نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا مطولا للكاتب المتخصص في شؤون الأمن القومي، دبليو جيه هينيغان، في إطار تحقيقات تجريها بشأن تفاقم خطر اندلاع حرب نووية في العالم.
وحذر الكاتب من أنه رغم صغر حجم كثير من أسلحة الجيل الجديد -مقارنة بالقنبلتين النوويتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية عام 1945- فإن قوتها التدميرية أكثر فتكا من الأسلحة التقليدية، الأمر الذي يشكل تهديدا يصعب التكهن بمآلاته.
وقال إن الأسلحة الجديدة تخيم فوق ساحات القتال في أوكرانيا، وأماكن أخرى قد تندلع فيها الحرب القادمة مثل الخليج العربي، ومضيق تايوان وشبه الجزيرة الكورية.
ولفت إلى أنه استند في كتابة مقاله على بحوث ودراسات ومئات الساعات من المقابلات مع أشخاص عاشوا تجربة تفجير قنبلة ذرية، وكرسوا حياتهم لدراسة احتمالات نشوب حرب نووية أو التخطيط لما بعد وقوع الكارثة.
وإذا كان التكهن بهول الكارثة التي يخلفها هجوم نووي يبدو مفزعا -كما يؤكد المقال- فإن حكومتي الولايات المتحدة وأوكرانيا ظلتا لأكثر من عامين على الأقل تخططان لهذا السيناريو.
استعدادات في أوكرانيا
وكانت أجهزة المخابرات الأميركية قد أصدرت تقييما في عام 2022 خلصت فيه إلى أن فرص شن روسيا هجوما نوويا لوقف تقدم القوات الأوكرانية في حال انتهكت دفاعاتها في شبه جزيرة القرم متساوية.
واستعدادا لأسوأ الاحتمالات، سارع المسؤولون الأميركيون إلى نقل إمدادات إلى أوروبا، طبقا للمقال الذي لم يكشف طبيعتها.
وذكر الكاتب أن أوكرانيا نصبت المئات من أجهزة الكشف عن الإشعاعات حول المدن ومحطات الطاقة، فضلا عن أكثر من ألف جهاز مراقبة صغير محمول أرسلته إليها الولايات المتحدة.
وحددت أوكرانيا لمواطنيها قرابة 200 مستشفى في البلاد يمكنهم التوجه إليها في حالة وقوع هجوم نووي، وأخضعت الآلاف من الأطباء وكوادر التمريض للتدريب على كيفية الاستجابة لحالات التعرض للإشعاع ومعالجتها. كما قامت بتخزين الملايين من أقراص يوديد البوتاسيوم في جميع أنحاء البلاد، وهي عقاقير تحمي الغدة الدرقية من التقاط مواد مشعة ذات صلة بالإصابة بمرض السرطان.
ولكن قبل ذلك بوقت طويل -وتحديدا بعد 4 أيام فقط من غزو روسيا لأوكرانيا- وجهت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مجموعة صغيرة من الخبراء والإستراتيجيين، أُطلق عليها اسم “فريق النمر”، أُسند إليها مهمة صياغة “إرشادات” نووية جديدة تتعلق بخطط الطوارئ والاستجابات.
وبالاستعانة بخبراء عاملين في المجالات الاستخباراتية والعسكرية ورسم السياسات، أخضع الفريق للدراسة خطط التأهب للطوارئ المعمول بها منذ سنوات ونماذج التعرض لتأثير الأسلحة، وسيناريوهات التصعيد، وعمل على نفض الغبار عن المواد التي كان يُعتقد منذ فترة طويلة أنها تلاشت ولم تعد صالحة في عصر مكافحة الإرهاب والحرب السيبرانية، وتجهيزها للاستخدام مجددا.
وكشف هينيغان أن كتيب الإرشادات المذكور -الذي اضطلع مجلس الأمن القومي الأميركي بتنسيقه- قابع في مكتب آيزنهاور التنفيذي بجوار الجناح الغربي للبيت الأبيض.
ويحتوي الكتيب على قائمة محدَّثة ومفصلة بالخيارات الدبلوماسية والعسكرية المطروحة أمام الرئيس بايدن وأي رئيس أميركي في المستقبل، للعمل بها في حالة وقوع هجوم نووي في أوكرانيا.
ويقول الكاتب إن أهم جزء في هذا الكتيب يتضمن استنتاجا “مخيفا”، وهو أن هجوما نوويا أصبح الاحتمال الأرجح الآن أكثر من أي وقت مضى منذ حقبة الحرب الباردة، الأمر الذي لم يكن يُتصور وقوعه في أي صراع حديث.
ونقل عن مسؤول كبير في الإدارة وعضو في فريق النمر -لم يسمه- القول: “أمضينا 30 عاما نجحنا خلالها تماما في إبقاء المارد في القمقم”.
ومع أن أميركا وروسيا خفضتا إلى حد كبير ترسانتيهما النوويتين منذ ذروة الحرب الباردة، فإن المسؤول في إدارة بايدن قال إن “الخطر النووي بات يتصدر المشهد في الوقت الراهن”.
وفي الأسبوع الماضي، لفت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انتباه العالم إلى هذا الخطر الوجودي، عندما حذر علنا من نشوب حرب نووية إذا زاد حلف شمال الأطلسي (الناتو) من تورطه في أوكرانيا.
وأورد الكاتب في مقاله تفاصيل -قال إنها تُكشف لأول مرة- عن خطر التصعيد النووي في أوكرانيا، الذي ظل هاجسا يؤرق إدارة بايدن طيلة احتدام الصراع في تلك الدولة.
ورغم أن هذا الخطر قد يقض مضاجع المسؤولين في واشنطن وكييف، فإن معظم دول العالم بالكاد أعطت انطباعا على استيعابها لهذا التهديد.
ولعل هذا مرده -برأي هينيغان- أن جيلا بأكمله بلغ سن الرشد في عالم ما بعد الحرب الباردة، عندما كان الاعتقاد السائد أن حربا نووية باتت بشكل قاطع وراء ظهورنا.
ورغم التهديد النووي الذي لوَّح به بوتين الأسبوع الماضي، فإن قلة من الناس تعتقد أن الرئيس الروسي سوف يستيقظ يوما من الأيام ويقرر إطلاق رؤوس حربية نووية تزن ملايين الأطنان على واشنطن وعواصم أوروبية “انتقاما من دعمها أوكرانيا”.
ويرى الحلفاء الغربيون أن الاحتمال الأرجح هو أن تعمد روسيا إلى استخدام ما يُطلق عليه “سلاح نووي تكتيكي” أقل قوة تدميرية ومصمم لضرب أهداف على مسافات قصيرة تقضي على وحدات عسكرية في ساحة المعركة.
إن الفرضية الإستراتيجية -وفق مقال نيويورك تايمز- هي أن تلك الأسلحة تتسبب بأضرار أقل بكثير من القنابل الهيدروجينية التي تدمر المدن، وبالتالي أكثر قابلية للاستخدام في الحروب.
وتقدر الولايات المتحدة أن روسيا تمتلك مخزونا يصل إلى ألفي رأس نووي تكتيكي، بعضها من الصغر بمكان بحيث يمكن تثبيته في قذيفة مدفعية.
عقيدة الردع
بيد أن تفجير أي سلاح نووي تكتيكي سيكون بمثابة اختبار غير مسبوق لعقيدة الردع، التي يقول الكاتب إنها نظرية ظلت السياسة العسكرية الأميركية تتبناها طوال السنوات الـ70 الماضية.
وتنص هذه العقيدة على درء الخصوم عن شن هجوم نووي ضد الولايات المتحدة -أو ضد أكثر من 30 دولة من حلفائها- لأنهم بذلك يخاطرون بالتعرض لهجوم مضاد ساحق.
ويمضي الكاتب في اقتباسه فقرات من تلك العقيدة التي ترى أن امتلاك أسلحة نووية لا علاقة له بالانتصار في حرب نووية، بل يتعلق بمنع نشوبها، فالأمر يتوقف على “توازن الرعب المدروس” بين الدول النووية.
إن تكديس الأسلحة الخطيرة والمكلفة دفع واشنطن وموسكو إلى حافة المواجهة، قبل أن يؤدي عودة الدفء تدريجيا في العلاقات بين البلدين إلى إجراء خفض متبادل لترسانتيهما.
سؤالان
فماذا لو أسقط بوتين سلاحا نوويا على أوكرانيا؟ وكيف يمكن الحد من خطر تحول هجوم من هذا النوع إلى كارثة عالمية في حال أخفقت سياسة الردع؟
يقول هينيغان إن الإجابة على السؤالين قد نجدها في خريف عام 2022، عندما كانت المخاوف من استخدام روسيا لسلاحها النووي في أوكرانيا جلية وملموسة.
ففي ذلك الوقت، استعادت أوكرانيا في هجوم خاطف أراضي من الروس في منطقة خاركيف الشمالية الشرقية. وكان الأوكرانيون على وشك اختراق الدفاعات الروسية في مدينة خيرسون الجنوبية، مما قد يؤدي إلى انسحاب روسي آخر يمكن أن يشي بانهيار عسكري محدق على نطاق أوسع.
هينيغان: الولايات المتحدة بصدد تصنيع رؤوس حربية نووية جديدة للمرة الأولى منذ عام 1991، في إطار برنامج يمتد لعقود من الزمن لإصلاح قوتها النووية بتكلفة تقدر بنحو تريليوني دولار
وينسب كاتب المقال إلى مسؤولين كبار في إدارة بايدن أن تقدير الاستخبارات الأميركية يقوم على أنه إذا تمكن الجيش الأوكراني من اختراق الدفاعات الروسية، وكان في طريقه إلى شبه جزيرة القرم التي يتمركز فيها أسطول البحر الأسود الروسي، فإن الأمر سيتحول إلى تكهنات عما إذا كانت روسيا ستطلق قنبلة نووية تكتيكية أم لا.
وكشف مقال نيويورك تايمز أن مساعدي بايدن قضوا الليالي الطوال لمدة أسبوع تقريبا في تنسيق محادثات رفيعة المستوى والتخطيط للسيناريو الأسوأ، وهو تفجير جهاز نووي صغير داخل الأراضي الأوكرانية بقوة تزن بضعة آلاف من الأطنان أو أقل.
وأوضح الكاتب أن المساعي الدبلوماسية التي بذلتها الإدارة الأميركية مع زعماء دول عدة -بما فيها الصين والهند وتركيا- ليشرحوا لبوتين التكلفة الباهظة التي سيتكبدها إذا أقدم على شن هجوم نووي.
وخلص المقال إلى أن حدوث انفجار نووي في أوكرانيا أو قطاع غزة من شأنه أن يفاقم الصراع ويتسبب في خسائر بشرية كبيرة.
وإذا قُدِّر للردع النووي -مهما كان مفهوما معيبا- أن ينجح، فإن الشفافية المتعلقة بقدرات الدول تصبح أمرا بالغ الأهمية، ومن دون تواصل أفضل سيزداد خطر التصعيد السريع وسوء التقدير.
وأشار هينيغان إلى أن الولايات المتحدة بصدد تصنيع رؤوس حربية نووية جديدة للمرة الأولى منذ عام 1991، في إطار برنامج يمتد لعقود من الزمن لإصلاح قوتها النووية بتكلفة تقدر بنحو تريليوني دولار.