طهران- يرى دكتور الاقتصاد والأستاذ في جامعة طهران آيزاك سعيديان أن التوترات الإقليمية ليست العامل الرئيسي في انهيار سعر العملة الوطنية الإيرانية، بل يصفها بالمحفز لتسريع عملية سقوط الريال الإيراني.
وفي حوار خاص مع الجزيرة نت، قدم سعيديان تحليلا وتفسيرا لما يشهده الاقتصاد الإيراني اليوم وتحديدا الانهيار الذي تشهده العملة الوطنية الإيرانية مع تزايد الخطاب الحربي تجاه إيران وحلفائها في المنطقة.
في ما يلي، النص الكامل للحوار:
-
لماذا انخفضت قيمة العملة الوطنية الإيرانية بشكل مستمر خلال الأربعين سنة الماضية؟
شهد الاقتصاد الإيراني العديد من الإخفاقات في نصف القرن الماضي، وفي هذه الأثناء، فإن انخفاض القيمة الجوهرية للريال هو أمر يناقشه العديد من الناشطين الاقتصاديين.
وفي الأسابيع الماضية، وصلت قيمة الريال الإيراني مقابل الدولار إلى 60 ألف تومان.
ولكن ما الذي يسبب انخفاض قيمة العملة الوطنية الإيرانية بشكل مستمر خلال الفترة المذكورة.
من وجهة نظر علم الاقتصاد، تعتمد القيمة الجوهرية للعملة الوطنية لكل بلد على عدة محددات رئيسية، وهي:
- الناتج المحلي الإجمالي.
- معدل التضخم.
- سعر الفائدة البنكية.
- معدل النمو الاقتصادي.
- ميزان الصادرات والواردات.
- حجم السيولة في البلاد كلها.
- المخاطر المنهجية.
ومنذ عام 1960، حاولت الحكومة الإيرانية إجراء تغيير جوهري في الشؤون الاقتصادية في البلاد، ونتيجة لذلك، سجل معدل الناتج المحلي الإجمالي والنمو الاقتصادي في إيران نموا مثيرا للإعجاب خلال 10 سنوات.
وفي ذلك الوقت، أعلنت الحكومة أن سعر الفائدة البنكية يتناسب مع معدل التضخم في البلاد الذي يتكون من رقم واحد.
لكن تدريجيا، منذ عام 1970، قررت إيران زيادة ميزانية البلاد، ولهذا الغرض، حاولت جلب دخل دولارات النفط إلى اقتصاد البلاد في الوقت نفسه الذي ارتفعت فيه أسعار النفط في العالم.
منذ بداية عام 1968، زاد دخل إيران من النفط بشكل كبير، حيث كانت إيران تبيع 638 ألف برميل من النفط يوميا قبل التاريخ المذكور أعلاه، ووصلت المبيعات إلى 6 ملايين برميل يوميا بعد عام 1968. بعبارة أخرى، ارتفع دخل إيران من بيع النفط 20 مرة، دفعة واحدة.
-
ما الذي حصل مع دخول أموال النفط إلى الاقتصاد الإيراني؟
مع دخول أموال النفط إلى الاقتصاد الإيراني، رأينا أن حجم السيولة في إيران ارتفع.
ومع زيادة السيولة كان التضخم يتزايد، وفي الوقت المذكور، ووفقا للنمو الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي المناسب للعقد الماضي، تمكن الاقتصاد الإيراني من تجنب مخاطر التضخم وانخفاض قيمة العملة الوطنية.
ولكن بعد الثورة الإيرانية وبدء الحرب الإيرانية العراقية، فضلا عن هروب رؤوس الأموال الكبيرة من البلاد وانسحاب العديد من المصانع من القطاع الخاص، تعرض الناتج المحلي الإجمالي الإيراني لأزمة.
ومنذ ذلك الحين، حاولت الحكومات، واحدة تلو الأخرى، أن تبني ميزانياتها على الإيرادات الوفيرة في غياب الناتج المحلي الإجمالي الكافي.
وهذا أدى إلى زيادة حجم السيولة والقاعدة النقدية، ومن ناحية أخرى، تسبب بارتفاع نسبة التضخم.
واستمر هذا الإجراء خلال الحكومات المختلفة حتى عهد الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد.
في ذلك الوقت، كان لدى إيران حجم كبير من السيولة، ولم يكن الناتج المحلي الإجمالي في وضع مناسب، في الوقت نفسه قررت حكومة أحمدي نجاد تنفيذ قانون الدعم المستهدف، مما تسبب في مضاعفة حجم السيولة والقاعدة النقدية.
وفي ذلك الوقت، ارتفع سعر بيع النفط الإيراني إلى مستوى غير مسبوق.
ولذلك، في الوقت المذكور، زادت كمية السيولة في إيران عدة مرات، ولم يكن هذا المبلغ مدعوما من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي الوقت نفسه، كانت المخاطر المنهجية تخنق الاقتصاد الإيراني بشدة بسبب تورط إيران في الملف النووي مع دول 1+5.
خلال الفترة المذكورة، زادت السيولة الإيرانية إلى حد أن المخاطر المنهجية كانت بمثابة شرارة لإشعال النار في مخزن مسحوق النقد في إيران، وتسببت في انخفاض قيمة الريال منذ عام 2006 حتى الآن.
وكان سعر الدولار وقتها حوالي ألف تومان، وحاليا يتراوح بين 55 و60 ألف تومان.
-
كيف انعكست العقوبات الأميركية والدولية والأممية على الاقتصاد الإيراني؟
خلال حكومة أحمدي نجاد، فرضت الحكومات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة مجموعة متنوعة من العقوبات الاقتصادية القاسية ضد إيران، بحيث استهدفت هذه العقوبات جوهر الاقتصاد الإيراني، وأصبحت العقوبات واحدة من أهم المخاطر المنهجية لإيران، وتسببت في سقوط العملة الوطنية الإيرانية قدر الإمكان.
وبالطبع تجدر الإشارة إلى أنه بعد إدارة أحمدي نجاد، تمكنت إدارة الرئيس السابق حسن روحاني، خلال فترة 4 سنوات، من إبعاد بعض المخاطر المنهجية والعقوبات عن الاقتصاد الإيراني، من خلال التوصل إلى الاتفاق النووي مع دول 5+1.
خلال الفترة المذكورة، حاولت حكومة حسن روحاني طمأنة المستثمرين الأجانب ضمن اتفاقية خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) حتى يتمكنوا من الاستثمار في الصناعات الأولية في إيران، وخاصة النفط والغاز والبتروكيماويات، وتحديث أسطول الصناعات المذكورة أعلاه بمعدات حديثة.
لكن الحظ لم يكن إلى جانب حكومة روحاني، ومع انسحاب الرئيس الأميركي السابق ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة، لم تظهر الحكومات الأوروبية الأخرى أي اهتمام للاستثمار في إيران.
ومع ذلك، خلال حكومة حسن روحاني الأولى، ساد التفاؤل الاجتماعي والسياسي المناسب في سياق الاقتصاد الإيراني، وتسبب في استقرار الريال الإيراني في ذلك الوقت، لكن مجرد التفاؤل لم يكن كافيا لتحمل عبء مرض الاقتصاد في إيران.
لأنه خلال الفترة المذكورة، زاد حجم السيولة دون دعم الناتج المحلي الإجمالي الإيراني بشكل كبير، ومرة أخرى مع انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، انخفضت قيمة الريال مرة أخرى.
-
كيف ترى مستوى الاقتصاد والسياسات في الشأن الاقتصادي في الحكومة الإيرانية الحالية؟
وفي حكومة الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، تم بذل الكثير من الجهود للحفاظ على قيمة الريال في نطاق مستقر، وهو ما تم بغض النظر عن المؤشرات الاقتصادية، ومع بدء بعض الاحتجاجات في إيران، والتي اعتُبرت مخاطرة منهجية، انخفضت قيمة الريال الإيراني من جديد.
وبالطبع تجدر الإشارة إلى أن المخاطر المنهجية التي تعرض لها الاقتصاد الإيراني بلغت ذروتها في عهد حكومة إبراهيم رئيسي، وهو ما سنتحدث عنه بإيجاز:
– الاحتجاجات الداخلية في إيران المعروفة باسم احتجاجات مهسا أميني.
– الحرب في أوكرانيا والتي دفعت الحكومة إلى رفع الدعم عن بعض المواد المهمة من السلع الأساسية، ونتيجة لذلك صغرت مائدة الأسر وزاد التضخم.
– بداية حرب غزة.
– الصراع بين قوى محور المقاومة في منطقة الشرق الأوسط مع أميركا وإسرائيل.
وبطبيعة الحال، في هذه الأثناء، حاولت الحكومة الإيرانية تخفيف عبء العقوبات الدولية من خلال الانضمام إلى اتفاقيتي بريكس وشنغهاي.
-
ولكن من خلال التوقيع على الاتفاقيات المذكورة أعلاه، أي بريكس وشنغهاي، هل تمكنت إيران من الحصول على فرصة جيدة لتحسين اقتصادها؟
في الفضاء الإعلامي الإيراني، ظهرت العضوية في هذه الاتفاقيات، بالشكل الذي يوحي أن إيران قادرة عمليا على اجتياز العقوبات ولديها علاقات تجارية مناسبة مع الدول الأعضاء في الاتفاقيات المذكورة أعلاه.
بينما معظم الدول الأعضاء في هذه الاتفاقيات لديها علاقات تجارية واسعة النطاق مع الولايات المتحدة الأميركية، ومن غير المرجح أن تعرض هذه الدول مصالحها التجارية والاقتصادية للخطر مقابل التجارة مع إيران طالما تلقي العقوبات بظلالها على الاقتصاد الإيراني.
-
باختصار، كيف تصنف محددات انهيار العملة الوطنية الإيرانية؟
باختصار، يتم تصنيف عوامل سقوط الريال إلى قسمين، وهما:
1-قرارات الإدارة الاقتصادية للبلاد.
– تعيين سعر الفائدة السلبي بالنسبة للتضخم في الشبكة المصرفية في البلاد، مما يجبر الناس على محاولة نقل أموالهم إلى الأسواق المختلفة في أسرع وقت ممكن ليكونوا في مأمن من التضخم وانخفاض قيمة أصولهم.
يعد شراء الذهب والعملة الأجنبية والعقار والسيارات من أهم الأسواق الموازية الأساسية في إيران.
بعبارة أخرى، كان سعر الفائدة المصرفية في إيران أقل من معدل التضخم في اقتصاد البلاد في بعض الفترات، وقد دفع هذا الكثير من الناس إلى اتخاذ قرار بعدم استثمار رؤوس أموالهم في الشبكة المصرفية في البلاد بهدف الحصول على الفائدة الشهرية، بسبب سعر الفائدة السلبي.
– قلة النمو الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي، مما يجعل السيولة عديمة القيمة.
– الزيادة الهائلة في السيولة غير المدعومة في البلاد.
– التضخم في معدل الإنتاج والتضخم في السلع والخدمات.
– عجز الموازنة الحكومية، حيث إن أحد أهم العوامل الاقتصادية هو العجز في ميزانية الحكومات المختلفة في الأربعين سنة الماضية، والذي، بحسب التفسيرات المذكورة أعلاه، تسببت القرارات الاقتصادية الخاطئة في عجز كبير في ميزانية الاقتصاد الإيراني.
ولكي تتمكن الحكومات من تحقيق التوازن بين دخلها ونفقاتها، بدأت في طباعة النقود بشكل مباشر وغير مباشر.
بعبارة أخرى، لقد خلقوا المال دون دعم حقيقي. ونتيجة لذلك، ففي كل عام تتكرر فيه هذه الدورة، تنخفض أيضا قيمة العملة الوطنية الإيرانية.
2- المخاطر المنهجية.
كان الخطر المنهجي الأكثر أهمية للاقتصاد الإيراني في الأربعين عاما الماضية هو نظام العقوبات الاقتصادية المستهدف، لأن أبواب إيران التجارية مع الدول الأخرى كانت تُغلق تدريجيا بسبب العقوبات.
– المخاطر المنهجية الإقليمية، وبما أن إيران لم تشارك في حرب عسكرية مباشرة بعد الحرب العراقية الإيرانية، فإن المخاطر المنهجية لمنطقة الشرق الأوسط لا تسهم إلا كعامل محفز للانخفاض السريع للريال في هذه الدورة، ولكن على عكس يراه البعض، فإن الأحداث الإقليمية ليست العامل الأساسي في حد ذاتها في انخفاض قيمة الريال.
-
كيف تكون عواقب انخفاض قيمة الريال على الناس في إيران؟
لا شك بأن الانخفاض المستمر لعدة سنوات في قيمة العملة الوطنية الإيرانية قد تسبب في أضرار عديدة للجسم الاجتماعي والاقتصادي في إيران.
لقد صغرت مائدة الأسرة، ونقص التمويل المناسب للطبقة العاملة والمتوسطة، وصعوبة تأمين الأجر المعيشي، وزيادة الجرائم الاجتماعية وغيرها.
على أي حال، شهد الشعب الإيراني تضخما يزيد على 50% في حياتهم الاقتصادية خلال الأشهر الـ15 الماضية، وما زالوا يحاولون الحفاظ على أموالهم في مأمن من التضخم عن طريق تحويلها إلى عملة وذهب وسيارات.
-
ما توقعاتكم للعام الإيراني المقبل الذي يبدأ في منتصف مارس/آذار تقريبا؟
من المتوقع أنه في عام 1403 الإيراني، بسبب الركود الاقتصادي العميق وتضخم إنتاج السلع والضرائب الثقيلة على الشركات والمنتجين، نشهد رحيل رؤوس أموال كبيرة من إيران إلى بلدان أخرى.
ومن الجدير بالذكر أن البنك المركزي الإيراني قد أعلن في الأسابيع الأخيرة أنه قرر تثبيت سعر الريال مقابل العملات الأخرى في نطاق محدد، ولكن طالما لم يتم ضمان أمن الاستثمار ومع استمرار المخاطر العديدة وانخفاض الاستثمار في إيران، فمن غير المرجح أن يظل الريال مستقرا نسبيا على المدى الطويل.