بيروت- سجلت الأيام الماضية تطورات كبيرة في “حرب الاستنزاف” بين حزب الله وإسرائيل التي وسّعت مساحة الاشتباك نحو العمق اللبناني، عبر شن غارات جوية على قرى بعلبك في البقاع التي تبعد نحو 100 كيلومتر عن الجنوب.
كما كثفت الطلعات الجوية للمسيرات بسماء لبنان، واستهداف الأحياء والمباني السكنية بذريعة ضرب أهداف لحزب الله، مما رفع حصيلة الشهداء المدنيين إلى نحو 55 مدنيا منذ بداية الحرب، وأكثر من 820 جريحا.
وبينما بلغ عدد قتلى الحزب في ساحة المعركة، منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قرابة 240، يواصل تصعيد ضرباته بالعمق والمدى كما ونوعا، إذ أطلق 100 صاروخ باتجاه الجليل والجولان، الثلاثاء الماضي، بعد الضربات الإسرائيلية في البقاع وبعلبك.
كما يواصل استهداف مقار الدفاع الجوي والثكنات الإسرائيلية والأنظمة التجسسية وتجمعات جنود الاحتلال ومواقع انتشارهم.
مساع فاشلة
ويرى مراقبون أن مساعي واشنطن، التي قادها أخيرا موفدها الخاص آموس هوكشتاين، لفصل جبهتي لبنان وغزة باءت بالفشل حتى الآن.
ويُرجعون ذلك إلى أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تصر على مواصلة القتال مع حزب الله إلى حين إبعاده من جنوب نهر الليطاني وضمان استقرار دائم لسكان المستوطنات الشمالية، وإلى إصرار الحزب على ربط مصير الجبهتين، وهو ما أكده أمينه العام حسن نصر الله، في خطابه الأخير، بالقول: “جبهة المساندة ستبقى في موقع المساندة أيا يكن الوقت”.
ميدانيا، تجددت المخاوف من تنشيط إسرائيل “حرب الاغتيالات” بلبنان ضد الحزب والتنظيمات الفلسطينية، بعدما استهدفت مُسيرة إسرائيلية، الأربعاء الماضي، القيادي في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هادي مصطفى في مدينة صور، المنحدر من مخيم الرشيدية.
وقبل نحو شهر، أخفقت إسرائيل في محاولة اغتيال قيادي في الحركة في منطقة جدرا اللبنانية، التي تبعد نحو 60 كيلومترا عن الحدود.
سياسيا، يتخبط موقف لبنان الرسمي في تعامله مع اشتعال الجبهة الحدودية، وسط مخاوف شعبية من الانزلاق إلى حرب واسعة وتكرار سيناريو عدوان يوليو/تموز 2006.
لكن وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب يستبعد ذلك، مرجحا -في آخر تصريحاته- أن تطول “حرب الاستنزاف التي تشنها إسرائيل عبر مُسيراتها على لبنان”. وهو ما دفع محللين إلى ترجيح ذهاب لبنان نحو النموذج السوري، حيث يواصل الاحتلال -منذ سنوات- توجيه الضربات العسكرية والإستراتيجية في سوريا ويستبيح سماءها.
ضربات موجعة
في قراءة للتطورات الميدانية بين حزب الله وإسرائيل، يرى الخبير وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية علي فضل الله أن توسيع مدى الضربات الإسرائيلية نحو العمق اللبناني هو نتيجة تلقيها ضربات موجعة في الجليل والجولان، تدفعها للتكتم على خسائرها الهائلة، “خصوصا أن حزب الله يعتمد سياسة ضرب الأهداف النوعية، عسكريا وإستراتيجيا”.
ويدعو، في حديث للجزيرة نت، إلى عدم إغفال حقيقة الواقع الأول من نوعه بتاريخ إسرائيل، إذ أجبرت ضربات الحزب أكثر من 100 ألف مستوطن على النزوح من الشمال وفرض منطقة أمنية عازلة -باعتراف الإسرائيليين- باتت تتجاوز 5 كيلومترات.
ويجد فضل الله أن أغلب الأسلحة المستخدمة من قبل حزب الله في المعركة الحالية مماثلة لتلك التي استخدمها في حرب يوليو/تموز 2006. وهذا الأمر، يستفز إسرائيل -برأيه- التي تستنزف قدراتها العسكرية مقابل “برودة” الحزب في الكشف عن كامل قدراته، بعد نحو 18 عاما عمل فيها على تطوير ترسانته العسكرية ومنظومة الصواريخ والدفاع الجوي لديه.
ويقول الأكاديمي: “نحن أمام معركة غريبة في شكلها بين حزب الله وإسرائيل، فلا هي دفاع ولا هي هجوم، بل ضربات عسكرية نوعية واستنزاف واستفزاز مستمران”.
وما يقلق الاحتلال برأي الخبير ذاته، خصوصا بعد إسقاط حزب الله مُسيرة إسرائيلية شديدة التطور من نوع “هرمز 450” يوم 26 فبراير/شباط الماضي، هو منظومة الدفاع الجوي للحزب “القادرة على كسر تفوق إسرائيل جويا، إذا ما تهورت لشن حرب أكثر اتساعا على لبنان”.
ويرى فضل الله أن ضرب إسرائيل بعلبك شكّل كسرا للمدى الجغرافي، وليس لقواعد الاشتباك العسكرية، خصوصا أن سقوط المدنيين في لبنان يأتي غالبا بإطار توجيهها ضربات عسكرية تزعم أنها تستهدف أهدافا لحزب الله.
ورغم التباينات التي تظهر على الإعلام بين حكومة نتنياهو وفريق الرئيس الأميركي جو بايدن حول إدارة الحرب في غزة والجبهات المساندة، فإن إسرائيل -حسب فضل الله- ما زالت غير قادرة على شن عدوان واسع على لبنان خوفا من تداعياته عليها.
ويضيف: “على مدار أكثر من 5 أشهر، هدد نتنياهو ووزراء حكومته لبنان أكثر من 100 مرة، في حين لم يكن يتخيل أحد أن يكون هناك أكثر من 500 منزل مدمر في المستوطنات الشمالية، ناهيك عن الخسائر العسكرية الهائلة والجنود القتلى والجرحى الذين تتحفظ عليهم”.
ساحة حرب
من جانبه، يرى الخبير العسكري خالد حمادة أن إسرائيل أدخلت لبنان في قلب الحرب، “لأنها تفوقت على حزب الله باستهداف العمق اللبناني، إضافة إلى تنفيذ عمليات الاغتيال من قيادي حماس صالح العاروري ورفاقه في الضاحية الجنوبية، إلى قيادي الحزب وسام طويل، وآخرين”.
ويقول للجزيرة نت إن إسرائيل كرست اختراقها للمنظومة الأمنية في لبنان ولحزب الله الذي يستنفر عسكريا ويدفع فاتورة باهظة بالقتلى العسكريين، وتحويل القرى الحدودية إلى ساحة حرب، دفعت عشرات آلاف الجنوبيين إلى النزوح أيضا.
ويعتبر حمادة أن المسألة في جنوب لبنان لم تعد عسكرية فحسب، بل مرتبطة برؤية أميركية جديدة، تقوم على مساندة إسرائيل في غزة كما لبنان، بغض النظر عن الخلافات العلنية، للذهاب نحو حلول دائمة بدل المؤقتة.
وقبل عملية “طوفان الأقصى”، كانت واشنطن -برأي الخبير العسكري نفسه- تريد التموضع بتحالفاتها في المنطقة وتعزيز مبادرات السلام مع إسرائيل، فاصطدمت بواقع أمني متفجر عنوانه القضية الفلسطينية.
وأمام ما يصفه حمادة بنأي الدولة اللبنانية عن نفسها بقرار السلم والحرب، يستبعد ذهاب إسرائيل لسيناريو يوليو/تموز 2006، بعدما شكل صمود حزب الله أمامها -حينها- هزيمة عسكرية لها.
لكنه يرجح الذهاب نحو التصعيد، بضربات عسكرية ومركزة أكثر عنفا، ستفاقم اضطراب الاستقرار في لبنان، وستجعله شبيها بالنموذج العراقي والسوري واليمني، حسب تعبيره.
ويقول الخبير العسكري خالد حمادة “إن إصرار حزب الله على ربط الجبهتين، في ظل نأي إيران عن نفسها بالمشهد، أدخل لبنان في دوامة المواجهة المفتوحة مع إسرائيل ومن خلفها واشنطن”.
في المقابل، يرى أستاذ العلوم السياسية علي فضل الله، أنه رغم كل التصعيد الكلامي والعسكري، فإن جبهة لبنان ستخمد في اليوم التالي لوقف العدوان على غزة، لأن الحرب واشتعال الجبهات باتا خيارات مستنزفة ومقلقة لجميع الأطراف.