يتنفس المهاجرون غير النظاميين الصعداء بمجرد عبورهم البحر الأبيض المتوسط ووصولهم إلى “الفردوس الأوروبي” أملا في حياة أفضل، غير أن القصة ربما لا تنتهي عند لحظة الوصول، فالفردوس قد يتحول إلى مقبرة.
ينتهي المطاف بعدد كبير من المهاجرين إلى مراكز الترحيل أو السجون، ثم تنقطع أخبارهم إما بسبب حالات الموت المفاجئ أو الاختفاء الغامض والقسري.
في أحدث إحصائية موثقة بأسماء الوفيات أعدها مركز “ريستريتي أوروزونتي” الإيطالي للدراسات بمقره في مدينة بادوفا، توفي 59 مهاجرا في السجون الإيطالية حتى منتصف آذار/مارس 2024، من بينهم 25 حالة وفاة نتيجة الانتحار.
وشهد عام 2023 وفاة 157 مهاجرا، من بينهم 69 حالة انتحار، بينما عرف عام 2022 أعلى حصيلة على الإطلاق منذ عام 1992 بـ171 حالة وفاة، من بينها 84 حالة انتحار.
وبسبب تسارع وتيرة حالات الموت والانتحار، أعلن مجلس “الضامن الوطني لحقوق الأشخاص مسلوبي الحرية”، وهي مؤسسة إيطالية وطنية رقابية ضد انتهاكات حقوق الإنسان، خشيته من تسجيل حصيلة سنوية جديدة غير مسبوقة.
لكن الخشية الأكبر لدى المنظمات المدافعة عن حقوق المهاجرين في إيطاليا ودول الانطلاق لقوارب الهجرة غير النظامية عبر البحر كانت من اتساع نطاق الانتهاكات الممنهجة والمميتة.
في تونس -على سبيل المثال- أثارت قضية الوفاة الغامضة للشاب أسامة عبد اللطيف جدلا كبيرا، حيث توفي في قسم الطب النفسي بمستشفى كاميلو في روما، بعد أن تم نقله إليه من مركز الترحيل “بوتني غاليريا”.
أصدر المستشفى تقريرا طبيا ذكر فيه أن سبب الوفاة سكتة قلبية، لكن مع طلب منظمات حقوقية إعادة التشريح اتضح تعرضه لعمليات تعذيب منظمة، إذ أثبتت نتائج التشريح الطبي خضوع أسامة إلى شد وثاق لمدة 72 ساعة وتعاطيه أدوية خاطئة.
ويقول الناشط الحقوقي المدافع عن قضايا المهاجرين مجدي الكرباعي، للجزيرة نت، إن القضاء الإيطالي يحقق في ملابسات الوفاة ولم يصدر أي قرار رغم أن الوفاة تعود إلى عام 2021.
ويشير الكرباعي -وهو مقيم في إيطاليا- إلى أن موت أسامة لم يكن حالة معزولة لما يحدث في مراكز الإيواء المكتظة بالمهاجرين أو مراكز “الاعتقال الإداري” والسجون أيضا.
قصص مأساوية
تحولت القصة المأساوية للشاب الغيني عثمان سيلا (22 عاما) إلى حديث الصحافة الإيطالية ومنظمات حقوق الإنسان. فقد قالت صحيفة لاريبوبليكا، التي نقلت قصته في فبراير/ شباط 2024، إنه ظل قيد “الاعتقال الإداري” لمدة 8 أشهر في تراباني ثم لمدة 10 أيام في روما، في مرافق مكتظة وظروف غير لائقة تمهيدا لترحيله.
ولم يكن متاحا ترحيل عثمان، لأن إيطاليا ليست لديها اتفاقية مع غينيا، وهو ما جعل الشاب تحت طائلة مرسوم “كوترو” الجديد الذي يجيز للسلطات الإيطالية تمديد فترة الاحتجاز إلى 18 شهرا، رغم تنديد العشرات من منظمات الحقوقية بهذا المرسوم الذي يضع مزيدا من القيود على تسوية أوضاع طالبي اللجوء والمهاجرين غير النظاميين.
ظل عثمان محتجزا في مركز للإنعاش الرئوي وانتهى به الأمر مشنوقا في زنزانته، وفق ما نقلت الصحيفة.
وفق الباحث في علم النفس بجامعة سوسة وائل قرناوي، الذي عاين أوضاع المهاجرين غير النظامين بإيطاليا في إطار بحث ميداني “يعد الانتظار في مراكز الترحيل أقسى تجربة يمكن أن يمر بها المهاجر”.
ويضيف -في حديثه للجزيرة نت- أن المهاجر يعيش في وضعية خصوصية وفي ظروف تمييزية، بدءا من تصرف الشرطة معه بوصفه إنسانا من درجة ثانية، “من منطلق أن المهاجر لا جهة تدافع عنه كونه بلا وثائق تحدد انتماءه وجنسيته، مما يجعله بلا حماية وعرضة أكثر للانتهاكات”.
يصبح الأمر أكثر خطورة وإجراما عندما يتم استخدام الأدوية المضادة للاكتئاب والمهدئات ذات المفعول المخدر، على نطاق واسع، كأسلحة من قبل الأعوان للسيطرة على السجناء في المراكز.
وأشار مركز “ريستريتي أوروزونتي” في إحصائيته بالفعل إلى أنه علاوة على حالات الانتحار، فإن الأسباب الأخرى لوفاة السجناء تشمل تناول جرعات زائدة.
ويقول الكرباعي “يوجد كثير من السجناء المظلومين والمحتجزين الذين يشعرون بإحباط شديد ويتعاطون أدوية نفسية تدفعهم في الغالب إلى حالات إدمان وتجعلهم موضع مقايضة من أعوان السجون والمراكز”.
وفي أكثر القضايا إثارة للجدل، وثقت منظمة “لا لمراكز الاحتجاز للترحيل” الإيطالية وفاة المغربي مصطفى فنان في ديسمبر/كانون الأول 2022 في الشارع في مارانيلا بعد أسابيع قليلة من مغادرته قسم الإنعاش القلبي والرئوي في مركز بونتي غاليريا.
وقالت المنظمة إن مصطفى كان يعاني، قبل وفاته بفترة قصيرة إبان مغادرته المركز، تورم الوجه والكاحلين والقدمين، ورجحت أن ذلك بسبب الاستخدام المتهور للعقاقير العقلية، وهو ما أشارت إليه محامية عائلة الضحية أرميدا نيسيتا عندما أكدت العثور على آثار عديد من الأدوية المضادة للاكتئاب في دمه.
وبعد تحريك دعوى، قام مكتب المدعي العام في روما بوضع طبيبة الإنعاش القلبي الرئوي قيد التحقيق مع توجيه تهمة القتل غير العمد والتحريض على الانتحار. وتحت الضغوط أيضا، باشرت النيابة العامة الإيطالية تفعيل المراقبة على مركزي إيواء في ميلانو وبوتانزا بعد تقارير عن انتهاكات منظمة.
تعذيب واختفاء قسري
تعد هذه الخطوات امتدادا لعدة شكاوى قضائية أغلبها لم يبت فيها القضاء بعد. ونقلت منظمة العفو الدولية في تقرير لها أنه تم إخضاع 105 من موظفي السجون وغيرهم من المسؤولين للمحاكمة في 2020 بتهمة ارتكاب جرائم متعددة، من بينها التعذيب، على خلفية القمع العنيف لاحتجاج وقع في سجن سانتا ماريا كابوا فيتيري في أبريل/نيسان 2020.
ودفعت الانتهاكات والأوضاع السيئة في السجون جمعية “أنتيجون”، المهتمة بحماية الحقوق والضمانات في النظام الجنائي والسجون، إلى المطالبة علنا بإحداث “ثورة” في نظام السجون الذي يعيش في “العصور الوسطى”، مضيفة أن “الصمت على ما يحدث في المؤسسات العقابية هو تواطؤ في الموت”.
ولكن الصمت والتراخي لا يقتصر على المؤسسات الإيطالية فقط، فيشير الكرباعي إلى عدم جدية البعثات الدبلوماسية في تعقب أحوال رعاياها في السجون ومراكز الاحتجاز، وهذا مما يعمق من معاناة الضحايا، بالإضافة إلى حالات الموت المفاجئ والاختفاء القسري المتواترة لمهاجرين بعد مغادرتهم للسجون.
وأحصى الناشط ما لا يقل عن 100 حالة اختفاء قسري أو موت لمهاجرين عام 2023 كانوا غادروا السجون لكن انقطعت أخبارهم لاحقا. وقال للجزيرة نت “هناك عدة جنسيات. لكن في شمال أفريقيا، العدد الأكبر لتونسيين”.
وقدرت منظمة “الأرض للجميع” الناشطة في تونس وإيطاليا أعداد التونسيين الذين ماتوا أو فقدت أي معلومات عنهم بنحو 3 آلاف منذ عام 2012.
سجون مكتظة
دفعت حالات الموت النائبين ريكاردو ماجي عن حزب أوروبا وسيسيليا ديليا عن “الحزب الديمقراطي” إلى مطالبة وزير الداخلية بيانتيدوسي بإغلاق مركز “بونتي غاليريا” سيئ السمعة في روما على الفور.
كما نقلت لاريبوبليكا عن فالنتينا كالديروني الضامنة في حقوق سجناء لاتسيو قولها “ليست هناك حاجة لانتظار التحقيقات حتى تتمكن من القول إن أماكن مثل بونتي غاليريا غير إنسانية تماما. ولم تكن هناك حاجة لانتظار وفاة صبي صغير، لكي نقول إن هذه الأماكن يجب أن تغلق”.
لكن خيار الإغلاق قد يؤدي بالنتيجة إلى مضاعفة أزمة الاكتظاظ التي تعاني منها السجون الإيطالية.
وحسب تقرير لمجلس “الضامن الوطني لحقوق الأشخاص مسلوبي الحرية”، فإن معدل الاكتظاظ ابتداء من منتصف يناير/كانون الثاني 2024، فاق 127% بواقع 60 ألف شخص محتجز، أي بزيادة 13 ألفا عن الحد الأقصى المتاح.
وتصل ذروة الاكتظاظ إلى نسبة 232% في سجن سان فيتوري في ميلانو، و205% في سجن كانتون مومبيلو في بريشيا وفي سجن لودي، وما يفوق 195% في سجن فوجيا.
ولاحظ المجلس -في تقريره- أن مساحة الزنزانات في مؤسستين على الأقل تحت الحد الأقصى البالغ 3 أمتار مربعة للشخص الواحد، وهي مساحة عدتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان “غير إنسانية” وتنتهك المادة 3 من الاتفاقية.
وقال المجلس في تقريره إن حالة الاكتظاظ في السجون لا تتحمل انتظار مزيد من الوقت لحين استكمال بناء مؤسسات سجنية جديدة.
وطالب باتخاذ تدابير عاجلة لتقليص عدد نزلاء السجون ومن بينها استكمال التشريعات اللازمة للتخلي عن العقوبات الجنائية لمن صدرت بحقهم أحكاما بالسجن تقل عن مدة عامين. وهؤلاء وصل عددهم حتى يناير/ كانون الثاني 2024 إلى أكثر من 4 آلاف سجين.
مبدأ حرية التنقل
لكن سجونا أقل اكتظاظ ربما لا تكون حلا كافيا، ووفق نشطاء حقوقيين فإنه من دون معالجة للأسباب الأصلية لهذه المعضلة فإن الانتهاكات ستظل قائمة وستتفاقم.
من جهته، يوضح الناشط عماد سلطاني رئيس جمعية “الأرض للجميع” -في حديثه للجزيرة نت- أن “السياسات في السجون ومراكز الاحتجاز تعكس حربا مباشرة إجرامية غير معلنة على المهاجرين. الآلاف يموتون في البحر الأبيض المتوسط بسبب انتهاك مبدأ حرية التنقل الذي تكفله المواثيق الدولية بالإضافة إلى معاملة مهينة وغير إنسانية في مراكز الاحتجاز وفي السجون”.
بدأ الاتحاد الأوروبي بعقد اتفاقات ثنائية بمثابة صفقات مع دول شمال أفريقيا بحوض المتوسط شملت أساسا تونس وموريتانيا ومصر، بهدف فرض مزيد من الرقابة على السواحل من بين أمور أخرى، مقابل حوافز مالية واقتصادية.
مع ذلك فإن حركة الهجرة لا تتوقف في البحر. وحسب بيانات وزارة الداخلية الإيطالية، وصل ما يفوق 150 ألف شخص إلى سواحل البلاد عن طريق البحر عام 2023، مقارنة بـ105 آلاف عام 2022. وما يفوق ثلثي المهاجرين وصلوا انطلاقا من السواحل التونسية.
ويقول الباحث وائل القرناوي للجزيرة نت إن “المجتمعات المهيمنة تلعب على ورقة حرية التنقل”، ومع حاجتها المستمرة لليد العاملة فهي تفرض قيودا وضغوطا على المهاجرين، مما يؤثر لاحقا على الأجور وظروف المعيشة، إذ إن “هذه الدول تحتاج إلى اليد العاملة، لكنها تريدها أيدي عاملة رخيصة”.
ولاحظ بالفعل تقرير لمنظمة العفو الدولية حول الانتهاكات في إيطاليا عام 2022، استغلالا متفشيا للعمال المهاجرين، لا سيما من يعملون في قطاع الزراعة مقابل أجور متدنية، بالإضافة إلى عيشهم في مساكن دون المستوى ومحفوفة بالخطر.