ويقدر عدد الحركات المسلحة الموجودة في البلاد بأكثر من 100 حركة، تتركز 87 منها في إقليم دارفور الغارق في صراعات أهلية متواصلة منذ أكثر من 40 عاما، أدت إلى مقتل وتشريد نحو 4 ملايين شخص، لكن المآسي الكبيرة التي ترتبت على تكاثر الميليشيات لم توقف نهم المجموعات الإثنية والمناطقية في الاستمرار في ذات النهج، فقد شهدت منطقة شرق السودان وحدها ولادة 4 جيوش جديدة خلال الأسبوع الماضي فقط.
خريطة مفزعة
عندما اندلعت الحرب الأهلية في دارفور في عام 2003، كانت هنالك ثلاث حركات رئيسية فقط، لكنها سرعان ما بدأت في التشظي والتكاثر حتى وصلت في الوقت الحالي إلى أكثر من 87 مجموعة مسلحة.
أما في إقليمي كردفان والنيل الأزرق، فقد تشظت الحركة الشعبية إلى نحو 6 فصائل مستقلة عن بعضها البعض. وفي شرق البلاد، وصل عدد الحركات المسلحة إلى 7، بعد التشكيلات الجديدة التي ظهرت خلال الأسبوع الماضي.
وإلى جانب الحركات القائمة على أسس إثنية أو مناطقية، توجد مجموعات مسلحة ذات بعد عقدي، مثل “كتيبة البراء”، التي برزت بقوة في القتال مع الجيش منذ اندلاع الحرب الحالية، وسط تقارير تتهمها بإشعال الحرب بالفعل في الخامس عشر من أبريل.
و”كتيبة البراء” هي إحدى أكثر الكتائب الإخوانية إعدادا وتدريبا وتسليحا والتي نشأت خلال فترة حرب الجنوب في تسعينيات القرن الماضي، وتتكون من مجموعات شبابية تتراوح أعمارها بين 20 و 35 عاما، وينحدر معظم عناصرها من خلفيات تنظيمات طلابية كانت تعمل تحت مظلة الأمن الطلابي والاتحاد العام للطلاب السودانيين؛ أحد أهم الأذرع التعبوية والأمنية لنظام الإخوان.
ومن بين الحركات المسلحة، التي نشأت قبل الحرب وأصبحت تشكل عنصرا مهما في المعادلة الحالية، قوات “درع السودان” المقدر تعدادها بنحو 75 ألف شخص، والتي انضمت بعد أسابيع قليلة من الحرب إلى صفوف الدعم السريع. ونشأت في وسط السودان في مطلع 2022 بقيادة أبو عاقلة كيكل، وهو ضابط سابق في الجيش السوداني ويتميز بنفوذ شعبي واسع في منطقة سهل البطانة، التي تمتد من شرق الجزيرة في وسط السودان وحتى مدينة القضارف في الشرق وعطبرة في الشمال.
سياسات قديمة متجددة
يرى الكثير من السودانيين أن نشوء المزيد من الحركات المسلحة خلال الفترة الأخيرة يأتي كامتداد لسياسات النظام السابق، الذي حكم البلاد لثلاث عقود عمل خلالها على تشكيل جيوش موازية، منها قوات الدعم السريع والعديد من الكتائب الإخوانية ذات البعد العسكري – العقدي. كما يشيرون أيضا إلى السياسات التي انتهجها خلال حرب دارفور وأزمة الشرق في الأعوام العشرين الماضية والمتمثلة في تأجيج النزعات الانشقاقية بين الحركات المسلحة واستخدام استراتيجية المصالحات على أساس الترضيات بالمناصب والرشاوى المالية، وهو ما اعتبر خطأ استراتيجيا شجع على الاستقطاب القبلي والإثني وأسس لإنتاج العشرات من الميليشيات، التي باتت تشكل تهديدا أمنيا كبيرا وتعيق أي جهود لحل نهائي لأزمة الحرب.
ويحذر الباحث السياسي الأمين مختار من أن يؤدي تورط الحركات والمجموعات العقدية المسلحة في الحرب إلى نقلها من إطار الصراع العسكري إلى إطار الحرب الأهلية الشاملة، ويقول لموقع “سكاي نيوز عربية” إن التنامي السريع للخطاب الإثني والنزعة المتزايدة للاصطفاف والتحشيد ينذر بكارثة حقيقية، خصوصا في ظل صعوبة السيطرة على المجموعات التي تحمل السلاح التابعة لطرفي القتال.
ويشدد مختار على أن السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق يكمن في القضاء على جميع المظاهر المسلحة والوصول إلى جيش وطني مهني قومي واحد وإصلاح كافة المنظومة الأمنية والعسكرية.
ويشير البعض أيضا إلى دور عمليات التحشيد الشعبي الحالية في تأجيج النزعة نحو إنشاء المزيد من الميليشيات القبلية، التي يمكن أن تكون لها تأثيرات إقليمية خطيرة بحكم وجود روابط إثنية قوية مع دول الجوار، محذرين من أن يؤدي السماح بتملك السلاح وشرائه إلى تدفقات عابرة للحدود من شأنها أن تشجع الجماعات الإرهابية في دول الجوار الاقليمي وغيرها على توسيع أنشطتها والبحث عن موطئ قدم بالاستفادة من حالة السيولة الأمنية للعمل في تجارة السلاح والمخدرات وتجارة البشر ونهب الموارد.
ووفقا للكاتب الصحفي صديق محيسي، فإن عمليات التجييش ودعوة المواطنين لحمل السلاح هي خلط للأوراق ومقدمة لتوسيع نطاق الحرب حتى تتحول إلى حرب أهلية شاملة تمتد تأثيراتها إلى المنطقة ككل. وبعد أسابيع قليلة من احتدام عمليات التحشيد الشعبي في عدد من مناطق السودان، قال محيسي لموقع “سكاي نيوز عربية” إن عملية التجييش تأتي ضمن استراتيجية عناصر النظام السابق الرافضين لوقف الحرب.
ويشير محيسي إلى أن معظم الحركات المسلحة لا تحمل رؤية منهجية محددة، لكنها تستغل غياب هيبة الدولة لفرض واقع القوة في مناطق محددة خصوصا في ظل انتشار السلاح خارج الأطر الرسمية.
مخاوف جدية
هذا ويتهم مراقبون قادة الجيش بمحاولة تأجيج التنافس من خلال ضخ أموال ضخمة للميليشيات المسلحة لضمان اصطفافها في الحرب الحالية أمام الدعم السريع.
وبعد الانشقاقات والاصطفافات في أوساط الحركات المسلحة في دارفور بغرب البلاد وانقسامها بين موالي للجيش وآخر للدعم السريع وثالث اختار الحياد، تتزايد المخاوف من انزلاق شرق السودان نحو الفوضى في ظل تنافس كبير من الكيانات الإثنية والسياسية على تجنيد وتدريب مناصرين لها.
وانتشرت، خلال الأيام الماضية، صور لتخريج عدد من الجيوش القبلية الجديدة في شرق السودان، منها جيش يتبع لمؤتمر البجا جناح موسى محمد أحمد وجيش آخر باسم “الأورطة الشرقية” يتبع للجبهة الشعبية المتحدة بقيادة الأمين داؤود، وهناك جيش ثالث يتمركز في حي بوسط مدينة بورتسودان يتبع لمؤتمر البجا جناح شيبه ضرار وجيش آخر في مدينة كسلا باسم الأسود الحرة يتبع لقبيلة الرشايدة بقيادة مبروك مبارك سليم.
ورصد مراقبون حالة من الغضب الشديد وسط قيادات شعبية في ولايتي نهر النيل والشمالية حيال الوجود المكثف لقوات تابعة لحركات دارفورية مسلحة موالية للجيش في عدد من مدن الولايتين، خصوصا مدينة شندي، التي تشهد مظاهر عسكرية كثيفة لقوات حركة مني أركي مناوي حاكم إقليم دارفور. وتتوجس بعض القيادات الشعبية من ذلك الوجود، وترى أنه بداية لخلق واقع جديد في المنطقة، متهمين الحركات الدارفورية المسلحة باستغلال عملية اصطفافها مع الجيش للتمركز في مناطقهم دون دواعي واضحة، مما قد يؤدي إلى نقل التوترات الإثنية الحادثة في دارفور إلى ولايتي نهر النيل والشمالية.
وفي هذا السياق، يرى الناشط السياسي هشام عباس أن عدم التعلم من دروس العقود الماضية هو الذي أدخل البلاد في كارثة جديدة ومأزق خطير.
ويوضح: “حاولوا علاج مشكلة دارفور بصناعة ميليشيات وبعد خراب دارفور ندفع اليوم ثمن خراب الوطن كله بسبب هذا الخطأ وبدلا من التعلم يريد الجيش معالجة الخطأ بخطأ أكبر من خلال إقحام الميليشيات والحركات المسلحة في الحرب.. ستتسبب هذه الميليشيات في مشكلة أكبر وستخرج الأمور عن سيطرة الجميع”.