جاكرتا- ترتبط العملية الانتخابية في البلدان الكبيرة بنشاط اقتصادي وتجاري محموم، يتركز في معظمه على الحملة الانتخابية والنشاط الدعائي، الذي يعد جوهر الانتخابات والأكثر تأثيرا بها.
وتعكس بيانات الانتخابات الإندونيسية من حيث أعداد الناخبين والمرشحين والمقاعد التي يجري التنافس عليها، وتزامنها لأول مرة مع الانتخابات الرئاسية، حجمَ الدعاية التي ترافق الحملة الانتخابية. ففي صباح الأربعاء القادم 14 فبراير/شباط الجاري سيتوجه ما يقرب من 520 مليون ناخب، للتصويت في 823 ألفا و220 مركز اقتراع.
وبلغ عدد الأحزاب المؤهلة لخوض الانتخابات التشريعية هذا العام 24 حزبا سياسيا، قدمت 9919 مرشحا، لشغل 580 مقعدا في البرلمان المركزي، واختيار 20 ألف نائب في برلمانات 38 إقليما، و514 محافظة.
ويشكل كل مرشح رئاسي تحالفا مع الأحزاب السياسية لتأمين دعمها له، مقابل مطالب يحققها لهم في حال فوزه، حيث يتطلب منه الحصول على 50% + 1 من الأصوات المدلى بها، وما لا يقل عن 20% من الأصوات، في أكثر من نصف المحافظات الـ38 للفوز بالرئاسة، وهو ما يرفع تكلفة نفقات مرشحي الرئاسة لتأمين هذا التحالف، فضلا عن الحملات الدعائية المكثفة والمكلفة.
انتخابات بتكلفة عالية
تسهم جغرافية إندونيسيا التي تتكون من 13 ألف جزيرة، منها قرابة 7 آلاف جزيرة مأهولة، يقطنها 270 مليون نسمة، في تعقيد إدارة الانتخابات في المناطق النائية والبعيدة عن المدن، من حيث إقامة مراكز الاقتراع وتأمين نقل صناديق الاقتراع ومراقبتها.
وخصصت وزارة المالية ميزانية قدرها 71.3 تريليون روبية (4.5 مليارات دولار) لانتخابات 2024، وهو ما يجعلها الأكبر في حقبة ما بعد الإصلاح، وما يقرب من 3 أضعاف ميزانية انتخابات 2019، التي بلغت 25.59 تريليون روبية (حوالي 1.5 مليار دولار).
وقالت لجنة الانتخابات العامة إن الأحزاب السياسية الـ18 المتنافسة في الانتخابات أنفقت حتى الآن حوالي 165 مليار روبية (حوالي 10 ملايين دولار) لتغطية نفقات مرشحيها.
وتجد منصات التواصل الاجتماعي في إندونيسيا فرصتها في مواسم الانتخابات للدعاية للمرشحين، بسبب انتشارها الواسع في المجتمع، وخصوصا منصات إنستغرام وفيسبوك وتيك توك، التي تمثل المرجع الرئيسي للتسويق السياسي.
وتظهر إحصائيات مؤسسة إندونيسيا الرقمية لعام 2023 أن من بين 212 مليون مستخدم للإنترنت -في مطلع العام- هناك 167 مليون مستخدم ناشط على منصات التواصل الاجتماعي، وبالتفصيل فإن منهم 184 مليون مستخدم لإنستغرام، و178 مليون مستخدم لفيسبوك، أما تيك توك فلديه 150 مليون مستخدم.
وتقدر قيمة الإعلانات السياسية في الفترة من أغسطس/آب 2020 إلى أكتوبر/تشرين الأول 2023، بحوالي 71 مليار روبية (حوالي 4.5 ملايين دولار) بإجمالي 272 ألفا و10 إعلانات تم بثها.
قطاعات تجارية تنتعش
تعتمد الانتخابات في إندونيسيا على تعزيز حضور رموز المرشحين والأحزاب وألوانها في الحملات الانتخابية، فلكل حزب علم وشعار ولون يميزه، ويظهر حجم انتشار الحزب ومرشحيه بمدى حضور رموزه في الشوارع والأماكن التي يسمح بنشر الأحزاب أعلامها وصورها فيها.
كما تُعرض في الأسواق أعداد كبيرة من الملابس والإكسسوارات التي تروج للمرشحين للرئاسة وشعارات الأحزاب وأعلامها، ويقول تجار في سوق “سنين” الذي يطبع مثل هذه المواد الدعائية: “نحن نتلقى ما يصل إلى 5 آلاف طلب على القمصان أسبوعيا”، حيث تعد الوسيلة الأكثر شعبية وفعالية التي يستخدمها المرشحون.
وقال أصحاب مصانع إن حجم العمل في بعضها زاد بمقدار الضعف، مع ارتفاع الدخل بنسبة 100%، ففي أحد المتاجر عملت 4 آلات طباعة ليلا ونهارا، وهي لديها القدرة على طباعة ما يصل إلى 3 آلاف متر مربع من المواد يوميا، لإنتاج أكثر من 200 ألف لافتة في هذه الانتخابات وحدها.
وتقدر دراسة أعدها المركز الاقتصادي لصحيفة كوباس واسعة الانتشار، أن حجم النشاط التجاري للمواد الدعائية الخاصة بالحملات الانتخابية بلغ في الانتخابات الجارية ما قيمته 100 تريليون روبية (حوالي 6 مليارات دولار).
ويقول المتحدث السابق في وزارة التجارة الإندونيسية الدكتور فطرة فيصل إن “بعض قطاعات الاقتصاد تنشط في أجواء الانتخابات، خصوصا قطاعات الطباعة والإعلان وصناعات النسيج، وذلك بفضل الميزانية الضخمة التي خصصتها الحكومة لإجراء الانتخابات بقيمة 4.5 مليارات دولار”.
ويستدرك في حديثه للجزيرة نت: “لكن هناك ميزانية إضافية ينفقها الرئيس جوكو تحت بند المساعدات الاجتماعية، خصوصا بعد أن ترشح نجله لمنصب نائب الرئيس مع المرشح برابوو سوبيانتو، وهو ما نطلق عليه في إندونيسيا اسم “سياسة صندوق الخنزير”، وهي تدخل ضمن صلاحيات الرئيس للإنفاق على المساعدات الاجتماعية بما يخدم مصلحته بشكل غير مباشر، مثل ترشح نجله في الانتخابات”.
في حين يرى مدير جامعة التنمية الاقتصادية والمالية وعضو وكالة الإشراف على البنوك الإندونيسية محمد فاضل حسن أن “تأثير الحملة الانتخابية على الاقتصاد الإندونيسي كان في السنوات السابقة في حدود 0.6%، إلا أن هذه المرة قد يكون أكثر قليلا؛ بسبب إجراء الانتخابات الرئاسة والبرلمانية المركزية والأقاليم في وقت واحد”.
ويعتقد فيصل أن “الفئة الأكثر استفادة من الحملات الانتخابية هي فئة الفقراء، التي تشكل الخزان الانتخابي الأكبر في البلاد، ويطاردها المرشحون طلبا لأصواتها، أما طبقة الأغنياء، وهم حوالي 20% من السكان، فإنهم يحجمون عن البيع والشراء بانتظار نتائج الانتخابات”.
وهو ما انعكس -حسب رأي المتحدث السابق في وزارة التجارة الإندونيسية- في ارتفاع النشاط الاقتصادي في الثلث الأخير من عام 2023 إلى 18%، بينما كان في النصف الأول من العام بحدود 5.5%.
تقارب الفرص وتباين البرامج
ويتوقع المراقبون أن التقارب النسبي بين فرص المرشحين الثلاثة سيحول -على الأغلب- دون حسم السباق الرئاسي من الجولة الأولى، ويدفع للذهاب لجولة ثانية في يونيو/حزيران القادم، كما يتخوف البعض من تأثير فترة ترقب من سيكون الرئيس القادم على اقتصاد البلاد.
ويعلق الدكتور فيصل: “نحتاج أن ننتظر سياسات الرئيس الفائز وليس البرامج الانتخابية، لأن المرشحين يسرحون بخيالهم أثناء الحملة الانتخابية، مثل مرشح يتعهد ببناء 40 مدينة مثل جاكرتا، والآخر يعد الشعب بتوفير الغذاء والحليب مجانا، من أين لهم الميزانية لهذه المشاريع؟”.
ويتفق حسن مع فيصل في أن عدد الجولات الانتخابية ليس مهما، رغم توقعه أن تكون هناك جولتان، “ولا تأثير لعددها على الاقتصاد، ما يهم أن تُجرى الانتخابات في أجواء آمنة ومستقرة للحفاظ على استقرار الاقتصاد”.
لكنه يرى في حديثه للجزيرة نت أن “البرامج الاقتصادية للمرشحين متباينة كثيرا، وسيكون انعكاسها على الاقتصاد في السنوات القادمة كبيرا، بالاعتماد على شخص الرئيس المنتخب”.
ويوضح قصده بالقول: “أحد المرشحين يعد بتوفير 19 مليون فرصة عمل في السنة الأولى، وهذا غير معقول، بينما يركز مرشح على التصنيع المعتمد على الأيدي العاملة، ويتطلع آخر إلى اقتصاد يعتمد على التقنية والآلات وهذا يقلل فرص الأيدي العاملة”.