كان واضحاً بأن ما يحتاجه الجمهور السوري هذا العام أعمال لا تدير ظهرها لآلام الناس وأوجاعهم وقضاياهم الصغرى، إذ لن يكون مفيداً أن يشاهد الجمهور جرعات مفرطة من العنف، ولا بطولات فانتازية تقارب البيئة الشامية من ناحية الشكل المستعار من أعمال سابقة، ولا ذكريات الراقصات المتقاعدات، ولا حتى الاستنساخ الباهت لسلسلة “بقعة ضوء” الشهيرة في عمل يتخلّى عن البيئة السورية لينجز دراما أعتى طموحاتها أن تمرّ ملوّحة دون أن تلاحقها الأقلام النقدية بتعقيبات قاسية.
الهم المجتمعي يترك يومياً فرصاً لمقترحات درامية ربما تستطيع مواكبة الظرف الخدمي المترّدي واصطفاف الناس بالطوابير لتحصيل المازوت والغاز والخبز ووسائل النقل. هكذا، ما يزال الواقع المأزوم يسبق أي متخيّل حكائي بأشواط، تترجمه حوادث صادمة: كأن يقدم أب على قتل أبنائه ومن ثم ينتحر في ريف دمشق، لأنّه لم يجد سبيلاً للعيش في البلد. وغالباً فإن موسما لا يتخذ من ذاك الرجل مثالاً لنسج قصّته وتقديمها إلى الناس لن يعوّل عليه.
ومع كلّ ذلك، هناك أعمال حصدت إقبالا وجماهيرية وأثارت الجدل، بينما مرّت أعمال أخرى بأدنى من التوقعات، على الأقل من ناحية الجماهيرية التي كان يمكن أن تحققها ومنها: “كسر عضم 2 – السراديب” الذي ظهر قبل سنتين بتوقيع علي صالح كاتباً ورشا شربتجي مخرجة، ومن إنتاج كلاكيت ميديا – إياد النجّار، وبطولة فايز قزق وخالد القيش ونادين تحسين بيك وكاريس بشار ومجموعة من الممثلين الشباب.
“كسر عضم” يبني على نجاح الجزء الأول
تمكّن “كسر عضم” حينها من لفت الشارع بطريقة واضحة كونه عرف كيف يبدأ اللعبة من ذروة درامية عالية، وصدم المشاهد بحدث كبير بدلاً من التمهيد والاستهلال وإضاعة الوقت الجوهري. وتمكّن العمل آنذاك من لفت انتباه المشاهد. واستطاع الإمساك به منذ اللحظات الأولى باقتراحه مفتاحاً تشويقياً، ثم التصعيد نحو مكامن تأخذ على عاتقها إمكانية التسلل إلى أوكار الفساد المحصّنة! بينما كان التعويل على تعاقب الحكاية البوليسية والأداء التمثيلي المحكم.
وبالفعل استمر النجاح الجماهيري للعمل، مع العناية النقدية لحين انتهاء العرض وبعده، وهو ما دفع الشركة المنتجة لمحاولة استثمار نجاحها بإنجاز جزء ثان يعرض العام الذي يليه، لكن المفاجأة كانت عند انسحاب الكاتب والمخرجة من العمل وتصريحهما العلني عن ذلك، لتمضي الجهة المنتجة في مشروعها مستعينة بالمخرج الثاني للجزء الأول أي كنان إسكندراني، وبكاتبين شابين هما: هلال أحمد ورند حديد.
ثم باشرت التصوير في لبنان، دون الدخول في أي مماحكات مع الرقابة في سوريا باعتبار أن الجزء الأوّل أثار الجدل ولفت النظر بطريقة فجة. وبسبب بعض المعوقات الإنتاجية لم يستطع المسلسل إكمال خطّة إنجازه فجيّر التصوير لهذا الموسم، وقد صوّر ما تبقى من مشاهده في إمارة أبو ظبي وعاد ليرى النور على القنوات الفضائية أبرزها أبو ظبي و”إل بي سي”.
ورغم عدم تحقيقه مستويات المشاهدة والتفاعل اللذين نالهما في جزئه الأوّل ومرور حلقاته الأولى بإيقاع بطيء نسبياً، فإنه نجح في صوغ حكاية جديدة تتكئ على شخصيات حديثة، دون التخلّي عن واحد من عناصر نجاحه الجماهيري بالجزء الأوّل، أي شخصية أبو مريم (كرم الشعراني) ثم راح نحو إعادة تمرير الشخصيات السابقة وفق سياق الحكاية التي تفترض أن الفساد حبله طويل ولا يمكنه اجتثاثه.
ثم تجّرب مقاربة الواقع الذي يعيشه المواطن السوري وظروفه الخدماتية المسحوقة من خلال مجموعة من الحوارات الحياتية التي تسير جنباً إلى جنب بموازاة عمليات التصفيات والصراعات المافيوية، واقتحام المناطق المحرمة على طريقة المكاشفة الحرّة والصريحة التي يشوبها التخلي عن الترميز والدلالة، إنما بمباشرة زائدة تعتبر مطباً في بعض الأحيان.
وإن كانت فكرة وصول العمل إلى الشاشة رغم تخلي صناعه عنه يحسب نقطة إيجابية لصالح العمل، لكن ربما كان ينقص قصّته معالجة شاملة تعمّق الحلول الدرامية وتزيد من الحالة التشويقية التي تبنى عليها هذه النوعية من الأعمال. ليظل الأداء التجسيدي لبعض ممثلي القصة بمثابة علامة فارقة تسجّل لصالح المسلسل.
“تاج”.. تميّز في أنسنة الشخصيات
من جانب آخر، ورغم انقسام الآراء حول مسلسل “تاج” (عمر أبو سعدة وسامر البرقاوي) إلا أنه نجح بصوغ مبهر للمرحلة التاريخية التي أشبعتها الدراما السورية سابقاً بالتجارب المتنوعة.
مع ذلك، يتمتع المسلسل بخصوصية عالية، نظراً إلى عوامل عدة قد يكون آخرها الحكاية التي تنطلق منذ أربعينيات القرن الماضي في سوريا التي كانت حينذاك تحت سطوة الاحتلال الفرنسي، وخصوصاً أنها تنجح في صوغ غلاف سياسي يمنحها بعداً توثيقياً وقيمةً تشويقية لقصة الملاكم تاج الدين الحمّال الذي قرّر الانغماس في النضال الوطني ضد المستعمر، مع جهد إنتاجي مبهر على مستوى الديكور والأزياء والعناصر الفنية التي بنيت خصيصاً، ورجّحت كفّة العمل على المستوى التقني، كما شكّلت قيمة مضافة للمادة الدرامية وضعتها في واجهة المشهد السوري، إذ برع الفريق الفني في استعادة تلك الحقبة المترفة بالغنى السياسي، وتعاقب الأحداث الاجتماعية الموازية في سوريا.
وبعد بحث واضح في المرحلة التاريخية، يقدّم العمل أرشفة ومزيجاً من توثيق وفرجة ممتعة للمرحلة الزمنية التي يقاربها وفقاً لوجهة نظر بصرية رصينة تنضوي على ملامح جمالية عالية.
ويدور الزمن المفترض للرواية التلفزيونية قبل سنوات عدة من استقلال سوريا عن الاستعمار الفرنسي، بينما الجوهر الحكائي هو تاج الدين الحمّال (تيم حسن) الملاكم الذي تنهال عليه الخسارات ليس في حلبة الملاكمة، إنما في ميدان الحياة.
وخلافاً لقوته وتمكّنه من هزيمة أي شخص يواجهه في الحلبة، ونجاحه في الارتباط بفتاة أحلامه نوران (فايا يونان) وبدئهما رحلة تأسيس عائلة دافئة، من دون أن يتخلى عن انخراطه مع مجموعات سريّة وطنيّة تنفّذ عمليات نوعية ضد الاحتلال، ستكون نقطة التحوّل في حياته عندما يُكلَّف بتصفية الجنرال الفرنسي الكبير “جول” وهو متنفّذ في دمشق.
ولكنّ الخطة تفشل فتباغت القوّات المحتلّة الثوار الذين يتمكّنون من الفرار.. ولن يطول الأمر حتى يصل دخان الوشاية التي يشرف عليها رياض بيك (بسام كوسا) إلى مكان تجهيز المجموعة لذخائرها وأسلحتها وتتم تصفيتها لتوجَّه أصابع الاتهام إلى تاج كونه لم يكن حاضراً عند القوات الفرنسية المكان.
واعتداد تاج بنفسه ورفضه تهمة الخيانة، يجعلانه يأبى الدفاع عن نفسه أمام أولاد بلده ورفاقه في النضال. هنا تبدأ سلسلة انكساراته وانهياراته التي تستمرّ 5 سنوات، حيث نجده مدمن خمر ومقامراً يجرّ ذيول خسائره ومتورّطاً في تربية ابنته وحيداً بعدما تركته زوجته وارتبطت بالخيّاط الدمشقي الغني رياض بيك نفسه.
طبعاً السبب المطروح لانهزام البطل وترنّحه ليس مقنعاً، وليس مبرراً وافياً لتهاويه بهذا الشكل، إنما مجرّد انصياع حكائي بقصد إتمام القصة وتصعيدها نحو المطرح الذي تصبو إليه. كما أنّ عدم ترجمة الحوارات الفرنسية في الحلقات الخمس الأولى يعتبر هفوةً لا تغتفر. بينما يعود ليبحث العمل عن ذرى غير متوقعة ويوقع البطل في قبضة المحتلّ لحين سطوع شمس الاستقلال.
وأخيراً يسجّل للمسلسل السوري نقطة مضيئة تميّزه بوضوح وهي أنسنة النصّ لجميع الشخصيات وإبعاد هالة القداسة عنها إذا كانت خيّرة، كذلك العناية في الجوانب المشرقة عند الشخصيات الشريرة حتى ولو كانت تمثلّ المستعمر.
إذ يمكن لأبطال الحكاية استغلال فتاة لاختطاف ضابط فرنسي من أمّ سورية بقصد تحرير أحد الثوّار، في حين يظهر العميل رياض (بسام كوسا) قوة وجرأة نادرتين خلافاً لما تم تواتره عن مثل هذه الشخصيات من جبن وخوف.