بغداد – أعلنت شركة شل الهولندية للطاقة، الثلاثاء الماضي، انسحابها من مشروع الصناعات البتروكيميائية العملاق المعروف باسم “النبراس”، في حين أكدت وزارة الصناعة والمعادن العراقية أن اعتذار الشركة عن الاستمرار بالمشروع يعزى لتغيير سياستها في الاستثمار بالصناعات البتروكيميائية.
وقال جون كروكر نائب الرئيس التنفيذي لشركة شِل -خلال لقائه رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني على هامش زيارة الأخير لهولندا- إن انسحاب شركته جاء بسبب ما وصفه بـ “تغيير طرأ على خطط الشركة فيما يتعلق بمشاريع البتروكيميائيات في مختلف أنحاء العالم”، مؤكدا حرص شركته على استمرار عملها في العراق في المشاريع الأخرى.
ولا يعد انسحاب شركة شل الهولندية الأول من نوعه من قبل شركات الطاقة الدولية، إذ سبقه انسحاب شركة إكسون موبيل الأميركية من العمل في بعض حقول النفط جنوب البلاد، فضلا عن انسحاب شركات دولية أخرى من بينها 3 شركات صينية كانت قد تقدمت للعمل ضمن جولة التراخيص النفطية الخامسة، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات عن أسباب هذه الانسحابات، وعن الخسائر الاقتصادية الناجمة عنها.
النبراس للبتروكيميائيات
يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة المعقل بالبصرة والمختص بالشأن النفطي، نبيل المرسومي إن مشروع النبراس يعد أكبر مشروع للبتروكيميائيات في الشرق الأوسط بطاقة إنتاجية تقدر بنحو 1.8 مليون طن من مادة البولي إثيلين مع مصفى بطاقة 300 ألف برميل يوميا، إذ إن المشروع يعتمد مدخلات غاز الميثان المنتج من الغاز الطبيعي المصاحب كمادة أولية للصناعات البتروكيميائية.
وفي حديثه للجزيرة نت، يضيف المرسومي أن أهمية المشروع الإستراتيجية تأتي من كونه يشكّل قاعدة صناعية تدعم الصناعات البلاستيكية والمطاطية، وجميع الصناعات المرتبطة بها، في الوقت الذي تقدر فيه قيمة المشروع بنحو 11 مليار دولار، بجانب توفيره 40 ألف فرصة عمل، فضلا عن إيرادات مالية تقدر بنحو 1.4 مليار دولار سنويا.
وعن انسحاب شركة شل، يشير المرسومي إلى أن مفاوضات العراق مع الشركة بدأت عام 2015 وكان توزيع الحصص بواقع 49% للشركة مقابل 51% لوزارتي النفط والصناعة العراقيتين، مبينا أن قرار الانسحاب يتماشى مع تركيز الشركة على التغيير الحاصل في إستراتيجيتها في مشاريع البتروكيمائيات.
وقال المتحدث ذاته إن قرار شل يعد الثالث للشركة في العراق بعد انسحابها من حقلي مجنون وغرب القرنة.
انسحاب لوجستي أم أمني؟
ويرى المرسومي أن شركة شل واجهت مشكلتين، تتعلق الأولى بانسحابها من أعمالها في حقلي مجنون وغرب القرنة الأول النفطيين، بينما تتعلق الأخرى بإمكانية تطبيق نسبة العمولة في العقود النفطية العراقية، مشيرا إلى أن الكلفة المحددة في العقد تقدر بنحو 11 مليار دولار، غير أن العمولة الإضافية، وفقا لحسابات الشركة، تتراوح بين 3 و4 مليارات دولار أخرى.
وبين أن الوضع الأمني المضطرب في العراق قد أضاف سببا آخر لانسحاب شل من المشروع بعد التوترات التي اندلعت منذ شهرين بين الفصائل المسلحة والقوات الأميركية.
على الجانب الآخر، يؤكد المتحدث باسم وزارة النفط العراقية، عاصم جهاد، أن انسحاب شركة شل يعزى لتوجهها نحو مشاريع الغاز بدلا من مشاريع النفط والبتروكيميائيات، إذ باتت الشركة تتوجه نحو المشاريع الأكثر ربحية، وهو ما تعمل عليه شل في مختلف أنحاء العالم، مشيرا إلى أن مسؤولي الشركة أوضحوا ذلك لوزارة النفط والحكومة العراقية، وفق قوله.
وفي حديثه للجزيرة نت، بين جهاد أن انسحاب شل لم يشمل جميع المشاريع، حيث لا يزال للشركة استثمار مهم في مشروع شركة غاز البصرة.
وأوضح جهاد أن شل تمتلك حصة 44% من مشروع غاز البصرة إلى جانب شركة متسوبيشي اليابانية التي تمتلك 5%، إضافة لشركات أخرى، مبينا أن وجود شل في هذا المشروع مضى عليه 14 عاما، وقال إنها “تعمل في مجال استثمار الغاز المصاحب”.
وعن بقية الشركات الأخرى التي انسحبت من العمل في العراق، أوضح جهاد أن أسباب انسحاب شركة إكسون موبيل الأميركية قبل أشهر يعزى للأرباح القليلة التي تجنيها من العمل في البلاد.
وقال إن استثمارات موبيل في حقل غرب القرنة لم يعد في صالحها، حسبما أعلنت الشركة. وكان انسحاب الشركة بالتراضي مع الحكومة العراقية، وفق المتحدث باسم وزارة النفط العراقية.
من جانبه، يقول الخبير الأمني حسن العبيدي إن أسباب انسحاب شركة شل باتت واضحة من خلال تصريحات مسؤوليها، غير أن جميع الشركات الاستثمارية الدولية تعتمد في استثماراتها على العديد من العوامل، أهمها العامل الأمني الذي قد يؤدي إلى خسارة هذه الشركات مليارات الدولارات.
وفي حديثه للجزيرة نت، أضاف العبيدي أن ما حدث في العراق خلال الشهرين الماضيين من استهداف قواعد التحالف الدولي واستهداف الطائرات الأميركية لمواقع داخل البلاد وفي قلب العاصمة بغداد يؤثر بصورة كبيرة على النظرة الاستثمارية للبلاد في الأسواق الدولية، وفق تعبيره.
ما حجم الخسائر؟
يؤكد المتحدث باسم وزارة النفط العراقية أن بلاده لم تتكبد أي خسائر نتيجة انسحاب إكسون موبيل، وقال إن حصة الشركة تم تحويلها لشركاء آخرين من بينهم شركات من جنسيات مختلفة، في الوقت الذي أكد فيه أن العراق لم يبرم أي عقود ملزمة مع شركة شل.
وأضاف أن الحكومة لديها القدرة على جذب شركات دولية أخرى للعمل على تطوير مشروع النبراس، لا سيما مع سعي الحكومة الدؤوب لاستثمار الغاز المصاحب، حسب قوله.
ويذهب الخبير الاقتصادي صفوان قصي إلى ما ذهب إليه المتحدث باسم وزارة النفط، مضيفا أن بغداد بدأت تبحث عن بدائل لانسحاب شركة شل، وقال إن شركتي غاز البصرة المحلية وأرامكو السعودية يمكن أن تحلا محل شركة شل.
وأضاف قصي، في حديثه للجزيرة نت، أن الحكومة العراقية تتطلع للاستثمار في مشاريع البتروكيميائيات لما ستوفره من مبالغ طائلة للبلاد، فضلا عن الحد من التلوث البيئي، لا سيما أن الطلب العالمي على البتروكيميائيات آخذ في النمو في ظل العقوبات الاقتصادية على روسيا نتيجة الحرب في أوكرانيا.
وبالعودة إلى الخبير النفطي المرسومي، يقول إن الخسائر المادية للعراق لا تقدر بثمن، لا سيما أن مشروع النبراس كان يمكن أن يوفر عوائد مادية كبيرة تصل إلى 1.8 مليار دولار سنويا، إضافة إلى آلاف فرص العمل، فضلا عن الوقت الكبير الذي استغرقته المفاوضات بين شل والحكومة العراقية والتي بدأت منذ عام 2015، موضحا أن مدة التأسيس الفعلي للمشروع تتطلب 6 سنوات حتى يبدأ التشغيل الفعلي، وهو ما قد يعني إعادة المفاوضات مع شركات أخرى وبشروط وتفاصيل جديدة.
وأضاف أن الاستثمار في جميع أنحاء العالم يعتمد على التوقعات المستقبلية للبلد المستهدف، التي تأخذ في الاعتبار عوامل القوانين المعمول بها والاستقرار السياسي والأمني والبنى التحتية ومستوى البيروقراطية الإدارية، وبالتالي، فإن العراق وبعد أن شهد تدهورا أمنيا خلال الشهرين الماضيين، فإن البيئة الاستثمارية لا يمكن أن تعد آمنة لعمل الشركات الاستثمارية، باستثناء شركات استخراج النفط التي لديها معايير مختلفة، وفق قوله.
ويقول المرسومي إن البيئة العراقية تعد طاردة للاستثمار بفعل المخاطر العالية التي تؤثر على الجدوى الاقتصادية للمشاريع، مشيرا إلى أن غالبية الشركات الاستثمارية في العراق تعمل في المشاريع التي تكون فترة استرداد رأس المال فيها سريعة وليس على مدى سنوات طويلة، مستدلا بأن الحكومة العراقية كانت قد عرضت مشروع مصافي شركة الفاو الإستراتيجي، تصل إنتاجيته إلى 300 ألف برميل يوميا، للاستثمار بامتيازات كبيرة تصل إلى 50 سنة، غير أن المشروع لم يحل حتى الآن بعد انسحاب عدد من الشركات، بحسب قوله.
واحتل العراق مرتبة متدنية ضمن تصنيفات البنك الدولي في مؤشر ممارسة الأعمال، إذ جاء ترتيب البلاد في المرتبة 172 من بين 190 دولة، وهو ما يعزوه المرسومي لانتشار السلاح بين الفصائل المسلحة والعشائر، فضلا عن انتشار الفساد والبيروقراطية والضغوط التي تتعرض لها الشركات الاستثمارية، وفق تعبير المرسومي.