لا تستقيم قراءة السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل دون التعريج على أفكار فرانتز فانون في كتابه: “معذّبو الأرض” الذي كانت الثورة الجزائرية ميدان التحليل فيه، ولكن كل ما فيه يتوافق معه القياس على الحالة الفلسطينية، ذلك أن الاستعمار مدرسة واحدة اتحدت فكريًا واختلفت تكتيكيًا في بعض الأحيان.
يقرّ فانون -وهو مفكر للثورة الجزائرية- بأنه من السخافة بمكان تخيل مواجهة عنف المحتل بشيء آخر غير العنف؛ “إنّ الاستعمار ليس آلة مفكرة، ليس جسمًا مزودًا بعقل، إنما هو عنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنف أقوى”.
يعرج فانون في كتابه: “معذّبو الأرض” على نقطة اللاعودة في العلاقة بين المحتل والشعب تحت الاحتلال، وهي مرحلة حاسمة تبدأ بعدها المرحلة الأخيرة التي تقود إلى انتصار الشعب المحتل، وزوال الاحتلال.
يتعايش الشعب تحت الاحتلال وقوة الاحتلال الغاشمة عقودًا طويلة من الصراع، لكن سمات هذا الصراع أنه يمكن تحمّلها إلى أنْ تأتي أحداث تصنع نقطة اللاعودة وفق فانون، يعقبها مرحلة مؤلمة جدًا، لكنها تشكل بداية التحرير.
ما زالت المقاومة الفلسطينية تبذل جهودًا مضنية لإشعال فتيل الأحداث في الضفة الغربية تحديدًا- الفلسطينيون ليسوا فقط في الضفة وغزة- لتحقيق جزء هذا الشرط التاريخي، لكن نتائج عملها متواضعة للغاية
لا يمكن أن تبدأ المرحلة الأخيرة من الاحتلال والتي تهيئ لزواله دون الوصول إلى نقطة اللاعودة في هذه العلاقة. في سياقات الثورات الشعبية هذه مرحلة في غاية الأهمية، وهي الأكثر إيلامًا من كل مراحل الصراع مع الاحتلال.
في الثورة الجزائرية على سبيل المثال، وبالرغم من أن عمر الاحتلال الفرنسي للجزائر ونضالاته الممتدة هو مائة واثنتان وثلاثون سنة، فإنَ نقطة اللاعودة التي أدت إلى نهاية الاحتلال الفرنسي للجزائر، كانت في الثورة بين (1954-1962)، وسقط في هذه السنوات السبع وحدها مليون ونصف المليون شهيد.
فلسطينيًا، تعتبر أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول ومعركة “طوفان الأقصى” وما تلاها من جرائم الإبادة التي لا يمكن للعقل البشري تصورها، نقطةَ اللاعودة الحقيقية في هذا الصراع والتي ستؤرخ في طبيعة العلاقات لما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما بعده كمرحلتين زمنيتين مختلفتين.
فهِمَ المجتمع الصهيوني تمامًا أنَ معركة “طوفان الأقصى” هي نقطة اللاعودة في هذه العلاقة، مدركًا دلالاتها، فهو أولًا وأخيرًا ابن شرعي للمدرسة الاستعمارية الأوروبية يعي لحظات سطوتها وزمان أفولها.
لذلك سارع إلى تصنيفها وبشكل واضح وعلني على أنها خطر وجودي على الدولة والكيان الصهيوني. واستخدم مصطلح الخطر الوجودي مرارًا وتكرارًا خلال الشهور الماضية، وعلى كل المستويات، علمًا أن هذا المصطلح لم يستخدم من قبل لوصف أي مرحلة من مراحل الصراع. لكن هل يدرك الفلسطينيون فعلًا أنهم دخلوا نقطة اللاعودة؟
حماس هي من هنْدسَ نقطة اللاعودة هذه، ومن الواضح من خطابها أنها تعي ذلك، فخطابها الأول بعد العبور وما تلاه يشير إلى أنها تعي تمامًا أنها لم تنفذ مجرد عملية عسكرية واسعة، أو أنها أساءت التقدير حول ردة فعل الاحتلال؛ ولكن الوعي وحده غير كافٍ.
من الناحية الموضوعية، فإن حماس وفصائل المقاومة وإن كانت أبدعت في المقاومة في قطاع غزة، فإنها لم تنجح حتى الآن في توفير الشروط الموضوعية لإنضاج نقطة اللاعودة، بحيث تقود للنهايات التاريخية المعهودة لها، والمتمثلة في انتفاض باقي مكونات الشعب الفلسطيني واستشعار هُويته المشتركة العابرة للجغرافيا في معركة تحرر وطني شاملة، تؤسس خلال السنوات القادمة لنهاية الاحتلال، وفق منطق الشرط التاريخي لنقطة اللاعودة الذي عايشته كل ثورات العالم.
ما زالت المقاومة الفلسطينية تبذل جهودًا مضنية لإشعال فتيل الأحداث في الضفة الغربية تحديدًا- الفلسطينيون ليسوا فقط في الضفة وغزة- لتحقيق جزء هذا الشرط التاريخي، لكن نتائج عملها متواضعة للغاية.
إذ يبدو وبكل موضوعية أن هندسة المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وطرق حصاره والهيمنة عليه أكبر من كل حسابات حماس وفصائل المقاومة.
وهذه هي الثغرة الأساسية في شرط التحول والتي لم تتحقق حتى الآن، نقول حتى الآن؛ لأن الأوضاع فعلًا على شفا انفجار قد يحدث ويحقق الشرط التاريخي، بالرغم من تعقيدات حدوثه بتلك الشاكلة.
أما بالنسبة للسلطة الفلسطينية اليوم، فهي تحوي ثلاثة اتجاهات لا يوجد بينها أي رابط. اتجاه يتمنّى أنْ تنتصر إسرائيل على حماس وتسحقها ليتخلص من خصم يعتبره عدوه الأول، وهذا الاتجاه لا يميز بين الخصومة السياسية، وبين الصراع الإستراتيجي مع الاحتلال.
والاتجاه الثاني يعتبر أن ما جرى تحول نوعي إيجابي في الصراع يفتح بارقة أمل للمرة الأولى نحو تحقيق إنجاز سياسي بعد أن وصلت القضية الفلسطينية لمرحلة التصفية، وبالتالي لا بد من توجه جديد، وأولى خطواته الوحدة الوطنية.
والاتجاه الثالث لا يهمه في الأمر سوى السلامة الذاتية وألَا يتضرر الجسم البيروقراطي للسلطة، وأن تبقى بعيدة عن أي ردات فعل مرتبطة بالمعركة قد تهدد وجودها، وأهم ما في ذلك ألا تنجر الضفة الغربية إلى موجة صراع مع الاحتلال. يعني ذلك أنها تقف في المحور المعطل لهذا الشرط التاريخي.
ما لا تدركه السلطة الفلسطينية أو أنها تدركه وتتجاهله رغبة في عدم دفع استحقاقاته الباهظة هو أن نقطة اللاعودة تحققت، سواء كانت المرحلة المقبلة بمقاسات حماس، أو بمقاسات توافقية مع المحور العربي وصفقاته مع الولايات المتحدة الأميركية، وأن من أهم سمات المرحلة المقبلة أن التغيير الطوعي أو القسري قادم لها لا محالة.
ما يعزز نقطة اللاعودة التي ستمهد لنهاية الاحتلال في قادم السنوات إضافة للإبادة الجماعية بأبشع صورها، هو الإيغال في التطرف لدى كافة النخب والقيادات في إسرائيل، والذي سيجعل كل المشروع السياسي الذي تتحدث عنه الولايات المتحدة الأميركية غير قابل للحياة أيًا تكن مواصفاته.
إن الشعب الفلسطيني ليس في بحبوحة من الوقت لكي يوازن بين البدائل، فمن سوء الطالع الذي قد يتحول إلى فرصة، هو أن جميع الخيارات والبدائل المطروحة على الشعب الفلسطيني تتعلق بماهية وشكل الاستسلام وتصفية القضية الفلسطينية ولا شيء آخر.
وقد تجلّى ذلك قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول في سرديات قضم الأرض والإنسان ومسار التطبيع، وتعززت بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول في سياقات بيع الوهم الأميركي في المنطقة، وطبيعة التحالف الأميركي الصهيوني.
يعني ذلك باختصار أنَ الحديث عن جدلية إشعال نقطة اللاعودة من عدمها قد تجاوزه الزمن، بينما المطلوب هو أن يتكاتف الكل الفلسطيني حول الهُوية الجمعية التي تُراكم قبل فوات الأوان، في تحويل هذه الحالة إلى الفصل الأخير في مسيرة التحرر، لا سيما أن كل الشروط الموضوعية مهيأة لذلك.
إن الإسرائيليين والأميركيين يتحدثون بوضوح عن أنَّ هذه المعركة ستحدد مستقبل المنطقة لعقود، فهل يعي الفلسطينيون وداعموهم معنى ذلك؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.