كان الجو رائعًا على شاطئ “أولغا” جنوب مدينة حيفا المحتلة ظهيرة يوم السادس من يوليو/تموز 2017. لم تتجاوز درجة الحرارة السابعة والعشرين مئوية، ما جعله وقتًا مثاليًا للرجلين اللذين نراهما يسيران على الشاطئ، يتحدثان في ود هامس، ويضحكان بصوت عال، ويشيران بأيديهما بين الفينة والأخرى للأفق في تفاؤل ظاهر.
بدا الرجلان كما لو كانا صديقين يستذكران أيامهما الخوالي، لكنك ستندهش إذا علمت أن الرجلين النشيطين اللذين يسيران بخفة على الشاطئ، وقد كشفا عن ساقيهما، ويخطوان نحو عقدهما الثامن بفارق عام واحد، لم يلتقيا من قبل إلا مرات قليلة، وأن هذه هي الزيارة الأولى لأحدهما إلى بلد الآخر.
لم يكن الرجلان سوى “بنيامين نتنياهو”، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وضيفه “ناريندرا مودي”، رئيس وزراء الهند، والذي يزور دولة الاحتلال منهيًا بذلك تاريخًا طويلًا من الجفاء، بدأ منذ إعلان استقلال الهند عام 1947، وتصويتها بالرفض على قرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين بعد ذلك بثلاثة أشهر.
بدأ اليوم مبكرًا لمودي، فقد استيقظ في الخامسة صباحًا في جناح القدس بفندق الملك داوود في القدس المحتلة، وهو الفندق الذي أسسه يهودي مصري في ثلاثينيات القرن العشرين وامتلك البنك الأهلي المصري أغلب أسهمه، قبل أن يفجره أعضاء عصابة إرغون الصهيونية تحت قيادة مناحم بيغن، في يوليو/تموز عام 1946 في استهداف لمقر إدارة الانتداب على فلسطين بهدف تدمير وثائق الحكومة الفلسطينية حتى لايتم استخدامها بعد قيام إسرائيل.
لاحقًا، توجه “مودي” بصحبة نتنياهو إلى حيفا لزيارة قبور الجنود الهنود الذين قُتلوا أثناء معارك التاج البريطاني مع الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى فيما بدا محاولة لبناء حلقة وصل بين الهند وإسرائيل، قبل تأسيس دولة الاحتلال بعقود، تجاه خصم حاضر وهو ” الخطر الإسلامي” وجذوره البعيدة المتمثلة في الدولة العثمانية.
هذا الادعاء ضحيته الحقيقة التاريخية، فاشتراك الهنود في الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية تحت لواء بريطانيا سببه الرئيس وقوعهم تحت نير الاستعمار ولم يكن يسعهم الرفض، وقد غفل “مودي” أن الهنود المقاتلين في الجيش الانجليزي في فترة الانتداب البريطاني في حقبة الحرب العالمية الثانية تعرضوا لهجمات مميتة من قبل العصابات الصهيونية في فلسطين. ذهب التليفزيون الهندي خطوة أبعد بأن أضاف عبارة بخط عريض، أعلى الشاشة التي تُبث عليها صور الزيارة، تصف العلاقة بين البلدين بأنها: “صداقة تمتد لألفي عام”!
يحارب الماضي من أجل المستقبل
ربما لم يكن ادعاء الألفي عام ليخرج لو كان رئيس الوزراء الهندي شخصًا غير “ناريندرا مودي”، المعروف بعشقه للميلودراما التي امتازت بها السينما في بلاده، واعتياده تبهير الحقائق لتغدو أكثر جذبًا لمؤيديه محبي الملاحم والأساطير. فمودي، الذي يحارب الماضي، يحاول افتعال ذاكرة تشرعن توجهه الجديد، المخالف لكل ما تأسست عليه الهند الحديثة.
فقد كانت الهند منذ استقلالها حجر عثرة أمام طموحات إسرائيل في الحصول على اعتراف غير مشروط من إحدى أكبر دول العالم. إنه العالم الذي عرف الهند باعتبارها الدولة الفتية المنعزلة خلف سلاسل الجبال التي خرجت من تحت أغلال الاحتلال لتقود نظام ما بعد الاستعمار، وليؤسس زعيمها “جواهر لال نهرو” حركة عدم الانحياز بجانب زعماء أمثال جمال عبد الناصر، وجوزيف تيتو.
رأت هند ما قبل “مودي” في إسرائيل مشروعًا استعماريًا استيطانيًا يتمم ما بدأه الاستعمار البريطاني ولا يختلف عنه في شيء. بل إن زعيمها الروحي، المهاتما غاندي، صرح بالقول إن فلسطين ملك للعرب، “تمامًا مثلما أن إنكلترا ملك للإنكليز وفرنسا ملك للفرنسيين.” وعلى الرغم من اعترافها بإسرائيل كحقيقة واقعة عام 1950، فإن دلهي لم تفتح قنواتها الدبلوماسية مع تل أبيب إلا بالتزامن مع مفاوضات أوسلو عام 1992.
حيث مدت إسرائيل أواصر الصداقة بتسليح الهند، ورفدتها بالذخيرة والمعلومات خلال مواجهاتها المتقطعة مع جارتها باكستان. ورغم ذلك، لم يزر أي رئيس حكومة هندي إسرائيل طيلة سبعين عامًا، إلى أن وصل “مودي” إلى السلطة في مايو/أيار عام 2014. وفي أول اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة حضره الرجل، استقبله نتنياهو بحرارة ودعاه لزيارة إسرائيل قائلًا له إن التعاون مع البلدين “حدوده السماء”.
وعلى الأرض المحتلة في أول زيارة لمودي تم إطلاق اسمه على زهرة “ياسمين” مشهورة تُستنبت في إسرائيل. كان نتنياهو فطنا الى طبيعة الزعيم الهندي فتجاوز معه الأعراف الدبلوماسية، لاستمالته نحو إسرائيل حيث طبع نتنياهو صورته مع “مودي” على بطاقة معايدة وكتب له إهداءً دافئًا. بحلول عام 2022، تم تأسيس “عقد جديد” بين اسرائيل والهند أصبحت الأخيرة بموجبه أكبر مستورد للسلاح الإسرائيلي، وأحد أكثر المنتفعين من تكنولوجيا التجسس التي طورتها دولة الاحتلال، في علاقة يصفها الطرفان بالاستراتيجية.
دولة هندوسية بعقيدة صهيونية
تأسس هذا التعاقد الجديد، وفق إطار نظري أصولي هندوسي له جذوره القديمة ولكنه قوي في عهد “مودي”، ومن خلاله تحتل الهند وإسرائيل مواقع متوازية في الخيال الأصولي الهندوسي. إذ كلتاهما دولتان دينيتان، يهودية وهندوسية، محاطتان بأعداء مسلمين من داخلهما وعلى الحدود. ويكمن حل مشكلاتهما في بناء قوة عسكرية صلبة، متقدمة تكنولوجيًا، تعامل أعداءها هؤلاء بلا رحمة.
وبحسب الأصولية الهندوسية، فإن الهندوسي يصير هنديًا، حتى لو لم يولد في الهند، ولم يعرفها، كما ترى الصهيونية أن كل من وُلد لأم يهودية يعتبر إسرائيليًا. وفي المقابل، فإن أصحاب الأرض في ربوع “الهند” أو في “الأرض المحتلة”، ممن وُلدوا فيها، ولم يعتنقوا الهندوسية أو الصهيونية، فهم مواطنون ناقصو الأهلية، عليهم أن يذوبوا في المجتمع الذي يعيشون فيه، بلا هوية، ولا دين، ولا ثقافة، تميزهم عن غيرهم، إذا أرادوا الحياة في هذا المجتمع بسلام.
تدمج إذن الأصولية الهندوسية والتي تُعرف بأيديولوجيا الهندوتفا Hindutva، الرائجة الآن، بين الدين والعرق والوطن، مثلما فعلت الحركات النازية والفاشية من قبل. وللمفارقة التي يتجاهلها قادة دولة الاحتلال، فقد آمن آباء الأصولية الهندوسية التي يعتنقها “مودي” بمنطق النازية وبتفوق العرق الآري.
لكن بينما تأسست إسرائيل على هذه العقيدة من الفصل العنصري بين اليهود والعرب، لم تتأسس هند ما بعد الاستقلال على هذا التوجه، بل كانت تحاول جاهدة تطبيق مبدأ المواطنة دونما تمييز. لكن التحولات التي شهدتها الهند، لا سيما تحت زعامة “مودي” منذ 2014، جعلت “فقه المخاصمة” يعمّ، وعناصر “التمييز” تسود، في حقبته تلك التي نقلت المسلمين من خانة مواطني الدرجة الثانية، إلى الغرباء الذي ينتظرون قرار الترحيل.
تدفعنا هذه التحولات لمعرفة الزعيم الهندي، الذي لا يخفي غضبه من تاريخ بلاده لاسيما في حقبها الاسلامية، ولا من مكونها الديمغرافي البشري التنوعي خصوصا فضاءات المسلمين في شبه القارة الهندية. الأمر الذي دفعه إلى استخدام كل أدوات الدولة ومقدراتها، وبمساعدة جيش من تابعيه المخلصين، لبناء هند جديدة، تختلف جذريًا عن تلك التي أرادها مؤسسوها، ولا التي خطها التاريخ.
هل كان “مودي” صانع هذا التغيير أم أنه تجلّ آخر لروح العصر، الذي يقدم الشعبويين أصحاب المفاصلة والكاريزما، على السياسيين الذين يمدون الجسور مع مخالفيهم، كيف نفهم الامبراطور الغضوب؟