هل خطر ببال أحدنا أن يحضر عرضا سينمائيا يتقاسم فيه محمود المليجي و”كريستوفر لي” أدوار البطولة أو فيلما بطلته سعاد حسني و”مارلون براندو”؟ وهل فكّر أحدنا مجرد التفكير في إنتاج أفلام جديدة لنَجمَيْ الكوميديا الراحليْن “تشارلي تشابلن” وإسماعيل ياسين؟
يبدو أن الأمر سيصبح ممكنا جدا خلال السنوات القادمة، ويمكننا في وقت قريب أن نشاهد أعمالا سينمائية كاملة بالاعتماد على نجوم السينما الراحلين، فقد نصحو يوما على إعلان لفيلم من بطولة “مارلين مونرو” أو “إليزابيث تايلور” أو “شون كونري”، وقد نشاهد أفلاما جديدة لـ “بروس لي” أو فريد شوقي أو أنور وجدي.
كما قد تصلنا دعوة لحضور العرض الأول للفيلم الجديد الذي يجمع عمر الشريف بأحمد رمزي وفاتن حمامة، أو نتفاجأ بفيلم لعبد الحليم حافظ لحّن أغانيه فريد الأطرش!
“نسخة مزيفة مني تواصل التمثيل إلى الأبد”
في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي 2023 حذّر الممثل الأمريكي “توم هانكس” من انتشار إعلان له عن التأمين على الأسنان، أُنشئ بالذكاء الصناعي من دون علمه، وقد استخدم الإعلان نسخة رقمية من وجهه وصوته، للترويج لخطة تأمين على الأسنان.
وقال “هانكس” في حسابه على “إنستغرام” الذي يتابعه ما يقرب من 10 ملايين شخص: احذروا، يوجد مقطع فيديو يروّج لبعض خطط طب الأسنان، باستخدام نسخة مني أُنشئت بالذكاء الصناعي.. ليس لي أي علاقة بالأمر.
ولم يُخفِ النجم الأمريكي مخاوفه بشأن استخدام الذكاء الصناعي في السينما والتلفزيون، مع أنه لم يتردد في الموافقة على نُسَخ مُعدلة رقميا لنفسه في أعمال فنية سابقة. وقد قال في لقاء تلفزيوني: قد يجعل الذكاء الصناعي نسخة مزيفة منّي تواصل التمثيل إلى الأبد. قد تصدمني حافلة غدا، لكن العروض يمكن أن تستمر وتستمر.
“سورا”.. ذكاء صناعي يهدد بتغيير عالم صناعة الفيديو
من الواضح، أن تطور أدوات الذكاء الصناعي أصبح يمثّل مصدر قلق لدى عدد من صنّاع الفيديو وصنّاع السينما أيضا، ويتزايد هذا القلق ويصل حَدَّ الخوف مع كل أداة جديدة توفّر فرصا أكبر لصناعة الفيديو بطرق سريعة وذات جودة عالية، على مستوى التصوّر والابتكار والإنجاز والتسويق.
فأحدث ما أعلنت عنه شركة “أوبن إيه آي” (OpenAI) -التي ابتكرت برنامج “تشات جي بي تي” (ChatGPT) ومُولّد الصور “دالي دوت إي” (DALL•E)- يتمثّل في أداة جديدة أطلقت عليها اسم “سورا” (Sora)، تُستخدم لإنشاء مقاطع فيديو واقعية، تصل مدتها إلى دقيقة واحدة بمجرد إدخال طلب نصّي.
وقد اعتبر المتابعون والمهتمون بالشأن التكنولوجي هذه الأداة ابتكارا كبيرا في مجال الذكاء الصناعي، و”قد يُهدد بتغيير عدة قطاعات”، بحسب ما جاء في تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية.
في حين أوضحت “أوبن أيه آي” -وهي شركة ناشئة متحالفة مع “مايكروسوفت”- أن هذه المنصة الجديدة تستند إلى أبحاث سابقة أُجريت على برنامجي “دالي دوت إي” و”تشات جي بي تي”، وأنها لا تزال قيد الاختبار، لكنها عرضت مع ذلك بعض مقاطع الفيديو، وشرحت طريقة تطويرها.
وقالت شركة “أوبن أيه آي” على موقعها الإلكتروني إن البرنامج يستطيع إنشاء مقاطع فيديو تصل مدتها إلى دقيقة واحدة “بجودة صورة عالية، وباتّباع أوامر المستخدم”. وأن أداة “سورا” تستطيع إنشاء مشاهد معقدة، فيها شخصيات عدة وأنواع محددة من الحركات وتفاصيل دقيقة، كما أنها تتيح إنشاء فيديو من صورة ثابتة، أو توسيع مقاطع الفيديو الموجودة.
“فهم ومحاكاة العالم الحقيقي”.. بداية متعثرة واعدة
تعمل “سورا” أساسا على “برامج قادرة على فهم ومحاكاة العالم الحقيقي”، بحسب ما أكدته الشركة، وتأمل بذلك أن تكون “خطوة مهمة في تحقيق الذكاء الصناعي العام”، وهو نظام شديد الاستقلالية، تفوق قدراته ما يستطيعه البشر في معظم المهام المربحة اقتصاديا.
ولم تخفِ الشركة أن ثمّة عيوبا في النموذج الحالي للمنصة، منها الالتباس بين اليسار واليمين، وعدم القدرة على الحفاظ على الاستمرارية البصرية طوال الفيديو.
ولم تكن أداة “سورا” أول أداة تثير القلق من أدوات صناعة أو توليد مقاطع الفيديو، فأدوات الذكاء الصناعي المشابهة كثيرة، ومنها المجاني والمدفوع، ولعل من أكثرها شيوعا واستخداما “أوبن إيه آي” (OpenAI)، و”سينثيسيز” (synthesys)، و”سينثيزيا” (Synthesia)، و”بيكتوري” (pictory)، و”ديب برين” (Deepbrain)، و”هايجين” (HeyGen)، و”فيد” (VEED)، و”فليكي” (Fliki)، وإلاي” (Elai)، وغيرها.
ولكن إلى أي مدى يمكن أن يمثّل الذكاء الصناعي تهديدا حقيقيا لقطاع صناعة السينما؟
سينما الذكاء الصناعي.. مخاوف تشعل إضراب هوليود
في صيف 2023، نفّذَ آلاف الممثلين وكُتّاب السيناريو في هوليود إضرابا للمطالبة بتعويضات، تتعلق بالبثّ عبر الإنترنت وضمانات حيال الاستعانة بالذكاء الصناعي.
وقد أثار هذا الإضراب جُملة من المخاوف بشأن استخدام الذكاء الصناعي في إنتاج الأفلام، إذ يرى المُضربون أنه بمجرد إجراء مسح للوجه والجسم للممثلين والممثلات، يمكن إنتاج أفلام جديدة بمساعدة الذكاء الصناعي، من دون الحاجة إلى توظيفهم مرة أخرى.
لكنّ شركات الإنتاج الكبرى رفضت هذه الاحتمالية، وأصرّت على أن أعمال المسح لن تجري إلا على مشاريع بعينها، مما يضمن إبرام عقود جديدة مع الممثلين والممثلات. وفي المقابل، رفضت أستوديوهات الإنتاج الكبرى مثل “ديزني” و”وارنر بروس” و”باراماونت” ومنصّات البث الرقمي مثل “أمازون” و”نتفليكس” هذه المطالب، ورأتها مُبالغا فيها وغير واقعية.
وفي الواقع لا يختلف اثنان على أنّ السينما -مثل أي مجال آخر- قد استفادت بشكل كبير مما تُتيحه التكنولوجيات الجديدة، ويبرز ذلك في اعتماد تقنيات مُستحدثة تُسهم في تقديم أعمال سينمائية أكثر جاذبية وأسرع تسويقا.
ذلك أن صناعة السينما تُعدُّ من الصناعات التي تتأثر بشكل كبير بتطور التكنولوجيا وما يتبَعُها من ابتكارات وأدوات تساعد على إنتاج أعمال جديدة، ولكنّها لا تستغني بأيّ حال من الأحوال عن التدخل البشري في الكتابة والإخراج والتمثيل وفي كل تفاصيل هذه الصناعة التي تعتمد على الدهشة والإبهار.
صناعة السيناريو.. ناقد ذكي يحلل الكتابة ويقترح البدائل
يُقدّم الذكاء الصناعي خدمات ثمينة جدا لصنّاع الأفلام، لعلّ أهمها تحسين جودة الصوت والصورة، ناهيك عن توفير قاعدة بيانات تتعلق أساسا بتوقعات الجمهور المُستهدف وتحليلها، مما يسمح للمنتجين بالاشتغال على أعمال تضمن فرص النجاح، وبذلك تضمن إيرادات أكبر.
وحاليا لا تستغل هذه الاستخدامات بشكل كبير في السينما، ولكن قد نشهد هذا في المستقبل القريب، بفضل توسّع هذه التقنية في مجالات متعددة، وهو ما يجعل مخاوف الممثلين أو كتّاب السيناريو أو حتى التقنيين تبدو مُبالغا فيها، على الأقل في الوقت الحاضر من وجهة نظر المنتجين.
وهنا يرى بعض المهتمين بالسينما، أنه يمكن لكتّاب السيناريو “استخدام الذكاء الصناعي لتحليل كتاباتهم، فهو يقدم نفسه على أنه ناقد، ويقترح البدائل إذا لزم الأمر”. وقد يساعد ذلك على إنتاج الأفلام بشكل أسرع وأكثر تكيُّفا مع الجمهور المستهدف، كما يمكن أن يُمثّل مصدرا لتحقيق نجاحات كبيرة على المدى الطويل وأرباح إضافية.
فقد أصبحت السينما وشبكات التواصل الاجتماعي والذكاء الصناعي والسينما كيانات متّصلة لا يمكن فصلها، وتقوم أدوات الذكاء الصناعي بتحليل الاتجاهات على المنصات، لإنشاء إستراتيجية تسويقية مناسبة، كما أنّ الخوارزمية تساهم في أنظمة التوصية، وهنا تركز التقنية على دراسة الأفلام التي تجذب المستخدم، بهدف تقديم محتوى مماثل.
“مناورة الملكة”.. إنتاج ناجح يعتمد على الذكاء الصناعي
من غير الوارد لأي أداة اليوم أن تقدم سيناريوات جاهزة للتنفيذ، لكنها تساعد في التوجيه واقتراح البدائل، وبذلك يتأكد مرة أخرى أنّ اللمسة البشرية تبقى أساس كل عمل سينمائي مهما اعتمد على التقنيات التكنولوجية.
ويعتمد عدد من كتّاب السيناريو في هوليود على بعض المنصات التي تعد أدوات مرجعية، وتعتمد على الذكاء الصناعي لتحليل التوقعات العامة، ثم تعدّل النص لتلبية استفساراتهم، وهكذا يضمنون حضور الجمهور واندهاشه الدائم بما يقدمونه، وقد ساهمت هذه الأداة في نجاح عدد من الأفلام والأعمال الدرامية.
ولعلّ أفضل دليل على ذلك عدد من إنتاجات منصة “نتلفيكس”، منها على سبيل المثال “مناورة الملكة” (The Queen’s Gambit)، فقد كان يعتمد على هذه الأداة تحديدا، وقد جذب المسلسل كثيرا من المتابعين حول العالم.
لكنّ المهم في كل هذا، أنّ الذكاء الصناعي لا يكتب السيناريو بل يقترح القصة أو يعدّل بعض أحداثها، بناء على السياق العام للعمل السينمائي.
اختيار الممثلين.. معايير وبيانات تلتقط الشخص المناسب
على مستوى الأداء، يمكن لأدوات الذكاء الصناعي أن تساعد على اختيار الممثل المناسب للدور، إذ يعتمد المنتجون على معايير محددة ومواصفات مخصوصة في اختياراتهم، وحينها يبحث الذكاء الصناعي في قواعد بيانات متعددة ويحلّلها، ثم يقدم مجموعة من الممثلين والممثلات، تتوفر فيهم المعايير المتفق عليها أو المطلوبة لهذا الدور أو ذاك.
ومع كل ما يُقال، تبدو المخاوف من أن يمثّل الذكاء الصناعي مصدر تهديد لصناعة السينما مُبالغا فيه بشكل واضح، على الأقل في الوقت الحاضر، فمهما تقدمت التكنولوجيا في مجال مثل السينما، فإنها تبقى بحاجة لتدخل بشري يعطيها تلك اللمسة الحسّية التي لا يمكن لأي تقنية أن توفّرها مهما شهدت من تطور.
والآن، هل سيفاجئنا صنّاع السينما بأعمال جديدة اعتمادا على نجوم الخمسينيات والستينيات باستغلال الذكاء الصناعي؟ أم ستبقى مخاوف البعض مجرد قلق مُبالغ فيه؟