناس بمكان العثور عليهم.
ماذا فعل المجتمع الدولي؟
كان زعماء العالم على علم بالإبادة الجماعية لكنهم لم يتدخلوا. لمدة طويلة، تجنبت الأمم المتحدة استخدام كلمة “الإبادة الجماعية” تحت ضغط من الولايات المتحدة، التي كانت مترددة في إرسال قواتها. وقال الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بان كي مون، في الذكرى العشرين للإبادة الجماعية، إن المنظمة لا تزال “تشعر بالخجل” لفشلها في منع الإبادة الجماعية.
وقال الرئيس كاغامي، الذي قاد متمردي التوتسي وأطاح بحكومة الهوتو عام 1994 وأنهى الإبادة الجماعية، إنه يشعر بالإحباط الشديد بسبب تقاعس العالم عن التحرك أثناء الإبادة الجماعية لدرجة أنه فكر في مهاجمة بعثة الأمم المتحدة المحلية وسرقة أسلحتها لوقف الإبادة الجماعية.
قبل عمليات القتل في أوائل عام 1994، تلقى قائد بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى رواندا الجنرال روميو دالير معلومات استخباراتية عن عمليات القتل الوشيكة، وحدد مخابئ الأسلحة السرية التي خزنها الهوتو. وأرسل 5 رسائل في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى مارس/آذار إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يطلب فيها توسيع تفويض البعثة حتى يمكن الاستيلاء على تلك الأسلحة وزيادة أعداد القوات. وتم تجاهل تحذيراته.
وعندما بدأت أعمال القتل، سحبت الأمم المتحدة والحكومة البلجيكية قوات حفظ السلام. واقتصر عمل القوات الفرنسية والبلجيكية على إجلاء المغتربين، ورفضت مساعدة التوتسي.
وواصلت فرنسا، التي أمدت حكومة هابياريمانا بالسلاح -رغم معرفتها بخطط لقتل التوتسي- التحالف مع حكومة الهوتو المؤقتة في الأيام الأولى من عمليات القتل. وفي ذلك الوقت، نظرت فرنسا إلى الجبهة الوطنية الرواندية المدعومة من أوغندا باعتبارها قوة “ناطقة باللغة الإنجليزية” معادية من شأنها أن تؤثر سلبا على مجال “نفوذها الأفريقي”.
أصدرت الأمم المتحدة أخيرا قرارا يوم 17 مايو/أيار 1994 يفرض حظرا على الأسلحة على رواندا، ويعزز بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إليها (رواندا). ومع ذلك، لم يبدأ الجنود الجدد في الوصول حتى يونيو/حزيران من العام ذاته، وكانت غالبية عمليات القتل قد وقعت بالفعل.
ومنذ ذلك الحين، تعرضت القنوات الإعلامية الغربية لانتقادات بسبب التقليل من شأن الإبادة من خلال وصفها بالحروب “الأهلية” أو “القبلية”.
المحكمة الجنائية الدولية
أنشأت الأمم المتحدة المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في نوفمبر/تشرين الثاني 1994، وكان مقرها في أروشا بتنزانيا، التي وافقت على استضافة المحكمة لأن “بعض هؤلاء الأشخاص لن يتمكنوا من المثول أمام المحاكم في رواندا، لذا كانت هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة بالنسبة للأمم المتحدة لإنشاء نظام قضائي مستقل”، وفقا لما قالته وولجيموث.
وقاضت المحكمة العديد من قادة الإبادة الجماعية البارزين، بمن فيهم رئيس الوزراء المؤقت جان كامباندا، الذي حُكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة التحريض والمساعدة على ارتكاب الإبادة والفشل في منع الإبادة الجماعية. كما حكم عليه بتهمتين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وقد أدانت المحكمة 61 شخصا آخر.