قصة بناء مصر الحديثة كما يرويها قصر محمد علي في شبرا

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 14 دقيقة للقراءة

شبرا هو اسم حي من أكثر أحياء القاهرة ازدحاما بالسكان، ومع ذلك لم يكن هذا الحي موجودا منذ 200 عام تقريبا، وكان عبارة عن أراض زراعية وبرك ومستنقعات.

ويعود إنشاء حي شبرا للعام 1808 عندما أراد محمد علي باشا والي مصر بناء قصره الأول بعيدا عن القاهرة، لتهدأ فيه نفسه ويتخلص قليلا من مشاغل السياسة، وتحسبا للقلاقل التي يسببها له المماليك داخل القاهرة، وفي هذا المكان القصي بنى محمد علي باشا قصره، وكانت تلك بداية “شبرا الخيمة” أشهر أحياء مصر الذي ولد من رحم القصر، وهذا لا يمنع أن شاطئ شبرا على النيل كان متنزها منذ العصر المملوكي، وسكنه عدد من المماليك وبنوا فيه قصورهم.

قبل عامين أو أكثر قليلا من مذبحة القلعة الشهيرة، التي قضى خلالها بضربة واحدة على كل المماليك في مصر عام 1811، أراد محمد علي باشا أن يؤسس ويوثق لعهده بدار حكم تكون فارقة ما بين عهد مضى وولى، وحقبة جديدة يخطط لها أن تطول، فاختار موقعا على شاطئ النيل في منطقة شبرا مساحته 70 فدانا، تمتد من شاطئ النيل إلى بركة الحاج، بعد أن استولى على عدة قرى وإقطاعيات لبناء قصره.

قصور الحدائق

وجاءت عمارة القصر على نمط جديد من العمارة على طراز “قصور الحدائق” الذي شاع في تركيا على شواطئ البوسفور والدردنيل وبحر مرمرة، ويعتمد هذا التصميم على حديقة شاسعة محاطة بسور ضخم تتخلله أبواب قليلة العدد، وتتناثر في هذه الحديقة عدة مبان، كل منها يحمل صفات معمارية خاصة، وبقيت هذه القصور باقية وشاهدة على العصر، ويعتبر قصر الفسقية أروعها ومضرب المثل في العمارة، واشتهر قصر الفسقية بهذا الاسم لوجود نافورة كبيرة به ويعتبر أجمل قصور مصر على الإطلاق بعد قصر الطاهرة.

استعان محمد علي في بناء قصر شبرا بفنانين من الفرنسيين والإيطاليين واليونانيين والأرمن لزخرفة قصره، فجمع القصر بين الأسلوب الأوروبي في الزخارف، وبين روح العمارة الإسلامية في التخطيط. والقصر بني بروح المسجد، حيث توجد 4 ظلات تحيط بفسقية ضخمة وكأنها باحة مسجد.

زخارف قصر شبرا

ويقول خالد عزب الخبير في مجال التراث للجزيرة نت “من حسن الحظ أن قصر شبرا كان جزءا من رسالتي للحصول على الدكتوراه، واستطعت أن أصحح كثيرا من المعلومات التاريخية والأثرية التي أحاطت بهذا المعلم المهم، ونحن لا نتحدث عن قصر واحد، بل مجموعة قصور بنيت في أوقات مختلفة، بدأها محمد علي باشا واستكملها خلفاؤه، وكانت تطل مباشرة على النيل، والبداية كانت من نقطة أو “كشك” (كما كان يسمى القصر) كان يقيم بها الولاة في العصر العثماني عند رغبتهم في التنزه”.

ويكمل عزب “لما تولى محمد علي حكم مصر، شرع في إقامة العديد من الأبنية بهذا المكان سنة 1223هـ/1808م، حتى صار مقر إقامته المفضل في أُخريات عصره، خاصة بعد أن احترقت سراي الأزبكية العام 1840، واستمر بناء القصر حوالي 13 عاما، ابتداء من عام 1808 حتى عام 1821”.

مقر الحكم لمصر والسودان والشام

وأصبح قصر شبرا هو مقر الحكم الفعلي من عام 1820، ومنه كان محمد علي يحكم مصر والسودان والشام، ومنه خرجت الفرمانات بأسماء الحملات التي وصلت لأعالي النيل، ومنه أيضا خرج جيش إبراهيم باشا نحو الحجاز وبلاد الشام، وشهد هذا القصر الإصلاحات التاريخية التي قادها محمد علي باشا وأبناؤه أثناء حكم مصر، وبعد معركة “نافارين” البحرية التي دمرت فيها الأساطيل الأوروبية الأسطول المصري، قبع محمد علي في قصر شبرا حتى مات.

وتعددت أسماء من قاموا بتصميم القصر، لكن الثابت أن مسيو دورفتى، قنصل فرنسا في مصر في عهد محمد علي، هو الذي صمم هذا السراي، غير أن المعماري الفرنسي باسكال كوست روى في مذكراته أن محمد علي باشا طلب منه تصميم قصر في شبرا، وقد أوردت الوثائق أسماء بعض المهندسين الذين قاموا بالإشراف على بناء السراي، خاصة سراي الفسقية، ومن المرجح أنهم أدخلوا تعديلات على التصميم الأصلي الذي لم ينفذ كله، ومن هؤلاء أمين أفندي المعمار، وعمر آغا ناظر المباني بسراي شبرا، وعبد الله آغا المهندس باشي.

اشغال الرخام قصر شبرا

ويشير خالد عزب إلى أن باسكال كوست وضع تصميما يتضمن 4 جواسق وممرات محاطة بالأشجار وبركة مياه كبيرة ومسجدا صغيرا وساحة لسباق الخيل. كان أول منشآت هذا القصر هو سراي الإقامة، وكان موضعها وسط طريق الكورنيش الحالي وكان ملحقا بها عدة مبان خشبية لموظفي دواوين القصر والحراسة، إضافة إلى مرسى للمراكب على النيل، وتكوَن القصر في أول عهده من قصر الوالي وملحقاته التي تشمل مسكن البواب (مبنى الحرس)، ونافورة، وشرفة عليها جوسق الجبلاية، وبركة الفسقية، وحماما شرقيا (سراي الفسقية).

درابزين رخام

ثم أنشئ من بعد ذلك معمل لتحضير غاز الاستصباح، وأضيف للقصر مجموعة جمالية كالبهو الأخضر من غاب البامبو (غابة البامبو)، وطريق مزروع من الصنوبر الحلبي (غابة الصنوبر)، وتكعيبة كرم، ومجموعة الموالح (حديقة الموالح)، وأشجار فاكهة ذات أوراق متساقطة، ومدخل من شارع شبرا، وروضة الزهور، وحديقة الخضر.

ويؤكد عزب أن الوثائق تقول إن القصر كان يتكون من طابقين: خصص الطابق الثاني منها لإقامة محمد علي، وخصصت أكبر حجراته لنومه، وتشير وثائق الديوان الخديوي إلى أسماء بعض حجرات هذا القصر، ونفهم منها أن الطابق الأول كان يتكون من السلاملك والفناء أو الفسحة، والثاني الذي كان يضم حجرتين: واحدة بحرية تطل على النيل، وأخرى قبلية بينهما مساحة مسقفة بقبة. وملحق بهذا الطابق حمام، ورمم هذا القصر في عام 1261هـ/1845م، وقام عباس باشا بإهداء سراي شبرا الكبير لعمه عبد الحليم بك في العام 1851م.

سراي الفسقية

أما سراي الفسقية الذي يعد آية في التصميم والإنشاء والعمارة، فتذكر الوثائق هذا السراي باسم “الكشك”، وقد بدأ العمل فيه عام 1821م، حتى عام 1823م، وهو ذو طابق واحد، تفتح بأواسط أضلاعه 4 أبواب محورية، يتقدم كل باب منها سقيفة محمولة على أعمدة يغطيها سقف جملوني، يتوسط البناءَ حوض أو بركة تنخفض أرضيتها عن أرضية البناء من الداخل، بمقدار 1.5م.

وبهذه البركة فسقية أو نافورة تستمد ماءها من النيل بواسطة آلة بخارية من أعمال المهندس الإنجليزي “غالواي”، وفي حافتها تماثيل تماسيح استوردت من الخارج، كما شارك مهندس إنجليزي آخر في أعمال البركة هو “كلدي”، ولعله كان مختصا بشبكة الصرف وتصميم البركة.

قصر الفسقية من الداخل

وفي الأركان الأربعة للبركة 4 أسود رابضة تخرج المياه من أفواهها، وفي أرضية هذه المثلثات، التي ربضت عليها هذه الأسود، حفرت أنواع الأسماك بحركاتها المختلفة وهي تسبح في الماء، ويحيط بالبركة 4 أروقة محمولة على 100 عمود أسطواني.

بركة قصر الفسقية

ويضم مبنى قصر الفسقية عدة غرف، منها “غرفة العرش والأسماء (أسماء أسرة محمد علي) والطعام والبلياردو والحديقة، وهذه القاعات هي: قاعة الجوز التي استمدت هذه القاعة اسمها من استخدام خشب الجوز بها في تجليد الأسقف والأرضيات، وفي الدواليب الحائطية بها وعددها 3 دواليب، ويوجد بالقاعة في طرف الضلعين الشمالي والجنوبي مرآة ضخمة داخل إطار خشبي مزخرف بالحفر بوحدات عبارة عن أواني زهور، ويتوج الإطار 3 عقود نصف دائرية، وقد طلي هذا الإطار بماء الذهب، وتعرف هذه القاعة أيضا بقاعة الجلسات، ومن الروائع التي يضمها القصر لوحات أثرية مرسومة تخص محمد علي باشا وأفراد أسرته.

قاعة الجوز

وتقع القاعة الثانية في مواجهة قاعة الجوز على الطرف الغربي من الرواق الجنوبي، وهي قاعة الطعام (السفرة) ومسقطها مثمن غير منتظم من الداخل، وقد شطفت أركانه، وفتحت بكل ركن نافذة تطل على الحديقة، وزين السقف بأشكال زخرفية هندسية مذهبة بها رسوم طيور وحيوانات ونساء في وسطه صُرَة خشبية ذات زخارف محفورة تتدلى منها سلسلة الثريا، وإزار السقف مقسم إلى حشوات زخرفية.

قاعة الجوز

والقاعة الثالثة، قاعة البلياردو: تقع في الركن الشمالي الغربي لمبنى سراي الفسقية، وهي قاعة مستطيلة، بالجدار الشرقي حنية متسعة يتوجها عقد نصف دائري، رسم بها معبد مصري قديم، وفي كل من الحائطين الغربي والجنوبي 3 نوافذ، والسقف مزخرف بأشكال هندسية ونباتية ورسوم نساء، ووسطه صرة من الخشب المذهب المزخرف بالحَفر الغائر، وتأخذ واجهة قاعة البليارد وملحقاتها ربع الدائرة.

والقاعة الأخيرة هي القاعة العربية: تقع بالركن الشمالي الشرقي، وسميت بالقاعة العربية لغلبة الزخارف العربية عليها، ومسقطها مثمن، وهي ذات أركان مشطوفة، بكل شطف نافذة، سقف القاعة به زخارف نباتية مذهبة وملونة بعدة ألوان، وبه زخارف كتابية بها اسم محمد علي باشا وإبراهيم باشا، وسجل عليها التاريخ 1270هـ/1853م.

سراي شبرا الصغيرة

تعددت القصور التي بناها محمد علي وخلفاؤه كملاحق وتوابع لقصر الإقامة. في 19 محرم 1250هـ/29 مايو/أيار 1843م، ورد أمر عال إلى ناظر شبرا ببناء قصر للإقامة أو ما كان يطلق عليه “كشك” على مساحة قدرها 8 أفدنة داخل حديقة شبرا.

ويقول حسام إسماعيل أستاذ الآثار بجامعة عين شمس “صدر القرار بإنشاء سراي شبرا الصغير من طابق واحد، يحتوي على 5 أو 10 حجرات، وكلف المهندس الأرمني حكيكيان بعمل عدة تصميمات للكشك المذكور، وطلب محمد علي أن يراعى في ذلك الكشك أن تكون جميع نوافذه مطلة على الحديقة من جميع جهاتها الأربع، وأن تصنع أعمدة الخشب اللازمة لهذا الكشك في ورشة بولاق، وفي رجب 1251هـ/1835م وضع محمد علي حجر أساس هذا الكشك بنفسه”.

ويضيف إسماعيل “وأما سراي الجبلاية فأنشئت على شكل مستطيل أعلى الجبلاية الموجودة في حديقة القصر، في مواجهة سراي محمد علي، ووسط القصر نافورة مستديرة من الرخام تسقفها قبة مزخرفة بتفريعات نباتية قسمتها 8 مناطق، وفي مركز القبة أشكال تيجان تحيط بها زخارف نباتية وزهور مذهبة”.

رخام قصر الفسقية

يتكون سراي شبرا الصغيرة من طابق واحد ويفتح بأوسط أضلاعه 4 أبواب محورية يتقدم كل باب سقيفة، ويشغل كل ركن من البناء حجرة تبرز من الواجهة كأنها برج، ويتوسط البناء حوض تتوسطه نافورة تنخفض عن أرضية البناء.

وأصدر الخديوي عباس حلمي الأول أمرا في شوال 1266هـ أغسطس/آب 1845م بتشييد قصرين أحدهما في المنيل وآخر في شبرا، وكان محمد علي وافق على تشييد القصر الجديد، ولكن حالت وفاته دون البَدء في هذا المشروع، ولما تولى عباس الحكم أمر بإتمام البناء.

السواقي والإضاءة بالغاز

كانت السواقي الملحقة بقصر شبرا آية من آيات الفن والإعجاز العلمي في الوقت ذاته، ويعد برج الساقية إحدى روائع الفن الهندسي، وكان من تصميم المهندس الإنجليزي برسيد، ويعود إلى سنة 1227هـ/1811م، وتتمثل معجزته في أنه كان على ارتفاع كبير ليحقق بفارق المنسوب قوة اندفاع المياه بما يكفي لتشغيل نافورة الفسقية، أضف إلى ذلك أنه كان يتم سحب مياه النيل عبر نفق ليصب بعد مروره بالساقية في 4 أحواض، يتم تنقية المياه خلالها قبل مرورها في حوض الفسقية نقية لتخرج مرة أخرى عبر قنوات للري، وقد تبقى برج إحدى هذه السواقي إلى الآن.

قصر الفسقية اطار

للمرة الأولى في تاريخ مصر تتم الإضاءة بغاز الاستصباح في قصر شبرا، على يد المهندس غالوي سنة 1824م، وتم ذلك في احتفال رسمي أقيم في 24 مارس/آذار من العام نفسه، وذلك بعد الانتهاء من إنشاء معمل لتحضير هذا الغاز بالقصر، وما زالت بعض أعمدة الإنارة باقية على المدرجات في سراي الجبلاية.

حديقة شبرا

إذا كان قصر شبرا، قد تزين بالروائع والعجائب الحديثة، فإن حديقة القصر كانت هي الأخرى آية من آيات الفن والعمارة التي نتجت عنها بدايات القرن الـ19 الميلادي، حيث كان يضم بعض الأبنية المتناثرة، مثل مسرح السمر المبني على الطراز البيزنطي، فضلا عن العديد من الوحدات المعمارية الخدمية.

ويعود تأسيس هذه الحديقة للعام 1806م، أي قبل شروع محمد علي في إقامة العديد من المنشآت الخاصة بالقصر، وبلغت مساحة حديقة شبرا 70 فدانا وكانت تقع شرق قصر شبرا، وهي منشأة على النمط المصري المنتظم، تتخللها طرقات مستقيمة ممتدة في جميع الاتجاهات، والأقسام المحصورة بين الطرقات، وزرعت بأشجار الفاكهة ونباتات الزينة، التي جلبت لها من كل أنحاء العالم.

رواق بقصر شبرا

شارع شبرا

وبعد أن تم تدشين قصر شبرا مقرا رئيسيا للحكم في عصر محمد علي، خطط لها أن تكون على اتصال بالمدينة الرئيسية القاهرة عن طريقين، الأول، طريق النيل، واستخدمه محمد علي مرات عديدة للوصول للقصر أثناء عمليات الإنشاء، والثاني، طريق بري فتحه محمد علي في سنة 1231هـ/1816م عرف بشارع شبرا، امتد من ميدان رمسيس حاليا وحتى قصر شبرا.

وغُرست الأشجار على جانبي شارع شبرا، وعلى جانبه الغربي أنشئت عدة قصور، وكانت سببا رئيسا في نمو شبرا عمرانيا، وكان هدف محمد على أن يحول هذا الشارع إلى مكان للنزهة والترويح خارج عاصمته مصر، وحتى يتحقق ذلك جاء القرار بأن يكون الشارع أكبر شوارع مصر في هذا العهد.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *