فجأة نشاهد صحوة ضمير غربية وعربية. شهور خمسة وتزيد على الإبادة الجماعية المستمرة دون وجود مبادرات حقيقية من أجل إنقاذ المدنيين. معبر رفح يستمر في الإغلاق دون أيّ مبرر، وما يدخل من المعبر يوميًا يكاد لا يُذكر.
كما تميزت هذه الحرب بارتباط المساعدات الإنسانية بالمفاوضات السياسية والتطورات الميدانية، في كسر واضح لمبادئ القانون الدولي الإنساني، التي تستوجب تجنب استخدام المدنيين واحتياجاتهم الإنسانية كوسائل حرب.
توافدت دول كبرى على رأسها الولايات المتحدة من أجل تنفيذ إنزالات جوية لرمي المساعدات الإنسانية على المدنيين في غزة. قد يتفق أو يختلف الناس حول أهمية هذه الإنزالات وأهدافها الاستعراضية والأخلاقية.
انهيار أخلاقي وسياسي
ودون أن نبخس الأشياء قيمتها وحقها، كل صندوق طعام وكيس طحين ينزل بأي شكل من الأشكال على الجائعين في غزة هو شيء مقبول وجيد، ولا بد من استقباله، دون أن يشكل حقُنا بانتقاده وقبوله معًا تناقضًا بأي حال. فالدول الكبرى والدول القريبة مسؤولياتها أكبر من ذلك. ويقع على عاتقها إلزام الجيش المجرم الذي تسبب بالمأساة في التزام قواعد وقوانين الحرب أولًا وقبل كل شيء.
مع ذلك، فليست القضية اليوم في نقْد الإنزالات أو مدْحها. وليس في تقديم محاضرات لهذه الدول حول مسؤولياتها، فقد تجاوزت الحرب وتكلفتها الإنسانية مثل هذا الكلام، حيث يشاهد العالم بثًا حيًا للانهيار الأخلاقي والسياسي، ويشكّل قناعاته من جديد وَفقًا لذلك، حول النظام الدولي، ومواقف الغرب خاصةً، والقيم الحقيقية التي يحملها للعالم الثاني الأدنى.
وهنا لا بد من التذكير بأن الشراكة في أي جهد إنساني، بموافقة أو بدون موافقة إسرائيلية، بتنسيق أو بدون، بشراكة مع الطائرات التي حملت الذخيرة والصواريخ للجيش الإسرائيلي، أو بجهود مفردة، هي جهود ليس لنا إلا قبولها، والقول بِئْسَ أو شكرًا، بحسب كل فاعل ودوره.
القضية اليوم هي في إصرار الفاعلين الدوليين والإقليميين على القفز عن الحل الأفضل والأسهل والطبيعي من أجل التعامل مع الكارثة الإنسانية في غزة، والمتمثلة بفتح معبر رفح. البوابة التي تتكدس أمامها آلاف الشاحنات المحمّلة بالمساعدات الإنسانية، وتُمنع من الدخول إلا في سياقات ضيقة لا تسد الرمق. فاليوم يتم اجتراح خُطة أميركية إماراتية من أجل إنشاء ميناء عائم؛ بهدف فتح خط إنساني لمرور المساعدات عبر البحر.
الاجتهاد في التفكير وتجريب الخيارات البحرية والجوية من أجل التعامل مع المشهد وتجاوز معبر رفح، هو بحد ذاته إشارة دولية وإقليمية للاحتلال بالمضي قدمًا نحو هجوم رفح، الذي سيتطلب تعطيلًا كليًا للمعبر؛ بسبب الأعمال العسكرية المتوحشة التي سترافق هذا الهجوم.
فالعالم لم يزل يصدمنا بقدرته على مجاراة المذبحة، والتساوق الأخلاقي مع تطوراتها. لدى قادة الدول الكبرى قدرة فائقة في تطويع الجملة السياسية وخطابات المنصات من أجل تغطية هذا الكيان المتوحش وجرائمه. القدرة تكون استثنائية بطبيعة الحال عندما تأتي من معاقل “الديمقراطية وحقوق الإنسان”.
قناعات جديدة
إن تجاوز معبر رفح في سعي الدول الفاعلة إيجادَ حلّ للمأساة الإنسانية، لا يقول إلا أن الشراكة الدولية في هذه المأساة ناجزة. ولا يهم أن تَرمي طنًا أو عشرة من الطعام للتغطية على تلك الشراكة. لن يكون ممكنًا فهمُ أكثر من 100 صفقة سلاح وذخيرة متطورة لقتل أكثر من 30 ألف مدني وطفل وامرأة، ثم تقوم الطائرات نفسها التي حملت الذخيرة للطرف القاتل، بحمل طحين وسكر لمن تبقى من ذوي القتلى. مشهدٌ غارقٌ في السيريالية والتناقض. خاصة عندما ينكر بايدن المذبحة في الشهور الأولى، ثم يعترف بها اليوم من أجل حساباته الانتخابية.
على أيةِ حال، فالميناء العائم قد لا يكون، فقط، مرتبطًا بهجوم رفح المرتقب، غطاءً له من قبل الدول الكبرى، وتسليمًا بقدره من الدول التي لاحول لها ولا قوة. بل قد يكون أحد تشكُّلات مرحلة ما بعد الحرب، والبحث عن بدائل عملية في إدارة القطاع بشكل مباشر بالتنسيق مع إسرائيل وحدها، وهو ما قد يفسر بشكل ما موافقة إسرائيل على مشروع الممر البحري دون البري.
كما أن مثل هذا المشروع قد يضع أسئلة حول الفاعلين، ورغبات بعضهم الكامنة، ربما في غاز غزة المثبت وجوده، والذي يحتاج استقرارًا سياسيًا قبل أن يصبح ذا جدوى استثمارية. هنا لا بد من الانتباه إلى الفاعلين المحتملين في هذا المشروع، والنظر في سجلهم ومواقفهم التي تمنح الإنسان، العادي فضلًا عن المسيس، قدرةً على الحكم في النوايا.
الميناء البحري أيضًا يبدو جزءًا من قناعات جديدة تتشكل في الغرب حول الانخراط أكثر في ملف غزة ما بعد الحرب. وقناعة مقابلة بأن الطريقة التي تمت بها إدارة الحصار الاقتصادي للقطاع من خلال بوابة رفح قد تبدو غير ذات جدوى للمرحلة المقبلة. هذا يعني أن التوكيل الإقليمي الحصري لطرف بعينه سيحتاج إعادة نظر في المرحلة المقبلة، أو ربما توسيعه ليشمل أدوارًا جيوسياسية عابرة تدخل فيه أطراف ليس بينها وبين غزة رابط جغرافي.
إن فكرة الميناء البحري لا تزال بحاجة إلى تقييم أعمق سيبدو أكثر وضوحًا مع بدء العمل في الميناء. فمن خلال التصريحات الغربية – خاصة الصادرة من قبل الاتحاد الأوروبي، حول الميناء العائم – تبدو الفكرة في طور التجربة، بمعنى أن جدوى الميناء خلال الحرب، قد ترتبط بفكرة مستدامة لاحقة.
وبطبيعة الحال، لن ينعتق أي تفكير غربي في قطاع غزة من عقدة ما يُسمى “أمن إسرائيل”، ولن تكون هناك أية احتمالات لتطوير أفكار وردية وحالمة لأهل غزة، ما دام أنّ رعاتها مسكونون بتلك العقدة. هذا فقط قياسًا على تجارب التاريخ، وانخراط الغرب في الملف الفلسطيني، الذي كان ولا يزال قائمًا على حماية إسرائيل، بانتهاكاتها وجرائمها، من كل مساس يمكن أن يصيبها.
ضمن هذه الأفكار التي تتطور اليوم في سياق الحرب واحتمالات ما بعدها، لا يزال الفاعل الفلسطيني غائبًا، وغير مُدرج في تشكيلة اللعب. سواء ما يمكن أن يتبقى من إدارة فلسطينية في غزة، أو أية أدوار للسلطة الفلسطينية في رام الله، التي تبدو في مدرجات الجمهور، بينما نرى فاعلين فلسطينيين آخرين جالسين في مقاعد البدلاء ينتظرون فرصتهم.
مشهد مرتقب
في هذا السياق، فإن مقاعد البدلاء تبدو ذاتَ أهمية كبيرة اليوم، وربما جزءًا من نتيجة المشهد المرتقب، خاصة عندما يرتبط بعض المتأهبين والحالمين منذ زمن طويل بسلطة غزة على وجه التحديد، مع اللاعب الإقليمي الأكثر انخراطًا في مشروع الميناء البحري.
لا يوجد حتى اللحظة أية آمال بعقل سياسي دولي قادر على تطوير أفكار عقلانية من أجل تسوية كبيرة ونهائية؛ استغلالًا للحدث الأكثر ترويعًا للعالم في القرن الحادي والعشرين.
فكل الإرادات لا تزال تصطدم بالتطرف اليميني الإسرائيلي، الذي يبدو غير آبهٍ بالحليف قبل العدو، ويحكمه انغلاق أيديولوجي يعطل القدرة على التفكير السياسي بالضرورة. وهو ما قد يجرّ المشهد إلى دُوامات جديدة من الصراع.
لذا، تبدو الأطراف الدولية راغبة في الانخراط في إدارة الصراع، فضلًا عن إنهائه، وهو دور باتت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتمتعان فيه بقدرات كبيرة، قياسًا على عجزهما عن الانخراط الحاسم في عدد من الصراعات في العقدين الأخيرين، منذ احتلال العراق عام 2003.
وإلى أن نشهد دوامة صراع قادمة، ومذبحة جديدة، سيكون الميناء واحدًا من أفكار تخدم إدارة الصراع، لكنها تعكس العجز عن إنهائه.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.