في انتظار الموعد الحاسم للانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، تعيش الولايات المتحدة حالة من الترقب والتخوف من الأجواء المصاحبة لهذه الانتخابات، التي وصفها مراقبون بأنها محفوفة بكثير من المخاطر، وأنها ليست كسابقاتها من الاستحقاقات الانتخابية.
في هذا التقرير نتناول عددا من التقارير والمواقف التي نقلتها الصحافة الفرنسية خلال الفترة الماضية عن تحليلها لأبرز المخاوف التي يمكن أن تنطوي عليها الانتخابات الأميركية.
بين بايدن وترامب
يعود المصدر الأول لهذا التخوف إلى احتمال تكرار سيناريو السباق الانتخابي في سنة 2020 بين الرئيس الحالي جو بايدن وسلفه دونالد ترامب، وهما مرشحان مثيران للجدل من حيث الشخصية والمواقف.
شيخوخة بايدن
فمن ناحية، فإن السن المتقدمة للرئيس بايدن تثير مخاوف في الداخل والخارج، فهو أكبر رئيس عرفته الولايات المتحدة على الإطلاق، وسيبلغ 81 عاما في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
ووفقًا لاستطلاع للرأي نشرته مجلة لوبوان الفرنسية سابقا، يعتبر 77% من الناخبين أن بايدن أكبر من أن يتمكن من إدارة البلاد حتى يناير/ كانون الثاني 2029 ويخشون مثل هذه النتيجة.
وعلقت افتتاحية المجلة بأن “الديمقراطية الأميركية تحولت إلى حكم الشيخوخة، وأن التقدم في العمر يجلب أحيانا الحكمة للقادة السياسيين، ولكنه أيضا مرادف للتردد والهشاشة”.
من ناحيتها، علقت صحيفة لوموند في افتتاحية بأن “الخطر الذي يهدد بإضعاف جو بايدن، المرشح لإعادة انتخابه في عام 2024، ليس سوى جو بايدن نفسه”، وبينت أنه وهو في عمر الـ80 يدرك أكبر رئيس في تاريخ الولايات المتحدة أن أدنى ضعف في الأداء العام سوف يصبح الآن موضوعا لتعليقات شاملة.
وعليه، فإن شيخوخة بايدن تثير أيضا مخاوف خارجية لدى حلفائه خاصة من الأوروبيين، حيث تعول أوروبا -أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة- على واشنطن ومظلتها الأمنية في مواجهة التهديد الروسي.
شخصية ترامب
من ناحية أخرى، فإن شخصية ترامب هي الأخرى مثيرة لمخاوف، خاصة أن مواقفه السياسية -باعتباره رئيسا سابقا للولايات المتحدة- ليست غريبة على الرأي العام الداخلي والخارجي.
وترى الأستاذة في معهد العلوم السياسية بباريس سيلفي لوران أن الإشكال ليس في شخص ترامب، وإنما في المنظومة الحاكمة برمّتها.
ففي مقابلة مع موقع ميديا بارت الفرنسي في الأول من فبراير/ شباط شددت المتخصصة في الشأن الأميركي على “أن السؤال الذي يجب أن نطرحه هو ماذا عن سيادة القانون في دولة مزقتها أصناف التفاوت الاجتماعي لفترة طويلة؟”.
وتضيف أنه “من هنا، لا يكمن الخطر في أن دونالد ترامب دكتاتور، وإنما في أن تختار الديمقراطية دونالد ترامب”، موضحة أن الترسانة القضائية الأميركية لم تفلح إلى حد الآن في لجم طموحات ترامب السياسية.
والنتيجة أن الباب مفتوح أمام كل التجاوزات في الخطاب وفي الممارسة، وهو ما تعكسه التصريحات النارية والأكثر تهجما لترامب على خصومه.
ومثال على ذلك، فقد صرح خلال حملته الانتخابية في ولاية نيو هامبشاير في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 بقوله “نحن ملتزمون بالقضاء على الشيوعيين الماركسيين والبلطجية اليساريين المتطرفين الذين يعيشون كالحشرات، حتى داخل حدودنا. إنهم يكذبون ويسرقون ويخدعون. وفي الانتخابات هم مستعدون لأي شيء. إنهم على استعداد للقيام بأي شيء، سواء بشكل قانوني أو غير قانوني، لتدمير أميركا والحلم الأميركي”.
وأضاف في خطابه أن “التهديد الحقيقي لا يكمن في اليمين المتطرف، التهديد الحقيقي هو اليسار الراديكالي، وهذا التهديد يتزايد كل يوم، إن التهديد من القوى الخارجية أقل فتكا وخطورة بكثير من التهديد من الداخل”.
نزعة العنف السياسي
وجد مثل هذا الخطاب الشعبوي أنصارا له في المجتمع الأميركي، خاصة ممن يدافعون عن حق امتلاك أسلحة للدفاع عن النفس وللتصدي للتهديدات الداخلية، وهو ما تقف وراءه شركات لوبي الأسلحة المتجذّر في الولايات المتحدة.
كما أن فكرة إعطاء دور سياسي لجنود وضباط سابقين مارسوا الحياة العسكرية تراود الكثير، من بينهم ماتياس ليبر، وهو جندي سابق في البوسنة ومرشح لمجلس شيوخ ولاية كارولاينا الجنوبية في يونيو/ حزيران المقبل، وهو الذي يرفع شعارا مفاده “لدينا ما يكفي من البرلمانيين والمحامين في ولاية كارولاينا الجنوبية، ونحتاج إلى عدد قليل من المظليين”.
كما لم يتورع أنصار ترامب عن استخدام العنف ضد خصومهم السياسيين أو ضد مؤسسات الدولة، وليست مشاهد اقتحام مبنى المجلس النواب الأميركي (كابيتول) في السادس من يناير/ كانون الثاني 2021 منا ببعيدة.
والتي أدت إلى تعطيل جلسة مشتركة للكونغرس لفرز الأصوات الانتخابية وإضفاء الطابع الرسمي على فوز جو بايدن الانتخابي، كما أنها في بعدها الآخر أسهمت في اهتزاز صورة الولايات المتحدة في الخارج، بعد أن كانت تقدَّم باعتبارها أنموذج الديمقراطية في العالم.
وهو مؤشر على أن شريحة من الرأي العام الأميركي لم تعد تعير اهتماما كبيرا للسياسة الخارجية، وإنما تركز أولوياتها على القضايا والاهتمامات الداخلية، وعلى رأسها تحسين الوضع المادي للفئات الاجتماعية وتحقيق الرفاه.
دعوات للسلمية
وفي مقابل نزعة العنف السياسي الداخلي، هناك نزعة تدعو إلى السلمية وتجنب دعم والمشاركة في الحروب في الخارج.
وأبرز مظاهرها، تلك المسيرات الضخمة التي لم تتوقف منذ أشهر داخل الولايات المتحدة وخارجها، احتجاجا على الدعم الهائل الذي تقدمه واشنطن لإسرائيل في حربها على غزة.
كما برز مشهد احتجاج بعض الحضور في اجتماع الرئيس بايدن يوم الثامن من يناير/ كانون الثاني بجمهور في كنيسة بكارولاينا الجنوبية، حيث طالب المحتجون بوقف إطلاق النار رافعين شعار “أيديكم ملطخة بهذا الدم” في الوقت الذي تحدث فيه بايدن عن العنصرية وترامب والمخاطر التي تهدد الديمقراطية الأميركية.
وتعليقا على هذا الحدث، قالت سيلفي لوران في الحوار نفسه مع ميديا بارت “إنه موقف مدمر.. وأذكّر فقط أنه خلافا للاعتقاد السائد، فإن هذه ليست مجموعة متطرفة صغيرة من الحزب الديمقراطي. ذلك أن التقدميين والليبراليين الذين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة يشكلون 60% من الأميركيين. ما يقرب من 80% من الديمقراطيين ونصف الجمهوريين. وبالتالي فإن بايدن يحكم ضد رأي الأغلبية في بلاده”.
وأضافت أن المسألة الثانية أنه خطاب لا معنى له غير مسموع، فهو يخاطب جمهورا في كارولاينا الجنوبية، وجزء من ناخبيها هم من الأميركيين من أصل أفريقي الذين يرتبطون تاريخيًا بتاريخ الحقوق المدنية، وبفكرة أن الحزب الديمقراطي هو حزب التحرر والعدالة. ويأتي ليلقي عليهم خطابًا محوره إذا لم تصوتوا لي فإن الظلم والعنف ينتظركم، في الوقت الذي تقتل فيه القنابل الأميركية الأطفال كل يوم في غزة.
الحرب الثقافية
مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الأميركي، برزت حالة استقطاب أيديولوجي بين تيارين بينهما خلافات عميقة، تيار “محافظ” يمثله الجمهوريون غالبا، والتيار “الليبرالي” الذي ينعت به الحزب الديمقراطي عادة.
ويسعى كل تيار إلى فرض رؤاه وتصوراته حول قضايا مجتمعية لها علاقة بمسألة القيم، والنتيجة حالة انقسام مجتمعية حادة.
وجاء في تقرير لوموند ديلوماتيك في يناير/ كانون الثاني الماضي بشأن الانتخابات الأميركية أنه “بحسب الجمهوريين، فإن هذه الحرب الثقافية ستكون في قلب الانتخابات الرئاسية المقبلة”.
ونقلت الصحيفة مشاعر القلق لدى شريحة من الناخبين مثل بوني كليفلاند، عالمة النفس التي طُردت من منصبها كمديرة للصحة المدرسية في مقاطعة تشارلستون، والتي تقول إنه إذا أراد الجمهوريون إنشاء حكم استبدادي، فإنهم سيعرفون بالفعل كيفية الوصول إلى ذلك.
ومع انطلاق الحملة الانتخابية الرئاسية، تتصاعد موجة التوتر بين دعاة المحافظة على الهوية القومية الدينية المسيحية في ظل نزعة انكماشية انعزالية، مقابل دعاة الإبقاء على الولايات المتحدة قوة عظمى لها نفوذها في العالم مع نزعة “ليبرالية” غير ملتزمة بالقيم الدينية.
ومما يعمق حالة التوتر، الشعور بالغبن لدى فئات اجتماعية أنهكتها الرأسمالية المتوغلة، خاصة لدى الأميركيين من أصول أفريقية الذين أصيب بعضهم بخيبة أمل من سياسة بايدن، كما جاء في تقرير صحيفة لوموند دبلوماتيك.