منذ أكثر من قرنين من الزمن، وفي سياق سعي القوى الأوروبية الإمبريالية نحو الهيمنة الاستعمارية على العالم، طُرحت في الدوائر الأوروبية “المسألة الشرقية”، وتعني السعي لوقف المد العثماني في أوروبا وصدّه، واحتواء العالم الإسلامي وهزيمته، وإسقاط وحدته وخلافته، ثم استعماره وتجزئته والسيطرة النهائية على مصيره ومقدراته.
تعددت مسارات القوى الإمبريالية نحو حل “المسألة الشرقية”، من قضم واحتلال أطراف العالم الإسلامي من الهند إلى شمال أفريقيا، وصولا إلى قلبه في المشرق العربي، واختراق مشروعات التحديث بالتغريب والاستتباع، وتفكيك مؤسسات الاجتماع الإسلامي التاريخية: التعليم التقليدي والأوقاف والقضاء الشرعي ومؤسسة العلماء.
ثم تمت إعاقة عملية التحديث باستغلال الامتيازات التجارية لتدمير الصناعات المحلية القائمة، وإغراق أسواق المشرق العربي الإسلامي بمنتجات الثورة الصناعية الأوروبية الرخيصة عامة، والإنجليزية والفرنسية خاصة، وحرمان الدولة العثمانية من عوائد الجمارك المستحقة، وتدبير الدسائس والتآمر عليها. وأخيرا احتلال الدولة العثمانية في سياق الحرب العالمية الأولى، وإسقاط السلطنة ثم الخلافة، وتقسيم واستعمار ولاياتها وإنهاء “العالمية الإسلامية”.
الدور الوظيفي للكيان الاستيطاني
الحل الإمبريالي الغربي لـ”المسألة الشرقية” والعدوان على العالم الإسلامي بلغ الذروة بإقامة المشروع الصهيوني الاستيطاني الإمبريالي الإحلالي في قلب العالم الإسلامي، ليتعهد ويكرّس ويستديم هذا الحل الإمبريالي.
من أهم وظائف المشروع الاستيطاني الصهيوني في قلب العالم العربي والإسلامي استدامة التجزئة الناجمة عن تقسيم وتفتيت المنطقة وفق اتفاقية سايكس-بيكو البريطانية الفرنسية.
وكذلك إجهاض محاولات توحيد واستنهاض الأمة، وعرقلة التنمية الاجتماعية الاقتصادية، واستدامة وضع المنطقة وشعوبها في حالة خضوع وتبعية، واستنفاد مواردها في مواجهة التهديد الصهيوني لإفقارها، وحرمانها من حرية واستقلال قرارها وإرادتها والاستقرار اللازم لإقامة العدل الاجتماعي وتمكين الأمة وتحقيق ولايتها على نفسها.
وهذا يعني إبقاء شعوب الأمة محرومة من الحرية والشورى وحق الاختيار وتقرير المصير، وتأبيد الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري والرأسمالية الطفيلية والمصالح الغربية.
تقويض دور مصر
لكن الأخطر من كل ذلك استدامة سيطرة النخب العشائرية والأمنية والعسكرية والدولة البوليسية على الدولة والسياسة والاقتصاد والإعلام والمؤسسات والتشريع والقضاء. وقد وصف المفكر العربي الراحل جمال حمدان دور الجيوش في الدول الوطنية العربية الناشئة، بعد الحربين العالميتين وقيام الكيان الصهيوني، بأنه “السيطرة والقمع في الداخل والتفاوض والتواطؤ مع الخارج”!
إستراتيجيا، يمثل المشروع الصهيوني الحل الإمبريالي (الأنجلوسكسوني) النهائي للسيطرة على المشرق العربي، وفصل آسيا العربية عن مصر وشمال أفريقيا، ومنع تكرار تجربة محمد علي باشا في بسط سيطرة القاهرة على المشرق العربي، وذلك بحصر مصر بين خط عرض 22 الفاصل بينها وبين السودان وخط طابا-رفح الفاصل حاليا بين مصر والكيان الصهيوني، ومنع أي محاولة مصرية لقيادة المنطقة العربية.
وقد تَكرّس هذا فعليًا منذ اتفاقية كامب ديفيد (1978) ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (1979). ومن ثمّ إبقاء مصر في حالة تبعية، مهددة مائيا ومختنقة اقتصاديا ومنكفئة جيوسياسيا لصالح تمدد إسرائيل وتوابعها المحلية نيابة عن القوى الإمبريالية.
ومن ثَمّ استدامة هذا الوضع بما يحول دون عودة مصر لريادتها وتموضعها الجيوسياسي التاريخي ومجالها الحيوي الطبيعي، من الحجاز شرقا وتخوم الأناضول شمالا إلى منابع النيل جنوبا. وهكذا تم انتزاع أهم عوامل المقاومة والتحرر من الاستعمار في المنطقة.
الخطر.. التهديد.. الابتزاز
في ديباجات ومبررات المشروع الاستيطاني الصهيوني بُعدٌ معلوم، لكن قليلا ما يشار إليه في الغرب، بيد أنه احتل بقوة دائرة الاهتمام الصهيوني والغربي لتبرير الدعم الغربي المفرط والأعمى لإسرائيل مؤخرًا، خاصة بعد عملية “طوفان الأقصى”.
فقد تواترت في دوائر السياسة والإعلام والفكر بأميركا والغرب إجمالا مقولة أو فكرة أنه “لو لم تكن إسرائيل موجودة لتحتم إيجادها”، وأن عدم وجودها يتطلب “نشر عشرات السفن الحربية وحاملات الطائرات والقواعد العسكرية في المنطقة العربية”، دون تساؤل عن مبررات وشرعية ذلك!
مثلث جيوإستراتيجي
هنا يأتي دور المشروع الاستيطاني الصهيوني “الوظيفي” في إعادة تدوير منظومة السيطرة الإمبريالية واستدامة الهيمنة الغربية على المشرق العربي ضمن مثلث جيوإستراتيجي مترابط بنيويًا، وتؤدي كل حلقة من حلقاته إلى الأخرى ضمن دائرة تراكمية متواصلة وذاتية التغذية، بعد انتزاع أسباب المقاومة من هذا المشرق:
الخطر: إقامة قوة عسكرية إستراتيجية إسرائيلية متفوقة تتجاوز قوة دول المنطقة مجتمعة، كما تعلن وتهدف أميركا دائما في سياق تبرير مساعداتها العسكرية وصفقات السلاح الباهظة وغير المبررة لإسرائيل.
التهديد: قيام هذه القوة العسكرية المتفوقة بتهديد دول المنطقة اختراقًا وعدوانًا وتوسعًا واحتلالا وتقويضًا واستنزافًا.
الابتزاز: لجوء دول المنطقة المهددة من الكيان الصهيوني إلى قوى الهيمنة الإمبريالية، بريطانيا سابقًا والولايات المتحدة حاليًا، طلبا لحمايتها من التهديد الإسرائيلي بما يرسّخ ويعظّم ويكرّس السيطرة الإمبريالية ويعيد دول المنطقة إلى وضعها السابق كمحميات.
يترافق كل ذلك مع تعاظم أهمية المشروع الاستيطاني الصهيوني ضمن منظومة السيطرة الغربية، وتَوثُق العلاقة بينهما؛ كما تتعاظم طاقة هذا المشروع الاستيطاني على التمدد، وتتوسع مساحات ومجالات الاستيطان الصهيوني:
- داخليًا في فلسطين بابتلاع مساحات هائلة من الأرض لإقامة مستوطنات وطرق التفافية وعزل المدن والبلدات والقرى الفلسطينية وحصارها بمئات من حواجز التنكيل العسكرية واعتداءات المستوطنين يوميا وصولا إلى الاقتلاع الكامل.
- إقليميًا بفرض الاستسلام تطبيعًا وتحالفًا على الدول العربية والإسلامية بالمركز والأطراف، وتصفية قضية فلسطين ضمن رؤية إمبريالية شاملة لنظام إقليمي جديد مركزه الكيان الصهيوني.
- دوليا، مع توسع الاستيطان داخليا وإقليميا، يتم جر دول العالم لتجاوز المحظورات كالاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، ونقل السفارات إليها، وتصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وإعادة تعريف اللاجئ ليقتصر على من ولد منهم قبل نكبة 1948، ومحو حق العودة من الأجندة الإقليمية والدولية.
هي إذن دائرة تراكمية ديناميكية، متواصلة، متمددة، وذاتية التغذية!
جيش يمتلك دولة
سنجد دائما أن المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخبارات وصناعات وترسانات السلاح التقليدي والنووي وآلة الردع والعنف والإبادة، تحتل أعلى أولويات الكيان الصهيوني والكيانات الاستيطانية الأخرى.
يستحوذ جنرالات العسكر والقادة الأمنيون والجواسيس والخبراء الإستراتيجيون ومؤسسات التطوير والإنتاج العسكري على قدر كبير وبالغ من الأهمية والسيطرة والنفوذ في حياة الكيان الاستيطاني، وهم مركز دوائر الحكم والقرار في دولة الاستيطان الصهيونية.
بل يشيع في دوائر الإعلام والسياسة الصهيونية القول إن دولة الكيان الصهيوني تختلف عن كل الدول الطبيعية التي تمتلك جيوشا، أما “إسرائيل فهي جيش يمتلك دولة”! أي باختصار هي تشكيل من عصابات السطو المسلح المتعددة المستويات والاختصاصات. هكذا بدأت وهكذا كانت سيرورتها وصيرورتها.
وهذا يفسر الصدمة العميقة التي أصابت الكيان الصهيوني ومؤسساته ونخبه ومجتمعه، ثم جنون رد فعله الكارثي، الذي لا يخلو من التدمير الذاتي، إزاء الإخفاقات العسكرية والأمنية والسياسية التي أسفرت عنها عملية “طوفان الأقصى”.
فقد اجتاحت المقاومة الفلسطينية قواعد الجيش والاستخبارات الإسرائيلية، ودمرت “فرقة غزة” المخصصة للدفاع عن جبهة الكيان الصهيوني الجنوبية، واقتحمت مستوطنات وبلدات غلاف غزة، واقتادت عشرات الأسرى من ضباطه وجنوده ومستوطنيه بعد أن حيّدت المئات منهم.
وتخطت أسواره الحديدية والإلكترونية وقدرات التجسس والرصد والتحوط الفائقة، مما يشير بقوة إلى الانحطاط الإستراتيجي وسقوط قدرة الردع.
المفارقة أن تنظيم هذا التجمع الاستيطاني وعسكرته على هذا النحو ليس أمرًا مستجدا تاريخيًا. فقد كان للأمير أسامة بن منقذ، أحد قادة العرب ومثقفيهم زمن الحملات الصليبية، مشاهدات واسعة لأحوال الفرنجة وفرسان الصليبيين في رأس هرم المجتمع الاستيطاني الصليبي.
وقد سجّل ابن منقذ سطوة ذوي الشأن والمكانة من هؤلاء الفرسان واحتكارهم الحق في إبرام الأحكام وإنزال العقوبات، قائلا “والإفرنج خذلهم الله ما فيهم فضيلة من فضائل الناس سوى القتل والقتال ولا عندهم تقدمة ولا منزلة عالية إلا للفرسان، ولا عندهم ناس إلا الفرسان، فهم أصحاب الرأي وهم أصحاب القضاء”! وما أشبه الليلة بالبارحة.