احتفل الممثل المخضرم ليام نيسون بعيد ميلاده الـ71 في يونيو/حزيران الماضي، ورغم ذلك فإنه لم يتوقف عن تقديم أفلام الحركة، ويأتي أحدثها باسم “القصاص” ليشير إلى ذكاء وطرافة في الوقت نفسه من القائمين على العمل، إذ قدم دوره جالسا داخل سيارة باستثناء مشهدين في بداية العمل وسقوط في المياه في مشهد النهاية، ورغم ذلك فإن الفيلم لم يفقد إثارته وقدرته على جذب المشاهد حتى اللحظة الأخيرة.
يدور العمل -الذي بدأ عرضه في 25 أغسطس/آب الماضي ويحمل الرقم 103 بين أعمال الممثل الأيرلندي المخضرم- حول مات تيرنر (ليام نيسون)، وهو رجل استثمار منهمك في عمله لدرجة عدم القدرة على صنع التوازن بين الاهتمام بأسرته وبين عمله، يقرر بعد مشادة مع زوجته هيذر (الممثلة إمبيث دافيدتز) توصيل ابنه المراهق زاك (جاك تشامبيون) وابنته الطفلة ليلي (إيميلي أسبيل) إلى المدرسة، لكن اتصالا هاتفيا يصله ليخبره أن هناك قنبلة أسفل مقعده، وأن عليه تنفيذ تعليمات المتحدث وإلا سيتم تفجير السيارة.
ويعتبر نمرود أنتال مخرج العمل الأميركي من أصل مجري واحدا من المخرجين القلائل الذين تراهن عليهم أستوديوهات وشركات هوليود للسنوات المقبلة رغم بلوغه الخمسين، وقدم أنتال عددا من الأفلام التي صادفت نجاحات، لكنه لم يقدم حتى الآن العمل الذي يضعه في الصف الأول لمخرجي هوليود.
واشتهر أنتال بكتابة وإخراج الفيلم المجري “سيطرة” الذي فاز بجائزة الشباب في مهرجان كان السينمائي عام 2004 والجائزة الكبرى في مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي، أما أول فيلم أميركي طويل لأنتال فكان “وظيفة شاغرة” في عام 2007 بطولة كيت بيكنسيل ولوك ويلسون، تبعه فيلم “مدرع” في عام 2009.
نسخة غير أصلية
يستطيع المشاهد أن يدرك من اللحظات الأولى لفيلم “القصاص” أنه نسخة أخرى من فيلم “سرعة” الذي قدمه كل من كيانو ريفز وساندرا بولوك عام 1994 وحقق نجاحا باهرا، ودارت أحداثه حول ضابط شرطة شاب يحاول إيقاف حافلة وُضعت فيها قنبلة معرضة للانفجار إذا قلت سرعتها عن ثمانين كيلومترا في الساعة.
ويكمن الفارق بين العملين في تلك العلاقة الأسرية، حيث يجلس في المقعد الخلفي طفلا الأب الذي يقود السيارة، وتقدم الابنة نموذج الطفلة الهشة التي تؤمن بأبيها تماما، فيما نجد الابن غاضبا لا يثق في والده ولا يتوقف عن الجدال.
يفاجأ الأب في ذروة الحدث بأن زوجته -التي يحاول التواصل معها- تجلس في مكتب محامي للتقدم بأوراق الطلاق، ليقدم صانع العمل رؤية أكثر عمقا من مجرد دراما في فيلم حركة، إذ يكشف أن قيادة الأب سيارة ملغومة ووقوعه تحت ضغط التهديد بتفجيرها وموته مع أولاده وتحت ضغط صراعات العمل -التي تدور حول أرقام بمئات الملايين الدولارات وسط نزيف خسارات لا ينتهي- هما صورة موازية لقيادته لأسرة تترنح وتوشك على التفكك في مجتمع شره للمال والنفوذ والقوة.
لا يتردد ليام نيسون في إعادة تقديم دور الأب الغاضب الذي يصادف يوما سيئا، ولا يبدو أنه يهتم بهذا الأمر، فقد قدم من قبل الدور نفسه في فيلم “بلا توقف” 2014 و”المسافر” 2018، ورغم ذلك فإن وجه نيسون الثري بتعبيرات الخوف والغضب والتصميم دفع بالإثارة إلى ذروتها وجعل المشاهد في انتظار النتائج المترتبة على سلوك البطل.
رسوم متحركة
يضطر الأب المهدد بالموت مع طفليه إلى الخضوع وتحويل ما يفوق 200 مليون دولار من حساب سري لتغطية خسائر الشركة التي يملكها مع صديقي عمره وزميله إلى حساب شخصي تمهيدا لتحويلها باسم الشخص الذي يقوم بتهديده، وحين يتاح لضابطة الشرطة أنجيلا بريكمان (نوما دومزويني) الحديث معه يتأكد المشاهد أنه أصبح متهما في أكثر من جريمة قتل وتفجير سيارات، في سيناريو دقيق من صنع المجرم الذي يكتشف المشاهد في النهاية أنه أقرب مما توقع أي طرف.
ورغم الخدعة المتقنة -التي تمثل مفاجأة العمل- فإن كاتبي السيناريو ألبرتو ماريني وكريستوفر سلمانبور لم يستطيعا تحويل أفكارهما إلى كائنات من لحم ودم، فالشخصيات في العمل (الأب ليس استثناء) تفتقر إلى الأبعاد، ويظهر بناء كل شخصية وقد تم إعداده للمشهد قبل التصوير مباشرة، فليس هناك تاريخ سابق يمكن البناء عليه ولا خيانة يمكن تبريرها أو توقعها بحدث سابق.
ويضع السيناريست دائما إشارة سوف تعد تبريرا لأي تحول مستقبلي، وسواء كانت هذه الإشارة في صورة سياق أو طبيعة شخصية فهي تصبح دليلا ومرشدا للأحداث في ما بعد، لكن الكاتبين تجاهلا أصلا من أصول كتابة السيناريو الدرامي، فبدا بناء الشخصيات مجردا من الأبعاد ومسطحا بشكل يجعله أقرب إلى الرسم ثنائي الأبعاد أو الرسوم المتحركة.
أب وزوج
يطرح الفيلم نموذجا لطبيعة العلاقات الأسرية، وباستثناء الابنة يواجه الأب معاملة غير حسنة من الأسرة، إذ لا يتوقف الابن المراهق عن اتهام أبيه بالكذب، أما الزوجة فهي تتألم بشدة من عدم قدرة الأب على الوجود مع أبنائه، فيما يكشف سلوك الأب عن مثالية مفرطة تدفعه إلى العمل بدأب لتحقيق أحلام الزوجة التي تطلب الطلاق وقت اشتعال الأزمة.
متى يغضب ذلك الأب؟ لعله السؤال الذي يشغل متابع العمل حتى قرب النهاية، إذ يقرر بعد نجاح الشرطة في إخراج ابنيه سالمين من السيارة المفخخة أن يواجه احتمال تحوله إلى أشلاء جراء الانفجار في مقابل أن يواجه ذلك اللص الذي نهب أمواله وحوّله إلى متهم بقتل ثلاثة أشخاص بتفجير سيارة.
يتحول الخوف على وجه ليام نيسون إلى غضب، ورغم ثراء التعبيرات وكثافتها على وجهه كأب حائر بين إنقاذ ابنيه وبين سحب أموال المستثمرين في شركته تمهيدا لإعطائها للص فإنه يواجه قدره في نفق يمنع إشارة التفجير من الوصول إلى القنبلة، وبذلك يتحدى غريمه للمواجهة إذا أراد أن يحصل على المال، ثم يتحداه رافضا قبول التهديد بتفجير السيارة، فيما يجلس خلفه صديق العمر بعد أن نزع القناع عن وجهه، ليكشف عن شخص تصور أنه قتل في تفجير منذ قليل.
لم يستطع كل من ليام نيسون ونمرود أنتال أن يحتويا خطايا السيناريو بالإيقاع السريع والأداء المتفق والكاميرا الرائعة التي قدمت فيلما كاملا تقريبا داخل سيارة، ذلك أن جزءا كبيرا من قبول الجمهور الكذبة السينمائية المتفق عليها بين المشاهد وصانع العمل أن تكون كذبة مقنعة، ولن يقتنع المشاهد بأن رجلا سبعينيا يمكن أن يحتمل كل هذه الدراما.