ما زالت نكبة فلسطين 1948 تستقطب اهتمام الرواية، ويمكن تمييز صنف من الروايات الفلسطينية والعربية تحت مسمّى (روايات النكبة) تتميز بتناول مادة واقعية وشبه تاريخية وتعريضها للتأمل والمراجعة، ذلك أن “النكبة” حصلت حقا ونتج عنها ما نتج من احتلال فلسطين وزرع كيان استيطاني استعماري في قلب العالم العربي يشكل تهديدا وتسميما لوجودنا حتى اليوم، ولذلك فمن المسلّم أن من يتناولها قد لا يقدّم جديدا من الناحية التاريخية.
ولكن الكتابة الأدبية ومن ضمنها كتابة الرواية ربما لا تطمح إلى تقديم معلومات أو تفاصيل تاريخية جديدة، وإنما تجد مسوّغات أخرى في مقدّمتها ضرورة “إحياء النكبة” والحرص على إبقائها ماثلة للأجيال بكل ما يصاحب ذلك من تأثير، وما يشرح أبعاد الصراع، فآثار النكبة مستمرة في أحوال الفلسطينيين وتفاصيل حياتهم حتى دحر الغاصب المحتلّ وتحرير الوطن من آثاره الاستعمارية وتحقيق حلم العودة لملايين الفلسطينيين الذين هُجّروا عنوة تحت ضغط آلة الحرب الغاشمة.
ونلتمس مسوّغا آخر للكتابة الروائية هو ما يدخل فيما يسمّى بــ”حرب السرديات” وصراعها، كما يتبدى في رواية (يس) للروائي الفلسطيني/الأردني أحمد أبو سليم، التي تستعيد بطريقة مؤثرة مذبحة دير ياسين إحدى أشهر المذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في حرب النكبة، وحرب السرديات في هذا السياق حرب أخرى تخاض لفرض الرواية الصحيحة، ولمواجهة روايات العدو المزيّفة.
الرواية والحدث التاريخي
تسهم الكتابة الروائية إذن في تثبيت الحدث التاريخي ليظل مستمرّا في وعي الأجيال اللاحقة، أو في وعي الجماعة، مع ما يصيب هذا الحدث من تغيير وتعديل وتوظيف، ذلك أنه يكتسب معناه ووظيفته من خلال تلك السرديات بصورتها التاريخية أو التخييلية، مما يدفعنا إلى التنبيه إلى أن التسجيل والتوثيق -على أهميتهما- هما أبسط أشكال هذا اللون من السرديات على مستوى المضمون والتشكيل، ذلك أن حرب السرديات تقتضي موضعة الحدث، وإعادة تفخيخه وترميزه و”أدلجته” ليمكن توظيفه والاستفادة منه، ويقوم الأحياء وأبناء الزمن الجديد بكل بهذا.
وأما الضحايا فقد انتهى أمرهم ولا يمكن إنصافهم بتغيير مجرى التاريخ أو تعديله، جل ما يمكن القيام به إنصافهم من خلال المكاسب التي سيحققها ورثتهم، فإذا نجح الورثة في شيء من هذا فهو أفضل انتصار للضحايا، وأما إذا استمر الورثة بتمثيل دور الضحية بحيث تغدو الهزيمة أو المجزرة حدثا متكررا نفسيا وواقعيا فإننا ما نزال أسرى الحدث ولم نتجاوزْه.
ويمكن لنظرة متعمّقة إلى الروايات العربية والروايات الإسرائيلية لحدث النكبة أن تفتح أفقنا على هذا الجانب الحيوي من الصراع، ويمكن لهذا أن يتم على مستوى مراجعة “السرد التاريخي” بأدوات علم التاريخ وفلسفته، مثلما يمكنه أن يتم بإنشاء السرد الأدبي والمتخيل السردي الذي يسمح بإعادة معالجة التاريخ وتأويله وتوجيه دلالاته دون الإخلال بوقائعه الثابتة الصلبة.
رواية “يس”
في هذه الدائرة الرؤيوية نضع رواية (يس) لأحمد أبو سليم المنشورة عن اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين عام 2021، ونحمَد لها وعيها بكثير مما أشرنا إليه، وحرصها على التأمّل والمراجعة والتساؤل الحاد عن معنى مجزرة دير ياسين ومعنى النكبة وكيفية علاج آثارها؟ علم النفس يقدم مقترحات لعلاج الصدمة ومنها صدمة الحروب وما تخلّفه من أثر على المحاربين وعلى الأطفال والناس العاديين.
وقد حظي بعض يتامى دير ياسين بشيء من هذا عندما تبنّت السيدة هدى الحسيني نحو 55 طفلا ممن فقدوا الأبوين وغدوا يتامى، ورعتهم من خلال تأسيس دار الفتى العربي في القدس، ولكن بطل الرواية (ياسين) لم يكن منهم، لصغر سنه فقد كان رضيعا ابن أسبوع عندما حصلت المجزرة وفق الرواية، وأبقت له المجزرة أمه، مع فقدان ساقها فاستبدلت بها ساقا خشبية شكّلت علامة تذكّر الشخصية (ياسين) بالحدث المؤسّس لأزمته، وأبقت له أيضا جدّه لأمه ذا الميول الصوفية، وأبقت له خالا شوّهته المجزرة. وأما بقية عائلته فقد فقدهم جميعا من جهة الأب، بمن فيهم شقيقه التوأم (أمين).
تقدم الرواية دير ياسين من منظور (ياسين) هذا، ابتداء من اختيار اسمه، لتربطه بالقرية المنكوبة، اسما ومسمى، وتربطه بأصل تسميتها، ونسبتها بحسب موروث القرية إلى شيخ يدعى الشيخ ياسين، إضافة إلى اسم خاله (ياسين) واسم جده أيضا. فالتسمية إذن تتقصّد إحداث نوع من التركيز على هذا الاسم لأنه مفتاح الحدث، واسم القرية، واسم المذبحة، وها هو يمتد في الرواية اسما لشخصيتين رئيسيتين: ياسين الراوي، وياسين الخال الذي قطع اليهود لسانه لكنه حافظ على وثائق وصور ستكون بديلا عن كلامه وروايته كشاهد مباشر على الأحداث المؤلمة.
أما من الناحية التاريخية فإن “اسم دير ياسين يتكون من شقين لكل منهما رواية تعكس أصل التسمية، فيعتقد أن كلمة دير جاءت نسبة إلى دير بناه راهب كان قد سكن القرية في القرن الـ12 للميلاد، لذا فقد دعيت قديما (دير النصر)، أما كلمة ياسين فهي نسبة إلى شيخ يدعى (الشيخ ياسين) كان قد قدم القرية، ولا يعرف متى ولا من هو أو من أين أتى ولكن هناك جامع في القرية مقابل الدير يقال له جامع الشيخ ياسين، ويجمع سكان القرية أن قريتهم قامت بين الدير والجامع وسميت دير ياسين إرضاء للطرفين”. (كناعنة وزيتاوي، دير ياسين-القرى الفلسطينية المدمرة، ص9).
اسم الرواية
ويبدو أن الرواية استكملت ملء الفراغات عندما جعلت الشيخ ياسين هذا جدا أعلى تنتسب إليه عائلة (ياسين) بطل الرواية، بينما في تاريخ القرية ليس هناك نسب للشيخ ياسين باستثناء نسبة المسجد إليه.
والملاحظة الأخرى ارتباط الاسم (ياسين) بالقرآن الكريم، فهو يعود إلى اسم السورة القرآنية، وإلى ابتدائها بحرفين من الحروف المقطّعة المشهورة، وتبعا لهذه الصلة وتفاعلا معها ومع ما تحمله جاء رسم الاسم على غلاف الرواية بالرسم القرآني (يس)، وليس كما يكتب بالإملاء الاعتيادي خارج القرآن. وفي نص الرواية ورد بهذا الإملاء الاعتيادي، مع لمحات من الربط بين اسم الشخصية واسم السورة القرآنية، تبعا للرابط اللغوي، وامتداداته الدلالية، والزعم بلجوء شخصية الأم لهذه السورة وتلاوة آياتها طلبا للحماية، كما يفعل المكروبون.
وتقدم الرواية مصير هذه العائلة وتتابع حياتها من أبريل/نيسان 1948 وحتى عام 1982، وتعود في لمحاتها الاستذكارية إلى ما قبل ذلك زمن الانتداب البريطاني والمقاومة الفلسطينية له وثورة 1936 وما حولها. وخصوصا في القدس وقراها كالقسطل ودير ياسين وعين كارم وصولا إلى مدن أخرى كيافا واللد وغيرهما.
إنها تطمح -كما يبدو- إلى أن تنهض بجانب توثيقي وتأثيري عبر تصوير التجربة المرّة المتمثّلة في المذبحة بتأن وتأثير وجداني طاغ، ولكنها لا تريد أن تكتفي بهذا وإنما تريد أن تضع دير ياسين في سياق التاريخ الصراعي في فلسطين حتى اليوم.
وبهذا الوعي نرى أن الرواية تجتهد في أن تنتقل من السرديات الصغرى التي تضم الأعمال الأدبية المفردة، إلى السرديات الكبرى التي تضم أرشيف الذاكرة الوطنية والخطوط الأساسية في حفظها وتوثيقها.
المحتوى التاريخي
تتناول الرواية مادة شبه تاريخية تتصل بحدث رئيسي معروف من أحداث النكبة يتمثل في مجزرة دير ياسين التي ارتكبت فجر يوم الجمعة التاسع من أبريل/نيسان 1948م، فهو الحدث الأكبر الذي تناولته الرواية وبدا مؤثرا في شخصياتها ومسارها السردي، إلى جانب المرور على أحداث تاريخية أخرى من زاوية تفاعل مجتمع الرواية وشخصياتها معها مثل: حركة الهجرة واللجوء ونشوء المخيمات كمجتمع جديد من مجتمعات ما بعد النكبة مع التركيز على مخيم الزرقاء بشكل أساسي، هزيمة يونيو/حزيران عام 1967، امتداد حركات المقاومة قبل وبعد معركة الكرامة المجيدة عام 1968م، أيلول الأسود ورحيل فصائل المقاومة من الأردن إلى لبنان، العمل السياسي السري في الأردن والقمع السياسي لأحزاب المعارضة اليسارية والمقاومة بشكل خاص، وأخيرا تنتهي الرواية بأصداء مذبحة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها قوى لبنانية متطرّفة (الكتائب) بدعم جيش الدفاع الإسرائيلي في أيلول/سبتمبر 1982.
ولقد حاولت الرواية أن تتميز بعدة أمور شغلت الكاتب، في مقدّمتها توثيق أحداث المجزرة، فقد اجتهدت الرواية في فصلها الأول إعادة تمثيل المذبحة وتقديم حبكة لأحداثها التي جمعتها خيوط الكتابة التاريخية بالتفصيل، حيث وثقت الكتابات التاريخية هذه المذبحة بالتفصيل وبشهادة الشهود الناجين، مع الإفادة من الأرشيف الإسرائيلي ونقد الرواية الإسرائيلية أيضا كما في كتاب الدكتور وليد الخالدي، ديرياسين، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1999، وأفادت الرواية من الأسلوب السردي الفعال في التعبير عن بشاعتها ولا إنسانيتها، للتأكيد على هوية الضحية وهوية المجرم، والقول إن الكيان قام على جريمة أو جرائم وليس على مشروعية من أي نوع، فهو ضرب من استبداد الجريمة وفائض القوة التي مورست بشكل بشع ضد مجتمع لم يكن مستعدا للحرب ولا للمقاومة في ظروف محلية وإقليمية غير مهيأة.
إنها جريمة وحرب إبادة، و”هولوكست” آخر كان الفلسطيني فيه ضحية الضحية، إذا سايرنا الهولوكست اليهودي وضممناه إلى السرديات التي حاول الآخر أن يفيد منها ليعوض عن إبادته. المفارقة هنا أن اليهودي-الإسرائيلي بدلا من أن يتعلم الدرس ويتعلم من الألم، تطهر منه بتحميله أناسا أبرياء بل هم مثله ضحايا العداء للسامية وضحايا الاستعمار الأوروبي في النصف الأول من القرن الـ20.
ولقد تراءت في الرواية مرحلة الانتداب البريطاني وهي مرحلة الاستعمار التي انتهت بجريمة احتلال فلسطين وتنفيذ “وعد بلفور” بتقديم فلسطين لقوة احتلال واستعمار طال أمده حتى اليوم، بهذا المعنى فإن هذه الرواية وغيرها من الروايات التي تتناول النكبة تندرج في إطار روايات الاستعمار وما بعد الاستعمار، لتقديم صوت “الضحية” والسماح لها بالكلام لتقدم سردها النوعي والخاص كي لا تثبت رواية المحتل والمستعمر الذي يقدم رواية تخدمه ولا تضم من الحقائق إلا أقلها، لأنه معني بتثبيت احتلاله وملكيته المزعومة وأخطر مما حصل للأرض حصل لإنسانها الذي ما تزال نكبته مستمرة حتى اليوم.
دير ياسين: نكبة مستمرة
قسم الكاتب أحمد أبو سليم روايته في فصول 5: المجزرة، المخيم، السجن، الخال، الصورة. والفصل الأول المخصص للمجزرة هو أطولها، مما يجعله مركز الرواية وأساس أحداثها الآتية، إلى جانب تكرار الرجوع إلى بعض تفاصيله عبر ما يسمح به السرد من تكرارات وتوسيعات، والفصل الأخير (الصورة) هو أقصرها ليقوم بوظيفة الخاتمة الرؤيوية المكثّفة أكثر مما يقدم أحداثا إضافية أو جديدة.
والفصول الـ3 الداخلية متقاربة الطول تضيء مرحلة ما بعد المجزرة وما بعد النكبة (ما بعد الاستعمار)، مما يتصل بنشأة المخيم ونشأة ياسين (الشخصية الرئيسية) فيه، ذلك أنه قضى في المخيم مرحلة طفولته وصباه وصولا إلى شبابه المبكر نحو سن الـ20.
وأما فصل السجن فيمثل المرحلة اللاحقة في حياته، تضم محاولات انتسابه أو اقترابه في شبابه من قوى المقاومة والقوى السياسية بعد حرب الكرامة عام 1968، أي محاولته أن يشارك في الردّ على الهزيمة والاحتلال من خلال الانتساب إلى حركات المقاومة المتاحة، وتتابع الرواية مسيرته حتى حوادث رحيل فصائل المقاومة بداية سبعينيات القرن الـ20، ثم امتلاء الفراغ في عقد السبعينيات بتعرّفه على صديقه (نهرو) طالب الطب الذي تتقطع دراسته بسبب دخوله السجن لانتمائه إلى الحزب الشيوعي، أدت هذه الصلة إلى دخول ياسين السجن مدة 4 سنوات ذهبية من عمره، وتقريبا يتابع الفصل مدة عقد من حياته من عام 1968 وحتى نهاية العقد الآتي عقد السبعينيات بما فيها مدة السجن تقريبا.
وأما فصل الخال فيعيدنا إلى دير ياسين مجددا، ذلك أن الخال أحد الضحايا الناجين، وكان له حضور آسر في المقاومة وله قصة حب مع فتاة أو صبية مقدسية تدعى (ياسمين) قبيل النكبة، قدّم لها مهرا غاليا بإقدامه على قتل ضابط إنجليزي أفقدها والدها، وجاءت المذبحة بعد نحو عام من زواجهما، وأدت فيما أدت إلى انقلاب حياتهما: فقد الخال ياسين زوجته وحبيبته بعد حادثة اغتصاب جماعي تعرّضت له أمام عينيه وهو مربوط إلى الشجرة، وينتهي به الحال بقايا إنسان مهدّم مشروخ على المستوى النفسي، ومقطوع اللسان وحطاما بالمعنى الحرفي بعد المذبحة.
تقدم هذه الشخصية والسردية الرافدة المرتبطة بها جانبا من أحداث المذبحة، وأهم من ذلك تأثيراتها اللاحقة المتمثلة في هذه الجروح الباقية التي لا شفاء منها، كما تقدم إرثا أو تركة ذات وظيفة سردية حيوية، ربما هي أهم ما في هذا الفصل المخصص لشخصية الخال، ولقد وصلت التركة إلى ياسين بعد رحيل الخال، لقد ترك له مجموعة من الصناديق المغلقة تحتوي وثائق ورسائل وصورا لم تلبث الرواية أن زعمت أنها أفادت منها فحوّلتها إلى سرد لفظي، إذ تضيء الصور والوثائق من جديد جوانب الصراع، وتسهم في تعميق هذه السردية الفلسطينية.
جزء من هذه الرسائل -بحسب الرواية- متبادل مع امرأة يهودية تدعى (حنا يوسين) وأختها وابنها، ذلك أن حنا يوسين صحفية يهودية بريطانية كانت شاهدة على المجزرة وعلى ما أصاب الخال نفسه من تنكيل، كصحفية ومصورة بصحبة صديقها وحبيبها ضابط الاستخبارات من الهاجناه. وبعد الحادثة تنفصل عنه وتصاب بلوثة أو شبه جنون تحت الضغط الذي تعرّضت له وتودع هي والخال في مستشفى الأمراض العقلية الذي أقيم على أطلال دير ياسين.
تعرفه أكثر في هذه المدة وتظل على صلة به يتراسلان ويتكاتبان ويتبادلان السلوى والتأمل للحدث أو الأحداث القاسية التي حصلت. المجزرة أثرت في كليهما وأصابت كليهما بإصابات فادحة، نفسية وجسدية، وعلى قاعدة تبادل التعاطف ومحاولة السلوى وتقارب الرأي إزاء ما حصل تتحول حنا يوسين إلى موقف مناصرة الضحية الفلسطينية دون لبس، وتنفصل عن انتمائها السابق أو اقترابها من الهاجناه والعصابات الإسرائيلية.
تسمح الرواية بإقامة هذه العلاقة وبالمراسلات بين الاثنين بوساطة أختها وتظل هذه الصلة ممتدة حتى رحيل حنا يوسين أو موتها، وتتواصل مع الأخت ومع ابنها الذي غدا شابا وانضم إلى الخدمة العسكرية في جيش الدفاع ولكنه يعاني من نسبه المجهول من ناحية الأب، يشك أو يخشى أن يكون ابنا للفلسطيني ياسين (الخال)، ولكن الخال ينفي ذلك نفيا قاطعا وأنه لم ينشئ علاقة جنسية مع والدته. فهو ابن من أبناء دير ياسين مجهول الأب، هويته مشروخة، وكأن أمه بإخفائها نسبه أرادت إبعاده عن هذه القوة الاستعمارية، وتشكيكه فيها، وفي أصالتها وهويتها.
أرشيف دير ياسين
يعتمد هذا الفصل على ما يستشفّه ياسين من وثائق خاله ومن رسائله، كأنها جزء من أرشيف (دير ياسين) الذي يمكن تدقيقه وإعادة قراءته واستخلاص العبرة منه، وأبعد من هذا عندما يضطر ياسين إلى تعلّم العبرية ليفك طلاسم هذا الأرشيف رغم ضعفه المتأصل في الجانب التعليمي، ورغم ما يعانيه من ورم دماغي يمنعه أن يكون سويا تماما.
في هذه المراسلات صورة لفئة قليلة من اليهود ممن اكتشفوا كذب الادعاءات الصهيونية وزيفها، وممن تحركت ضمائرهم فغدوا من أنصار الإنسان الفلسطيني، وقد أرسلت له المرأة اليهودية من بين ما أرسلت صورا وثائقية مهمة التقطتها يوم المجزرة، وتمكنت من تهريبها والاحتفاظ بها رغم مصادرة صورها ومنعها من نشرها.
هذه الصور ستؤول إلى ياسين وستوظفها الرواية في رؤية شيقة لبعض وثائق المجزرة ولعلاقة الصورة بالكلمة والسرد، سيتوقف ياسين عند صورة خاله مع عبد القادر الحسيني وبهجت أبو غربية، كما سيتوقف عند صورة (ياسمين) التي خصتها الرواية بقسم حيوي في الفصل الأول، أما صور المجزرة فسوف تعينه على تمثل الحدث والربط بين تفاصيل الصور والحكاية المتكررة التي تشبّع بها إذ طالما روتها أمّه، كما سيشارك في فعالية طلابية جامعية بهذه الصور في ذكرى المذبحة، ويلتقي هناك بنسرين التي تندفع إلى تمزيق الصور، مطالبة بتجاوز ذلك كله، وهو فعل رمزي لا يغير من الواقع شيئا، ولا يلغي حدوث المجزرة، ولكنه يحمل دلالة التجاوز والانتقال من الصورة إلى الفعل المقاوم الذي يمكن أن يقلب صفحة دير ياسين الدامية، ويجد موقفها هوى في نفسه فيقع في حبها أو يكاد، لكنه لا يلبث أن يسمع خبر استشهادها في الساحة اللبنانية. فلا شيء يكتمل ولا حب ينتصر في ظل حياة مدججة بالصراع والموت.
يتفرع أيضا عن الصور مسألة الذاكرة التي يسائلها ياسين ويسائل الصور المخزّنة فيها، ويختلط تفكيره فيها بأزمة الخروج من أسر المذبحة ومن مرضها وتأثيراتها، بل تصل به أزمته إلى التخلص من المفتاح القديم مفتاح بيت دير ياسين المعلق كصورة أيقونية على جدار بيت المخيم، يتخلص منه ضمن سعيه للتحرر من الماضي وثقل الذكريات والصور.
ولكن هل يسمح الواقع بهذا التحرر؟ وهل المشكلة في ثقل الذكريات أم في احتلال الوطن وابتعاده أكثر كلما تقدم الزمن؟ هذه الصور الفوتوغرافية والصور الأيقونية وصور الذاكرة الواقعية والمتخيلة في رأيي ليست عائقا وإنما ربما شكلت دافعا للبحث عن طريق.. قد نتفهم موقف الشخصية منها بسبب خصوصية تجربته وقسوتها، ولكنها مكونات مهمة ضمن أرشيف الذاكرة ومن الخطر على الفلسطيني وعلى الأدب الفلسطيني أن يتمرد على الذاكرة بمحوها أو تدميرها، ظنا منه أن طريق المستقبل يبدأ بهذا المحو وتمزيق الصور.
بالإمكان وضع هذه الصور في “الأرشيف السردي” ذلك أنها وثائق مهمة.. لا يمكن تمزيقها على وجه الحقيقة أو التخييل، وليس شفاء ياسين متعلّقا بتمزيقها، وإنما بتجاوزها إلى إبداع صور جديدة، تتضمن ردودا مناهضة ضمن مبدأ “الرد بالكتابة” و”الرد بالصورة” وهو فرع من طريق طويل للمقاومة الثقافية والمقاومة بمفهومها الأوسع.
متلازمة (دير ياسين)
عبرت الرواية عن جانب مما خلّفته المذبحة بمصطلح (متلازمة دير ياسين) حسب التسمية التي أطلقها نهرو طالب الطب ثم الطبيب الشيوعي، تسمية للحالة المرضية التي يعاني منها ياسين فتعرّضه لمجموعة من المتاعب الصحية والنفسية، بدأت هذه الأعراض مبكرا مع ياسين ولم يجْدِ العلاج نفعا فيها، وأحيانا اتسعت هذه التسمية لتشمل إلى جانب متاعب ياسين كل ما أصاب الشخصيات الأخرى كالخال وحنا يوسين وغيرهما، بل اتسعت لتغدو متلازمة عامة تخص الشعب الفلسطيني ومن يتابع مأساته، تغدو تعبيرا عن أثر المجازر والمعاناة في المستقبل، كيف نتجاوز الماضي؟ بنسيانه؟ أم ببناء واقع جديد لا تمكّن الظروف من بنائه؟
إن استمرار معاناة الشعب الفلسطيني وعدم وجود أفق لنهاية المأساة هو بعض ما يطيل أمد هذه المتلازمة. وخارج الرواية لا يوجد متلازمة متعارف عليها في الطب النفسي وغير النفسي بهذا الاسم، فهي إذن متلازمة “متخيلة” أو من اختراع الرواية وشخصياتها، ولكنها ليست بعيدة عن التصديق أو الاحتمال.
إن ما سمّته الرواية بـ “متلازمة دير ياسين” مما عاناه (ياسين) الراوي والشخصية الرئيسية، ليس إلا ترميزا لما ينشأ عن الصراعات الكبرى من آثار، لا تتوقف على الأثر المباشر للحدث، وإنما تمتد إلى أجيال لاحقة، وما المشهد الغرائبي أو اللامعقول في نهاية الرواية إلا تعبيرا رمزيا عن التمرد ضد آثار المجزرة القديمة وضد المجزرة الجديدة (صبرا وشاتيلا) التي تواردت أخبارها مع نهاية الرواية ومع وصوله إلى هذا الخيار، خيار مغادرة حياة اللجوء والعودة إلى الوطن، قد يبدو حدثا غير معقول لأنه تم في الرواية ولم يتم في الواقع، وأنه أصاب بعدواه جيرانه اللاجئين في المخيم، فغدا عملا جماعيا تتخلص فيه الذاكرة الجماعية من آلامها ومجازرها.
تنتهي الرواية نهاية متفائلة رغم أحداثها وتفاصيلها القاسية، ذلك أنها تختتم بخيار العودة “رحت أغذ السير عائدا إلى فلسطين”، وعلى ما فيه من مفارقة بين عالم الرواية وعالم الواقع فإن الرواية بوصفها سردية صراع من حقها أن تقول ذلك بوصفه الخيار الوحيد المتاح للرد على ما سبق من آلام النكبة ومجازرها وآثارها العنيفة.
تقع رواية (يس) إذن في قلب مسألة صراع السرديات، وقدّمت سردا مؤثرا لأحداث المذبحة البشعة المعروفة باسم (مذبحة دير ياسين) وتابعت مصائر الأجيال الفلسطينية وتطلعها إلى العودة وإلى تجاوز آثار الآلام والجرائم التي ارتكبت بحقها وحق الأجيال السابقة، ولكن التاريخ لا يتوقف عند حدث بعينه، بل إن كل ما مر في ذاكرتها وصورها المؤلمة ليس إلا محركا من محركات الصراع الذي لا ينبغي أن ينتهي إلا بالتحرير والعودة.