القاهرة- غيب الموت الأكاديمي والسياسي المصري البارز الدكتور حازم حسني عن عمر ناهز 73 عاما، وهو أستاذ الرياضيات البحتة والإحصاء في جامعة القاهرة والمتحدث باسم حملة الفريق سامي عنان الانتخابية خلال محاولة ترشحه في انتخابات الرئاسة المصرية 2018.
وقد أجري معه هذا اللقاء -الذي لم ينشر- في مكتبه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة قبل اعتقاله (سبتمبر/أيلول 2019)، ننشر بعضا منه.
وفيما يلي نص الحوار:
-
حدث في التطورات الاجتماعية التي وقعت في السنوات العشر الأخيرة ما يشبه الانقلاب في قيم المجتمع، ما تحليلك لتلك الظواهر؟ وهل هي ثابتة أم هي أمر عابر وينتهي؟
لا أقول بأن هناك شيئا ثابتا دائما، بل كل شيء متغير تبعا للتطورات الاجتماعية، فالأخلاق والقيم ليست شيئا مجردا تنتج من الفراغ، بل هي تتأثر بالتغيرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية.
وخلال السنوات العشر الماضية كانت لدينا موجة الإنترنت والانفتاح على العالم، والتغيرات الداخلية والخارجية التي ألقت علينا بظلالها، حيث يتفاعل الكل مع بعضه مهما كانت ثقافته.
وأخرجت الضغوط الاقتصادية والسياسية، خلال الفترة الماضية، أسوأ ما في المصريين، مثلما أخرجت أيام الثورة أجمل ما فيهم، وغيرت التحولات الاقتصادية الرهيبة التي تعرض لها المجتمع -كثيرا- من القيم، وأصبح القرش هو معيار السيادة في المجتمع، ثم أصبح الدولار هو السيد.
هذه التحولات الاقتصادية جعلت السيادة للغة السوق والمصالح التي أمست تتحكم في المجتمع، يضاف إلى ذلك رخاوة السلطة في حماية الحقوق، فأصبح هناك قوة موازية لسلطة الدولة تستطيع فئة ما -من خلالها -استرداد الحقوق المنهوبة، أو تسطو هي على حقوق الآخرين دون رادع من السلطة ولا مانع من القانون.
ونتج عن كل هذا نشوء لغة جديدة في التعامل بين الناس، كانت مستهجنة من قبل، لكنها فرضت وجودها بالقوة، أو من الممكن أن نقول بقوة “البلطجة” وأصبحت شرائح كبيرة من المجتمع تسكت عنها عندما تسمعها وإن كانت بالفعل ترفضها.
وكان لتدني مستوى التعليم أثره المخيف على قيم مجتمعنا، فضاعت مع هذا المستوى المتدني مُثُل وقيم كثيرة، مثل قيم القدوة، والمعرفة، والعيب، والاجتهاد، وحلت محلها قيم أخرى لم يعرفها المجتمع من قبل.
وكانت التأثيرات التي أعقبت ثورة يناير/كانون الثاني 2011 كبيرة وخطيرة، ومجموعة الأخطاء التي ارتُكبت منذ البداية على أنها ثورة شبابية، وأعتقد أن الطريقة التي أديرت بها المرحلة الانتقالية كانت سيئة للغاية وتمت الاستعانة بفكرة ضرب الناس بعضهم ببعض، والاستعانة بفئات مأجورة دخلت المشهد بثقافة متدنية للغاية للتعامل مع الشباب، وللأسف أدى هذا إلى نوع من الخلخلة القيمية في الشارع المصري.
-
ولكن هل هناك أمل لاستعادة الشباب عافيته وتسلم أمور القيادة من جديد؟
أعتقد أنه مع مرورالوقت ستعود لهؤلاء الشباب بعض الثقة من خلال تراكم الخبرات التي تمكنهم من تصحيح المسار، وسيستعيد المجتمع عافيته بالتدريج، ولكن للأسف، فإن المناخ العام لا يساعد على هذا ويسير بفكرة وضع العقبات حتى لا يتعافى المجتمع بشكل طبيعي.
وهناك من يحاول أن يفرض عليه أنماطا معينة من التفكير المرفوض من الغالبية العظمى من الشباب والناس لانعدام الثقة، وبالتالي هناك حالة من النفور العام لدى الجميع.
ويمثل الشباب الجزء الأكبر بما لديه من إيجابيات وإحباطات كبيرة أيضا. ولانعدام الثقة في المؤسسة الدينية والمؤسسات السياسية والموروث الحضاري والثقافي للدولة المصرية، كل هذا للأسف يعوق مسيرته، ويحاول الشباب أن يتوازن، ونأمل أن يجد بوصلته نحو المستقبل في أقرب وقت ممكن.
-
كيف ترى المستقبل بالنسبة لمصر في المرحلة المقبلة؟
تختلف رؤيتنا للمستقبل حسب نظرتنا إليه، وأنا متفائل جدا بالنسبة لمستقبل مصر لأن كل السلبيات التي نعيشها لا يمكن أن تستمر بحكم الطبيعة، ومهما طالت هذه السلبيات ستحدث حالة إصلاح ذاتي، وستضغط عناصر كثيرة على هذا المجتمع وتجبره على إصلاح ذاته، هناك تغيرات تكنولوجية هائلة تعمل على فرز ماهو ذاتي وتأتي بما هو إيجابي من المعرفة، وتطرد كل ما هو خبيث.
هناك أيضا ضغوط اقتصادية هائلة تجبر المجتمع على أن يواجه الحقيقة ويتعامل معها بشكل سليم، ليس فقط عن طريق إجراءات قاسية، ولكن عبر تغيير السياسات والتوجهات، وهناك ضغوط دولية ستُمارس على هذا المجتمع، فكلما ازداد ضعفا زادت هذه الضغوط التي ستجبره على مواجهة نفسه لكي يقوى.
والمسألة ليست مسألة “فتونة”، فإما أنك قوي فعلا وتستطيع أن تردع الآخرين، وإما أنك ضعيف بالفعل فتزداد الضغوط عليك، وأنا متفائل على المدى الطويل، لكن على المدى القصير ربما تواجهنا بعض المشاكل، وأستشهد بقول الشاعر: “ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرجت، وكنت أظنها لا تُفرج”.
-
مصر الآن في حاجة لحلم ولمشروع قومي، أين نحن من هذا المشروع؟ ومن الذي يدفع الدولة للنهوض؟ هل هو الحاكم؟ أم أن للمثقفين دور فيه تنازلوا عنه للسلطة؟
من يطرح المشروع الوطني -عادة- هي القيادة السياسية الواعية المُلهِمة وليست المُلهَمة، وكل فرد من الشعب يجد نفسه في هذا المشروع الوطني، غير مطلوب منه أن يعمل له، بل داخله.
لكن إن لم تكن هناك القيادة السياسية القادرة على أن تضع صياغة لهذا المشروع الوطني وتلهم المصريين لكي يجدوا أنفسهم بالفعل داخل هذا المشروع، سيبقى صعبا جدا أن نطلب من الآخرين أن يقوموا بهذه المهمة.
ونحن لدينا أزمة المثقف غير القادر على خلق هذه القيادة القادرة على صياغة المشروع الحضاري الذي يخدم الشعب كله، وليس المشروع الذي يخدم فئة ما من أجل انتظار الثمار التي تتساقط، بل مشروع يكون للغني والفقير دور فيه، لأن نظرية الثمار المتساقطة ثبت فشلها بالفعل.
وعلى كل مثقف أن يكون له مشروعه الثقافي، وعلى المثقفين أن يهبطوا من أبراجهم العاجية للعمل على صياغة المشروع الوطني المنشود.
-
بعض المحللين يؤكدون أن الترتيبات الدولية الجديدة في المنطقة هي محاولات لإعادة فك وتركيب المنطقة، هل هذا صحيح من وجهة نظرك؟ أم أننا مازلنا نعتقد بفكر التآمر؟
ليست فكرة المؤامرة، فهذه الدول تحاول تنفيذ مصالحها ولو على جثة الآخر، والأمر يتوقف على قوة وهشاشة الآخر، وفكرة أن العلاقات الدولية تقوم على الأخلاق هي فكرة طفولية للغاية.
ما حدث أن العالم -بعد مرور مئة عام على اتفاق سايكس بيكو– رأى أن هذه التركيبة الجيوسياسية لم تعد تناسب العصر، وأن النظر إلى أن سوريا والعراق وليبيا كيانات تكونت في ظرف سياسي معين بعد خروج المنتصرين من الحرب العالمية الثانية وأن هذه الكيانات الجيوسياسية، أصبحت لا تتسق مع النظام العالمي الذي أقاموه بعد هذه الحرب.
مصر لم تكن جزءا من اتفاق سايكس بيكو الذي كان معنيا بمنطقة الهلال الخصيب فقط، ولم يكن يهمنا في شيء، ولا أعتقد أن هناك دولة عاقلة في العالم تريد تقسيم مصر لأنها تكوين جيوسياسي عرّف نفسه بنفسه من آلاف السنين، بينما لم يكن لسوريا والعراق وجود قبل سايكس بيكو الذي أوجدهما.
وقد يقول البعض إن سايكس بيكو فتتت العالم العربي، هذا غير صحيح، ففي العالم العربي لم يكن هناك كيان سياسي اسمه العراق، بل كيانات سياسية اسمها الموصل وبغداد والبصرة، وكلها تابعة للسلطة العثمانية، وجاء المنتصرون في الحرب ووحدوا هذه الأقاليم الثلاثة في كيان سياسي جديد سموه العراق.
لا أقول إنهم ملائكة ولا أُناس أفاضل، هم كانوا يحققون مصالحهم، اليوم هم يريدون إعادة تكوين وتشكيل بعض المناطق التي تكونت بإرادتهم الاستعمارية، والسؤال الموجه لنا كعرب هو: ما الذي فعلناه للحفاظ على كياناتنا السياسية؟
وأقولها مع كل الأسف نحن دول فاشلة أو في طريقها للفشل، أو أظهرت علامات فشل جعلت الآخرين يتكالبون علينا ويغيرون في كياناتنا كما يريدون، نحن موجودون بإرادة المنتصرين في الحرب العالمية، وأنا أستثني مصر لأنها ككيان جيوسياسي أقدم بكثير من أي دولة في العالم.