فيلم “بغداد تثور”.. قصة تظاهرات تشرين العراقية بعيون أبنائها

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 6 دقيقة للقراءة

على مدار ساعة و6 دقائق بالضبط، يأخذ فيلم “بغداد تثور” (Baghdad on Fire) مشاهديه في رحلة إلى أكبر ميادين العاصمة العراقية، حيث تظاهر الشباب لأيام متواصلة آملين في تغيير مصير بلادهم.

فيلم “بغداد تثور” إنتاج عراقي – نرويجي، في أول تجربة للمخرج العراقي المقيم في النرويج كرار العزاوي، وقد عُرض مؤخرًا في مهرجان كوبنهاغن الدولي للفيلم الوثائقي.

وجاب الفيلم العديد من المهرجانات حول العالم، ومنها مهرجان ميونخ العالمي للأفلام الوثائقية، ومهرجان عمان الدولي في عرضه العربي الأول، ومهرجان “أوبي” في سويسرا، ومهرجان “نورديسك بانوراما الدولي” بالسويد، ومهرجان فيزون دالمندو الدولي في مدينة ميلان الايطالية.

جيل ما بعد الغزو

يبدأ الفيلم بمظاهرة تجمع عددا كبيرا من الشباب، تقود الهتافات شابة مبتسمة نعرف بعد قليل أنها تُدعى “طيبة”، لكن أول ما يلفت الأنظار صغر عمر المتظاهرين.

يقود الحركات الثورية على الأغلب جيل الشباب، الأجيال الأصغر التي لا تزال تحمل بداخلها شعلة الأمل، والرغبة في التغيير، ولم تقهرها بعد أعباء الحياة، واعتياد الواقع وقسوته، الأجيال القادرة على الحلم بغد مختلف، لكن أبناء الثورة بالكاد خرجوا من فترة المراهقة، أغلبهم لم يتعد العشرين من عمره بعد.

ما جمع بين أبناء هذه الاحتجاجات العراقية أنهم شباب وشابات تربوا في الفترة التي أعقبت الغزو الأميركي لبلادهم بداية الألفية، ألفوا الانفجارات اليومية في طريقهم من المدرسة وإليها، وتعايشوا مع العنف الذي يمكن أن يتأجج خلال لحظات فيطيح بكل الموجودين، والأهم غياب الاستقرار السياسي والاجتماعي لسنوات طويلة.

أبناء هذا الجيل ولدوا وتربوا في مناخ الحرب والرعب، ورأوا الأسوأ بالفعل، ولذلك قتلوا الخوف في قلوبهم ووضعوا حياتهم على أكفهم ونزلوا إلى الميدان للتعبير عن رأيهم بوضوح وبلا مواربة.

تسللت كاميرا الفيلم إلى مراحل المظاهرات اليومية التي قامت بها الشابات والشباب، التخطيط والدعوات عبر الإنترنت، ثم التواصل مع قادة الميدان، والنزول، والوقوف في وجه الخطر ناظرين له بأعين متسعة، هم لا يطالبون فقط بحياة أفضل، ولكن بأخرى مختلفة تماما عما سُجنوا خلاله طوال ما مضى من سنوات عمرهم.

يترك الفيلم المشاهدين يستنتجون أفكارهم الخاصة حول صغر عمر الثائرين، لكن في الفصل الثالث نشاهد مناقشة بين أحد أبناء الجيل الأكبر وبعض الشابات والشباب، يستعرض الحوار بصورة واضحة أكثر من اللازم الاختلافات بين الجيلين، الأمر الذي كان مفهوما دون هذه الرسالة المباشرة.

لماذا “طيبة”؟

يفتتح الفيلم بوجه الفتاة الشابة “طيبة” الأمر الذي يجعل من الضروري طرح سؤال، لماذا هذا الاختيار؟

يتضح من الأحداث أن “طيبة” فتاة كرست حياتها للحركة الثورية، تخاطر بنفسها في الميدان بشكل يومي، تؤازر زملاءها وزميلاتها، تحمي ظهورهم، وتعالج جروحهم، وتجمع من أجلهم التبرعات للحصول على أغطية للبرد القارس الذي يتعرضون له وهم نائمون تحت سماء بغداد.

ولكن ما يميز “طيبة” عن الجميع، وعلى الأغلب هو السبب وراء اختيار المخرج كرار العزاوي لها كمتصدرة للفيلم، هو قصتها الشخصية التي تمثل قصة الكثير من فتيات بغداد فيما بعد الغزو، في ذلك العالم المشتت بين قيم عتيقة، وثقافة مجتمعات الحرب.

فُرضت على “طيبة” حياة مغلقة تتوارى فيها عن الأنظار، ثم اضطرت للزواج من رجل أكبر سنا قبل أن تبلغ حتى طور المراهقة، فطُلقت قبل أن تبلغ التاسعة عشرة من عمرها، بعدما عايشت الجحيم في تلك الواقعة.

تبدو حياة “طيبة” كما لو أنها مجاز عن عراق ما بعد الغزو، محاولات الخروج من وضع سيئ تنتهي لوضع أسوأ، رحلة يومية للقفز من “المقلاة إلى النار”، لذلك قررت بطلة الفيلم كسر هذه الدائرة كليا وكرست نفسها لتحرير بلدها، والوصول به لبر الأمان.

“طيبة” كذلك مثال على التهديدات المزدوجة التي تتعرض لها الثوريات، والمختلفة عن الخطر الذي يهدد زملاءهم، فوضعها كأنثى في الميدان يلقي عليها عبئا مغايرا، لكنها تجاوزته لتصبح قائدة وليست فقط متظاهرة عادية، لم تغب عن الميدان سوى عندما تم تهديد أسرتها، لكنها غيبة قصيرة قبل أن تعود لمناصرة القضية التي وهبت حياتها لها.

كورونا أنهى المسعى

ولكن كيف انتهت هذه القصة؟ في الحقيقة انتهت بالمأساة التي غيرت العالم منذ 2020، وما زال يعاني من آثارها حتى اليوم، وباء “كوفيد-19” الذي أجبر ملايين البشر على البقاء في منازلهم هربا من فيروس لا يُرى بالعين المجردة؛ ولكنه قادر على إنهاء الحياة.

أجبرت كورونا شباب العراق على العودة لمنازلهم ووداع الميدان، لتنتهي قصة هذا الجيل بشكل لم يتوقعه أحد، فلم يحظوا بشرف الحرب حتى النصر أو الهزيمة.

يسدل الفيلم الستار على آخر فصل من هذه الحركة الثورية، اللحظات التي ترك المتظاهرون فيها الميدان، ولكن في الحقيقة استمر الوضع بوتيرة أهدأ طوال 2020.

استعرض فيلم “بغداد تثور” فصلا مهما من قصة العراق الحديثة، ربما كان ليضيع في صفحات تاريخ هذه البلاد المتخم بالمآسي، الأمر الذي يحيلنا إلى أهمية الأفلام الوثائقية التي تسجل لحظات رآها صناع هذه الأعمال تستحق أن تؤرخ ويعود لها المشاهد ليقرأها من جديد ربما بعيون مختلفة.

من الناحية الفنية، لم يقدم الفيلم جديدًا، فهو فيلم كلاسيكي، يستخدم اللقطات المصورة، والحوارات بين شخصياته الفيلمية، وتتبع حياة البطلة “طيبة” ليلقي نظرة مدققة على هذه الاحتجاجات، التي أسماها أصحابها “ثورة تشرين”.

“بغداد تثور” أول فيلم طويل لكرار العزاوي الذي يعمل حاليا على فيلم وثائقي آخر بعنوان “أرواح حالمة” (Dreaming Souls) الذي يقدم عبره قصة فتاتين مصابتين بمتلازمة داون، واحدة من العراق وأخرى من النرويج.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *