فن الفسيفساء.. مهنة تقاوم الاندثار بعد تهجير صُناعها شمالي سوريا

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 6 دقيقة للقراءة

يفرش غسان سعيد الحمود أدواته، المكونة من أحجار وألوان تشكيلية وعدة لوحات، أمامه في مشغل للفسيفساء يقع بالقرب من مدينة سرمدا شمال غرب سوريا.

يعمل الحمود بمهنة الفسيفساء منذ 22 عاماً، ويختص في اللوحات الصعبة والدقيقة التي تتميز بتحليل الألوان المائية والزيتية، ويعد أحد أكثر الحرفيين شهرة وأهمية في المنطقة.

ويتم صنع لوحات الفسيفساء باستخدام قطع صغيرة من الرخام والأحجار والبلور والغرانيت والأخشاب والأصداف، التي يتم رصفها جنباً إلى جنب، متلاصقة لتعطي الشكل أو الرسم المطلوب.

يقول الحمود للجزيرة نت إن “هذه المهنة مرت خلال العقدين الأخيرين بعديد من المراحل، فكانت في البداية صعبة ومعقدة لأنها كانت جديدة على عامة الناس، ولم يكن الحرفيون يعملون بها”.

وأضاف “مع مرور الزمن أصبح هناك مئات الفنانين التشكيليين الذين تعلموا المهنة في مشغلنا، ثم انتقلوا لاحقا إلى خارج سوريا وأقاموا معارض فنية في الأردن وتركيا وبعض الدول الأوروبية”.

وتُعَدّ مهنة الفسيفساء إحدى أهم الحِرَف التي يشتهر بها أهالي منطقة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي، حيث كانت مصدر دخل للمئات من الشبان في المنطقة، ويتم تصديرها لعدد من دول العالم.

وقبل هجرة أهل المدينة الواقعة جنوب إدلب، عملت في كفرنبل عشرات المشاغل التي تُشغّل الشبان. لكن بعد هجرة السكان، توقفت جميع المشاغل عن العمل مما هدد باندثار هذه المهنة التراثية.

هجرة داخلية للورش فرضتها الحرب

أما الحرفي محمد الحمادي، فأصر على العودة وافتتاح مشغل لتصنيع الفسيفساء قبل عدة أشهر معيدا تشغيل عشرات الشبان داخل مشغله بريف إدلب، وعاد لتصدير لوحات لعدد من دول العالم.

وتُعَدّ مدينة إدلب وريفها من أعرق المناطق المعروفة بانتشار فنّ الزخرف، ويُعَدّ متحف معرّة النعمان من أكبر وأشهر متاحف الفسيفساء في الشرق الأوسط والعالم، بينما يحافظ حرفيون وورشات على الإنتاج رغم صعوبات العمل.

ويقول الحمادي للجزيرة نت “عانينا كثيراً بعد النزوح والهجرة وتوقفنا عن العمل أثناء الحرب، كما انخفض منسوب العمل حيث كان لدينا حوالَيْ 125 عاملاً، أما الآن فهناك حوالَيْ 25 عاملاً فقط، جمعناهم بعد ترتيبنا لعمل جديد شمالي سوريا”.

واعتبر أن كل المصالح والمِهَن الحرة، التي تتأثر بعملية الشحن والاستيراد والتصدير، تتأثر بالحروب وانعدام الأمن على الطرقات، فيصبح استيراد المواد الخام مكلفاً وعبئاً كبيراً يحتاج مدة زمنية طويلة، مما يشكل عقبات صعبة للغاية تواجه هذه المِهَن، لا سيما بسبب الحروب وبُعد اليد العاملة عن مكان العمل.

ويقول إن هناك معاناة كبيرة، مضيفا “وقسم من هؤلاء الشباب يعمل لدينا منذ 20 سنة، ومنهم من يعمل منذ 10 سنوات، ونعمل على المحافظة على اليد الحِرَفية، ونحاول تأمين ظروف العمل لها، ونأمل تحسُّن الظروف، وفتح الطرقات وتسهيل عملية الاستيراد والتصدير لكي لا يكلفنا الشحن كثيراً”.

وعن أبرز المعوقات، يرى الحمادي أن صعوبة التصدير وكلفته المرتفعة هما الأبرز لأن عملنا ليس مثل المعامل، فهي تنتج كميات كبيرة، أما عملنا فهو فني حرفي مهني، نحتاج إلى أسبوع أو 10 أيام لننتج قطعة واحدة، ولكي تنتج كمية كبيرة نحتاج سنة، والزبون لا ينتظر سنة لتلبية طلبه، فنضطر للشحن إلى تركيا ومنها لكل أنحاء العالم، ولكن الطلب قليل لارتفاع الكلفة أقصد كلفة الإنتاج والشحن”.

وحول متوسط أجور العمال، يضيف الحمادي كمعدل وسطي شهري أجور العمال تتراوح بين 150 و300 دولار بالشهر للفرد العامل، وأحياناً هناك قسم قليل يصل إلى 350 دولاراً، معتبراً أن الأجور قليلة لأن الشحن يأتي على جميع الربح الناتج ويستهلكه بتكاليفه المرتفعة.

وتبلغ أسعار اللوحات ما بين 50 و200 دولار للوحة الواحدة، بحسب حجمها وحرفيتها، حيث يتمكن الرجل أو المرأة من العمل عليها، وقد تحتاج لأشهر.

وتشكل الفسيفساء لوحات جدارية وأرضيات مختلفة الأحجام للعديد من المعابد والقصور والمساجد والكنائس القديمة.

الفسيفساء السوري في بلاد المهجر

أما الفنان التشكيلي السوري أحمد اليوسف، فنقل بدوره مهنة الفسيفساء من شمالي سوريا إلى الأردن، مؤكداً أن عمليات التوثيق بدأت باستخدام الفسيفساء “وهذه المهنة كانت نادرة في الأردن، لذلك قمنا بتطويرها من أجل إيصال الفكرة إلى الناس”.

وأضاف للجزيرة نت “وصلت أعمالي إلى عدد من معارض العالم حيث بدأت بالعمل في مجال الفسيفساء في منزلي، فكنت أصنع اللوحات وأعرضها في عدد من المعارض بالأردن عن طريق شركات محلية. وتم تصدير بعض هذه اللوحات إلى الخارج”.

ويأمل عبد الله الداني -وهو فنان تشكيلي ويعمل في المشغل التابع للحمادي بريف إدلب- في أن تُفتح طرق التصدير، حيث إن كثيراً من متابعيه على مواقع التواصل يقومون بتوصيته على لوحات لتنقل إلى دول عربية وأوروبية.

ويقول للجزيرة نت إنه يقوم بصناعة لوحات شخصية وإرسالها للزبائن في مناطق شمالي سوريا وتركيا، ولكنه يعجز عن إيصالها إلى دول عربية وأوروبية “لأن سعرها يتضاعف 3 أو 4 مرات، مما يُثنيهم عن الفكرة”.

ويضيف بأن “هذه الحرفة تشكل دخلاً جيداً لعشرات العوائل، وتؤمّن مدخولاً ثابتاً لهم في حال تحسين الظروف والاهتمام بها من قِبل الجهات الحكومية، من خلال دعم الحرفيين وتسهيل طرق التصدير لهم، وكذلك دعمهم بمبالغ مالية من أجل أن يفتحوا مشاغل خاصة كي لا تندثر هذه الحرفة”.

ولا شك أنه برغم طغيان الآلة والتكنولوجيا في هذا العصر، يظل العمل الحرفي المتقن تحفة فنية لا تتأثر بمرور الأعوام، لكن هذه المهن الحرفية اليدوية نفسها يخشى عليها من الاندثار والضياع إذا لم تجد الفئة العاملة بها عوامل الحياة التي تعينها على الاستمرار في إبداعها وإيصال منتجاتها لمختلف الدول والحضارات، بحسب العاملين في حرفة الفسيسفاء السورية.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *