تخيل أنك داخل غابة كثيفة الأشجار، وتحاول التواصل مع شخص ما على الجانب الآخر، فمن المؤكد أن الموجات الصوتية قد تمتصها الأشجار أو تشوهها. لكنْ في كوننا السحيق تستطيع “النيوترينوات” (وهي جسيمات ليس لها شحنة كهربائية ولا كتلة لها تقريبا) السفر عبر الفضاء دون عائق، والمرور عبر كل شيء حتى تصل إلى الأرض حاملة معلومات من الأحداث الكونية البعيدة مثل انفجار النجوم أو اصطدام الثقوب السوداء.
وبينما يمكن لأجهزة الاستشعار مراقبة هذه “النيوترينوات”، فإن فريقا بحثيا من معهد نيلز بور بجامعة كوبنهاغن بالدانمارك، نجح في تطوير طريقة تستغل البيانات الخاصة برصدها من محطة رصد بالقطب الجنوبي لإثبات وجود ما يعرف بـ “الجاذبية الكمومية”.
و”الجاذبية الكمومية” إطار نظري يسعى إلى توحيد نظريتين أساسيتين في الفيزياء هما: “ميكانيكا الكم” التي تصف سلوك الجسيمات عند أصغر المقاييس، و”النسبية العامة” التي تصف سلوك الجاذبية والزمكان على مقاييس كبيرة مثل النجوم والمجرات.
ويعتمد فهمنا للكون حاليا على هاتين النظريتين المنفصلتين، ومن ثم فإن توحيدهما تحت إطار نظري واحد مثل “الجاذبية الكمومية” من شأنه توفير فهم أكثر شمولا للفيزياء الأساسية.
والفكرة التي يقدمها الفريق البحثي من الدانمارك عبر هذه الدراسة المنشورة في دورية ” نيتشر فيزكس”، أن رصد حدوث تغيّرات في نكهات هذه النيوترينوات خلال رحلتها في الفضاء السحيق، يشير إلى وجود قوة غير مرئية تؤثر فيها وهي “الجاذبية الكمومية”.
ثلاث نكهات لـ”النيوترينو”
والنيوترينو، هو في الواقع ثلاثة جسيمات تُنتَج معا، وهو ما يُعرف في ميكانيكا الكم بـ”التراكب”، ويمكن أن يكون له ثلاثة تكوينات أساسية يسميها الفيزيائيون بـ”النكهات”، وهي الإلكترون والميون والتاو.
وتنتقل “النيوترينوات” بين هذه الحالات أثناء سفرها عبر الفضاء، ويحدث هذا التحول بشكل متماسك يُعرف باسم “التماسك الكمي”، مما يسمح لمكونات النكهة المختلفة بالتداخل مع بعضها البعض.
وينكسر هذا التماسك في معظم التجارب المعملية على الأرض، وهي الحالة التي تعرف باسم “تذبذبات النيوترينو”، ويرجع ذلك لعدة أسباب هي:
- التفاعلات البيئية: فحتى في البيئات المختبرية التي يُتحكم فيها بعناية، يمكن للنيوترينوات أن تتفاعل مع جزيئات أو مجالات أخرى موجودة في المناطق المحيطة، ويمكن لهذه التفاعلات أن تزعج الحالات الكمومية الدقيقة وتتسبب بكسر التماسك.
- الضوضاء والتقلبات: يمكن أن تؤدي التقلبات مثل درجة الحرارة أو الضغط أو المجالات الكهرومغناطيسية إلى إدخال ضوضاء إلى النظام، ويمكن أن يؤدي هذا الضجيج إلى تعطيل السلوك المتماسك للجزيئات ويسبب فك الترابط.
- تأثيرات القياس: غالبا ما تتفاعل النيوترينوات مع أجهزة القياس أثناء التجارب، ويمكن لهذه التفاعلات أن تزعج الحالات الكمومية للنظام، مما يؤدي إلى عدم الترابط.
وعلى عكس هذه المعوّقات التي تؤثر في “التماسك الكمي” في الأرض، يبدو الوضع مختلفا في الفضاء لعده أسباب هي:
- التفاعل الضعيف: فالنيوترينوات تتفاعل بشكل ضعيف جدا مع الجسيمات الأخرى مثل تلك الموجودة في الفضاء بين النجوم، ويقلل هذا التفاعل الضعيف من فرص حدوث اضطرابات خارجية تعطل التماسك الكمي للنيوترينوات أثناء رحلتها عبر الفضاء.
- انخفاض كثافة الجسيمات: ففي الفراغ الشاسع للفضاء فإن كثافة الجسيمات منخفضة للغاية، خاصة في المناطق الواقعة بين النجوم والمجرات، ومع وجود عدد أقل من الجزيئات التي يمكن التفاعل معها تقل احتمالية وقوع أحداث فك الترابط بشكل كبير.
- العزلة عن العوامل البيئية: تسافر النيوترينوات في فراغ الفضاء معزولة نسبيا عن العوامل البيئية التي يمكن أن تعطل التماسك، ويكون هناك حد أدنى من التأثيرات الخارجية مثل التقلبات في درجات الحرارة أو المجالات الكهرومغناطيسية، والتي يمكن أن تؤدي إلى عدم الترابط.
وقادت المقارنة بين الحالة الأرضية والفضائية الفريق البحثي إلى القول إنه إذا رُصد أي تغييرات طفيفة في التماسك الكمي خلال رحلة النيوترينو في الفضاء، فإن ذلك يمكن أن يشير إلى أول دليل قوي على الجاذبية الكمومية.
لماذا القطب الجنوبي؟
وفي سعيهم للبحث عن هذه التغيرات الطفيفة في التماسك الكمي خلال رحلة النيوترينو في الفضاء، لجأ الباحثون إلى مرصد “آيس كيوب” بالقطب الجنوبي، وهو منشأة بحثية تُشغل من قبل جامعة ويسكونسن ماديسون بالولايات المتحدة، ويضم مركزا لدراسات النيوترينو شاركت في تأسيسه أكثر من 50 جامعة، من بينها جامعة كوبنهاغن التي ينتمي لها الفريق البحثي.
ووفق بيان صحفي أصدرته الجامعة بالتزامن مع نشر الدراسة، يُعد هذا المرصد مثاليا لدراسة النيوترينو لعده أسباب، منها:
- مسار المراقبة الواضح: فالنيوترينوات محايدة كهربائيا وعديمة الكتلة تقريبا، وهذا يمكّنها من السفر عبر المادة -بما في ذلك الأرض- دون امتصاصها أو انحرافها بشكل كبير، وبالتالي يمكن للنيوترينوات القادمة من نصف الكرة الشمالي أن تخترق باطن الأرض وتصل إلى أجهزة الكشف في مرصد “آيس كيوب” دون تفاعل كبير، مما يوفر مسارا واضحا للمراقبة.
- غياب التداخل مع الغلاف الجوي: تواجه النيوترينوات القادمة من نصف الكرة الشمالي عوائق أقل أثناء انتقالها عبر الأرض مقارنة بتلك الموجودة في نصف الكرة الجنوبي، وذلك لأن الغلاف الجوي يكون أكثر كثافة قرب خط الاستواء وفي نصف الكرة الجنوبي بسبب توزيع اليابسة والمحيطات، مما يؤدي إلى زيادة التفاعلات وامتصاص النيوترينوات، وفي المقابل تواجه النيوترينوات القادمة من نصف الكرة الشمالي تداخلا أقل في الغلاف الجوي، مما يجعل اكتشافها أكثر موثوقية.
- العزل عن الضوضاء الخلفية: يوفر الموقع البعيد لمرصد “آيس كيوب” في القطب الجنوبي عزلة عن النشاط البشري والاضطرابات الجوية، مما يقلل من الضوضاء الخلفية التي يمكن أن تتداخل مع اكتشاف النيوترينو، وتعمل هذه العزلة على تعزيز حساسية المرصد للكشف عن الإشارات الخافتة الصادرة عن النيوترينوات القادمة من نصف الكرة الشمالي.
- حساسية الاتجاه: يسمح تصميم المرصد بتحديد الاتجاه الذي تنشأ منه النيوترينوات، ومن خلال تحليل اتجاهات وصول النيوترينوات المكتشفة، يمكن للعلماء استنتاج مصادر هذه النيوترينوات في نصف الكرة الشمالي، مثل الأجسام الفيزيائية الفلكية البعيدة أو الأحداث الكونية.
خطوة على الطريق
وباستخدام مرصد “آيس كيوب”، حلل الباحثون البيانات لأكثر من 300 ألف نيوترينو. وعلى الرغم من عدم اكتشافهم أي تغيرات متوقعة تتعلق بالجاذبية الكمية، فإنهم نجحوا في وضع منهجية للتجارب المستقبلية تعتمد على استخدام بيانات النيوترينو للتحقيق في احتمال وجود الجاذبية الكمومية.
ويَعتبر توم ستوتارد الأستاذ المساعد بمعهد نيلز بور بجامعة كوبنهاغن دراستهم بمثابة “خطوة على الطريق”، قائلا في البيان الصحفي إنه “لسنوات عديدة شكك العديد من الفيزيائيين فيما إذا كانت التجارب يمكن أن تختبر الجاذبية الكمومية، ولكن دراستنا تبين أن ذلك ممكن بالفعل، ومع وجود أجهزة كشف أكثر دقة سيتم بناؤها في العقد المقبل، نأمل أن نتمكن من تحقيق ذلك”.
وبدوره، يُثْني رئيس المركز المصري للفيزياء النظرية عبد الناصر توفيق على جهود الباحثين في هذا المشروع البحثي، واصفا -في حديث عبر الهاتف مع “الجزيرة نت”- تلك الجهود التجريبية بأنها تُكمل جهود الباحثين النظرية لوضع إطار نظري لـ”الجاذبية الكمومية”.
ويقول توفيق إنه قدم في دراستين نشرهما بدوريتي “إنترناشونال جورنال أوف مودرن فيزكس” و”أسترونوميكال نوت”، محاولة لصياغة أساس رياضياتي لنظرية “الجاذبية الكمومية” وذلك بناء علي تقريب هندسي كمومي مبتكر، وكان يتمنى لو نجح الباحثون في هذه الدراسة الجديدة في العثور على إشارات تثبت وجودها.
ويعتقد أن هذا الجهد التجريبي الفريد يجب أن يحفّز الهمم ﻹنجاز الدراسات النظرية ذات الصلة وخاصة من قبل الباحثين والعلماء العرب.
ويضيف أنه “رغم عدم توصل الباحثين لاختراق مهم في رصد إشارات على وجود الجاذبية الكمومية، فإن المنهجية المستخدمة في الدراسة، تبشر بأنه يمكن أن يتم العثور على دليل عملي يؤكد وجودها في المسقبل القريب”.
وعن أهمية إثبات وجود الجاذبية الكمومية يقول توفيق إن هناك عدة مزايا لذلك:
- أولا: استكمال الإطار النظري لمنظومة العلوم الحديثة، حيث يَعتمد فهمنا للكون اعتمادا حصريا على نظريتين أساسيتين لكنهما منفصلتين ومختلفتين وغير متوافقتين بداية من الأسس التي بنيتا عليها، وهما ميكانيكا الكم والنسبية العامة، وعليه فإن توحيدهما فى إطار نظري واحد مثل “الجاذبية الكمومية” من شأنه أن يوفر فهما أكثر شمولا للفيزياء الأساسية.
- ثانيا: حل التناقضات النظرية، فعلي سبيل المثال، في قلب الثقب الأسود تتحدى الظروف القاسية فهمنا الحالي للفيزياء، ويمكن أن يساعد التوصل لنظرية للجاذبية الكمومية في حل هذه التناقضات والتي تنشأ عند محاولة تطبيق كل من ميكانيكا الكم والنسبية العامة على هذه الظاهرة المتطرفة.
- ثالثا: التنبؤ بظواهر جديدة، حيث يُتوقع للجاذبية الكمومية أن تبرز ظواهر وتأثيرات جديدة، وقد نتمكن من اختبارها من خلال تجارب معملية أو ملاحظات كونية، وإن اكتشاف هذه الظواهر يمكن أن يؤدي إلى العديد من الاختراقات في المجالات التكنولوجية، كما سيحسن فهمنا للطبيعة.