غزة- “مولد وصاحبه غايب”.. استحضرت سيدة فلسطينية هذا المثل الشعبي، وهي تتحدث بحرقة عما وصفتها بالفوضى وشيوع مظاهر السطو على المساعدات في غزة وطرحها بالأسواق، والتي تشهد ارتفاعا غير مسبوق بالأسعار.
تقول هنادي عبد ربه “أم عمر” إن غياب الرقابة والمساءلة شجّع على تفشي حالة الفوضى التي تظهر في الأسواق والأسعار الجنونية لغالبية السلع ومن بينها أصناف المساعدات الواردة للمتضررين عبر معبر رفح مع مصر، وكرم أبو سالم الخاضع للسيطرة الإسرائيلية.
وفي الآونة الأخيرة، تتعالى أصوات الغزيين بالشكوى من الفوضى وسرقة المساعدات وبيعها بأسعار خيالية، وشيوع حالات استخدام الأسلحة النارية في شجارات عائلية تسببت في إزهاق أرواح، فضلا عن محاولات تهريب وترويج المخدرات.
لصوص حرب
ولا تقتصر هذه المظاهر على مدينة رفح في جنوب قطاع غزة، التي نزح إليها نحو نصف سكان القطاع وتؤوي زهاء مليون و400 ألف نسمة حاليا.
وتضج منصات التواصل الاجتماعي والمجالس الشعبية بأحاديث عن حوادث السطو على شاحنات المساعدات في هذه المدينة وعلى طريق الرشيد الساحلي الذي يصلها بمدينة خان يونس ومناطق وسط القطاع وشماله.
وتقول أم عمر (46 عاما)، وهي نازحة مع أسرتها من شمال القطاع لمدينة رفح، إن كل عمليات السطو على المساعدات ليست بدافع الجوع، حيث يتم الاستيلاء على الكثير منها وسرقته وطرحه في الأسواق بأسعار لا تتناسب والحالة المادية لغالبية الناس، وبخاصة النازحون الذين تركوا منازلهم وممتلكاتهم وهربوا جنوبا للنجاة بأرواحهم.
“نهبوا منازلنا، والآن يسرقون قوتنا وقوت أطفالنا”، تضيف أم عمر التي علمت بسطو اللصوص على منزلها ومنزل عائلتها في شمال غزة وسرقة محتوياتهما، وهي حادثة تكررت مع نازحين كُثر من مدينة غزة وشمالها، تعرضت بيوتهم للسرقة والنهب.
وتعيل أم عمر أسرة من 5 أبناء، ويعمل زوجها في الحكومة التي تديرها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة، ويتلقى 800 شيكل (حوالي 205 دولارات) منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولا تساعدهما الظروف المعيشية المتردية على توفير احتياجات أسرتهما الأساسية.
وتتساءل: “كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية مطروحة في الأسواق وبأسعار باهظة، فمن أين حصلوا عليها ولماذا لم تصل إلى مستحقيها؟”، وتابعت: “طبعا من الحرامية وقطاع الطرق الذين يعترضون طريق الشاحنات ويستولون على محتوياتها”.
فوضى ممنهجة
وساعد غياب دوريات الشرطة المكلفة بحفظ الأمن وتأمين شاحنات المساعدات على تفشي حالات السطو من قبل “لصوص” يقطعون طريقها في محاور عدة بالقطاع، ويستولون على حمولتها بقوة الأسلحة البيضاء والنارية، ومن ثم طرحها للبيع بأسعار خيالية.
وتقول أوساط فلسطينية إن الاحتلال أسهم في خلق الفوضى بعمليات استهداف مركزة وبدت “مقصودة وممنهجة” خاصة في مدينة رفح، أسفرت الشهر الماضي عن استشهاد 12 من قادة وعناصر الشرطة جراء غارات جوية إسرائيلية استهدفت سياراتهم الشخصية وسيارات رسمية مميزة بألوان وعلامات الشرطة.
ويقول الأديب والروائي يسري الغول إن “الاحتلال الذي أمعن فينا قتلا هو الذي يجوع الأطفال، ويحرض الرجال على حمل الأسلحة البيضاء لأجل حفنة طحين، يسوق طريقة العنف عبر عملائه ليقتل بعضنا بعضا”.
ويتساءل يسري، الذي رفض النزوح جنوبا ولا يزال مقيما في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، “منذ متى كنا نحمل السكاكين لأجل كيس طحين أو أرز؟!”، وتابع في منشور على منصات التواصل: “يجب محاسبة كل من يحمل الأسلحة قبل أن تصبح آفة”.
ويتردد محليا أن “عصابات مسلحة” تشكلت في مدينة غزة وشمالها، تنتظر شاحنات مساعدات قليلة تسمح قوات الاحتلال بوصولها إلى هناك، لكنها لا تصل إلى مستحقيها لغياب جهة مسؤولة تضمن عدالة التوزيع.
وأفاد أبو حمزة، للجزيرة نت، بأنه اشترى لعائلته كيسين من الطحين وزن الواحد 25 كيلو غراما بسعر 4 آلاف شيكل (حوالي ألف دولار)، فيما كان سعرهما قبل الحرب لا يتعدى 100 شيكل فقط. وتقيم عائلته في بلدة بيت لاهيا شمال القطاع، حيث اعتقلته قوات الاحتلال منها لنحو شهر وأطلقت سراحه في مدينة رفح.
ويقول “المساعدات التي تصل للشمال شحيحة جدا ولا تلبي الاحتياجات الكبيرة، والحشود تنتظرها على الطرق والمحظوظ من يحصل على نصيب منها دون أن تصيبه رصاصة من الاحتلال أو من عصابات اللصوص وقطاع الطرق”.
الحماية الشعبية
وفي محاولة لسد الفراغ مع غياب الشرطة خشية الاستهداف الإسرائيلي، تشكلت مجموعات أُطلق عليها “الحماية الشعبية” تتكون من شبان ملثمين ومزودين بهراوات، انتشروا في الأسواق لضبط الحالة الأمنية والأسعار.
وتعقيبا على ذلك، يقول بسام عبد الله، وهو صحفي من مدينة رفح، في منشور على منصات التواصل الاجتماعي: “حان الوقت لإنهاء الصورة الظلامية من تجار الدم والاستغلال، ويجب أن تبدأ بكبار لصوص التجار المحتكرين ومن يساندهم من أصحاب القرار، ومحاكمتهم أمام الشعب محاكمات ثورية لاستغلالهم الناس في وقت العدوان وفي صورة أقبح مما يفعله الاحتلال”.
وتساءل: “ما الفرق بين عدو يقتل يوميا وتاجر يذبح شعبه؟”، واعتبر أن الحماية الشعبية “خطوة متأخرة، ولكن هي البداية لضبط السوق لعودة كافة السلع لسعرها الطبيعي، خاصة وأننا على أبواب شهر رمضان الكريم”.
لكن بعد بضعة أيام على تشكيل هذه اللجان، لم تلمس أم عمر تغييرا كبيرا في الأسعار أو غياب تجار المساعدات، التي لا تزال تعج بها الأسواق، وقالت: “الأسعار نار، وكلما اقتربنا من شهر رمضان تزداد أكثر، ونستقبل شهر الصيام ونحن في صوم منذ شهور من الجوع والاستغلال والاحتكار”.
وبالنسبة إلى فراس عدوان فإن “لعبة التجار القذرة لا تزال مستمرة، والأسعار بعد تشكيل الحماية الشعبية في ارتفاع”.
وبرأي أم عمر، فإن هذه الحرب كانت “كاشفة” وأظهرت “أسوأ ما فينا”، فعندما غابت الرقابة ظهرت “طبقة من المنتفعين واللصوص وتجار الدم”.
وتساءلت: “أين الضمير من سرقة مساعدات وبيعها لناس يواجهون الموت في كل لحظة، وما مبرر غلاء أسعار كل شيء، فكيلو البصل الذي كان يباع بـ3 شواكل قبل الحرب يباع الآن بـ30 شيكلا”.
ويقول المحلل السياسي إبراهيم المدهون، للجزيرة نت، إن “الاحتلال معني بإحداث فراغ في قطاع غزة والضغط على الحاضنة الشعبية عن طريق الفوضى وزعزعة الأمن من أجل أن يتحول الشعب الفلسطيني من حالة صمود وتماسك وتنظيم، إلى حالة تشتت وتشريد وفوضى”.
ويضيف أن الاحتلال “يريد خلق وقائع جديدة يستطيع من خلالها التحكم بشكل ومستقبل قطاع غزة بعد الحرب، ولذلك يحارب كل مظاهر الأمن والاستقرار بكل السبل”.