أثارت تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلية، يسرائيل كاتس، حول نفاد الوقت للتوصل إلى حل دبلوماسي في جنوب لبنان، مخاوف كبيرة من احتمالية توسع الاشتباكات الحدودية بين حزب الله والجيش الإسرائيلي إلى مواجهة شاملة وحرب مدمرة بين الطرفين، الأمر الذي طرح تساؤلات حول خلفية هذه التصريحات في وقت تتكثف فيه الجهود الدبلوماسية الأوروبية والأميركية من أجل منع توسع الصراع في الشرق الأوسط.
حديث كاتس جاء خلال لقائه وزير الخارجية الفرنسية، ستيفان سيجورنيه، في تل أبيب، وفق ما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية، حيث قال كاتس لنظيره الفرنسي إن “إسرائيل ستتحرك عسكريا لإعادة المواطنين الذين تم إجلاؤهم من منازلهم إلى منطقتها الحدودية الشمالية في حال عدم التوصل لحل دبلوماسي لوضع حد للعنف، حسبما جاء في بيان لوزارة الخارجية الإسرائيلية.
من جهتها قالت هيئة البث الإسرائيلية أن اللقاء بين الوزيرين “ساده التوتر”، مشيرة إلى أن سيجورنيه نقل رسالة مباشرة من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأن بلاده سيكون لها “دور مركزي” في أي حل سياسي مستقبلي في لبنان.
وأضافت أنه بعد إبلاغ الجانب الإسرائيلي للوزير الفرنسي أن إسرائيل قد تضطر لعمل عسكري في حال فشل الجهود الدبلوماسية، رد على محاوريه قائلا إنه “إذا اندلعت حرب بين إسرائيل وحزب الله، فستضطر فرنسا إلى القيام بعمل عسكري في لبنان لإنقاذ حوالي 20 ألف مواطن فرنسي يعيشون هناك”.
جهود دولية مكثفة
وأتى هذا اللقاء في سياق جولة شرق أوسطية بدأها وزير الخارجية الفرنسي، السبت، تنته الثلاثاء، بعد زيارة سريعة إلى لبنان، وتتمحور حول الآفاق السياسية لمرحلة ما بعد الحرب في غزة.
وجاءت جولة الوزير الفرنسي بالتوازي مع جهود تبذلها كل من بريطانيا والولايات المتحدة في سبيل احتواء الصراع وتداعياته في منطقة الشرق الأوسط، حيث زار وزير الخارجية البريطاني، ديفيد كاميرون، بيروت والتقى مسؤولين لبنانيين في سبيل بحث سبل التهدئة ومنع توسع المواجهات.
كذلك يزور وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الشرق الأوسط للمرة الخامسة منذ السابع من أكتوبر، وذلك في إطار جهود لإرساء هدنة ثانية في غزة، يجري التفاوض عليها بوساطات دولية.
وتكثف الولايات المتحدة من جهودها الدبلوماسية في أكثر من اتجاه، حيث يتواجد مبعوث الرئيس الأميركي الخاص لشؤون أمن الطاقة العالمي، آموس هوكستين، في إسرائيل لبحث سبل انهاء التوتر بين لبنان وإسرائيل.
ونقل موقع أكسيوس الأميركي بأن الولايات المتحدة وأربعة من حلفائها الأوروبيين يأملون في أن يعلنوا في الأسابيع القليلة المقبلة عن سلسلة من الالتزامات التي تعهدت بها إسرائيل وحزب الله لنزع فتيل التوترات واستعادة الهدوء على الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وفقا لمسؤولين إسرائيليين ومصدر مطلع على هذه القضية.
وكانت القناة 12 الإسرائيلية قد ذكرت، الاثنين، أن هناك “بوادر إيجابية” تمهد لإمكانية إنهاء التوتر بين جماعة حزب الله اللبنانية وإسرائيل، وأن هوكستين حمل “إشارات بشأن حل دبلوماسي محتمل”، يشمل انسحاب حزب الله من الحدود.
وبحسب تقرير القناة فإن كبار المسؤولين الإسرائيليين يشعرون بالتفاؤل بشأن اتفاق محتمل للمرة الأولى منذ بدء الحرب قبل خمسة أشهر تقريبا.
ضغط في سبيل الحل؟
التباين ما بين تصريحات الخارجية الإسرائيلية، والأجواء الدبلوماسية المتأتية عن جولات المبعوثين الدوليين إلى الشرق الأوسط، لاسيما في الجهود المبذولة للتهدئة بين لبنان وإسرائيل، طرحت استفهامات حول المعطيات التي دفعت الوزير الإسرائيلي لإبلاغ نظيره الفرنسي بهذا التحذير، وما إذا كانت نابعة عن قرار بالتصعيد أم مجرد رفع لسقف التهديد في سبيل الضغط؟.
في هذا السياق يلفت الكاتب والمحلل السياسي اللبناني، منير الربيع، إلى أن موقف الخارجية الإسرائيلية “ليس جديدا”، مشيرا إلى أن “كثيرا من المسؤولين الإسرائيليين قالوا ذلك”، واضعا هذه التصريحات في إطار “الضغط على لبنان وعلى المجتمع الدولي.”
ويستبعد الربيع أن يكون هناك تصعيد إسرائيلي “لأن المفاوضات لا تزال جارية وتحقق تقدما.”
يتفق تحليل الربيع مع ما يراه، غسان جواد، الكاتب السياسي اللبناني، المطلع على أجواء حزب الله السياسية، والذي يرى أن واقع الجيش الإسرائيلي بعد أربعة أشهر من المعركة في غزة والواقع السياسي في الداخل الإسرائيلي، إضافة إلى كيفية تعاطي الإدارة الأميركية في الملف اللبناني، “يجعل من المستبعد أن يكون هناك عمل عسكري كبير، لاسيما وأن المسار السياسي لا يزال مفتوحا وقائما.”
ويتابع مرجحا في حديثه لموقع “الحرة” أن تكون التصريحات الإسرائيلية “جزءا من هذا التفاوض والضغط المرافق”، من دون أن يستبعد في حال فشل الجهود الدبلوماسية “وقوع مواجهة أوسع، لا أحد يعرف مداها وحجمها”.
أما من ناحية حزب الله، فهو ينظر إلى الاحتمالات50 بـ50، بحسب جواد، حيث “يفسح المجال للمسار السياسي، بموازاة استعداده العسكري لكل الاحتمالات حيث يحشد جنوباً وكأن الحرب ستقع.”
احتمال وارد
التقديرات الحذرة من الجانب اللبناني، يقابلها الحذر نفسه، من الجانب الإسرائيلي، حيث أعرب محللان إسرائيليان عن اعتقادهما بأن “الحرب المفتوحة مع لبنان تبقى احتمالا وارد الحدوث، في حال عدم سحب حزب الله لعناصره لما بعد نهر الليطاني”.
وقال المحلل السياسي، يوني بن مناحيم، إن “الكرة في ملعب الجانب اللبناني”، مضيفا في حديثه لموقع “الحرة” أن إسرائيل “لا تريد الحرب ولم تبدأها أصلا”.
وأوضح أن بلاده “ستقوم بعملية واسعة لإبعاد قوات حزب الله لما بعد (نهر) الليطاني، إلا إذا انتهت الأزمة بحل سياسي”.
وأضاف: “الوسيط الأميركي عاموس هوكستين كان في إسرائيل والتقى القيادات الإسرائيلية، وطرح مقترحا لحل المشكلة، والآن هو في لبنان ينتظر رد حزب الله”.
واعتبر المحلل أن جهود هوكستين في حال عدم نجاحها دبلوماسيا، فإن “الحل سيكون عسكريا، والحرب يمكن أن تدمر كل البنية التحتية في لبنان”.
كل ذلك سيكون رهناً بالتطورات في غزة، بحسب ما يؤكد الربيع في حديثه لموقع “الحرة”، حيث “تتوقف التصعيدات تلقائياً على حدود لبنان مع وقف إطلاق النار أو الاتفاق على هدنة في غزة.”
بعد ذلك يبدأ الحديث عن مراحل ثلاث، وفقاً للربيع، الأولى وقف العمليات العسكرية وترتيب الوضع على الحدود بما يسمح بعودة السكان من الجانبين.
الثانية البحث في مسألة سحب حزب الله لأسلحته الثقيلة من جنوب نهر الليطاني، وليس انسحاب الحزب نفسه، “نتحدث عن الصواريخ الدقيقة وبعيدة المدى والطائرات المسيرة ووقف الأنشطة العسكرية في الجنوب، ما يعيد الأمور إلى التوازنات التي كانت قائمة قبل اندلاع المواجهات.”
أما المرحلة الثالثة بحسب الربيع، فهي تلك المتعلقة بمفاوضات ترسيم الحدود، “والتي تحتاج إلى تسوية سياسية في لبنان تعيد تشكيل السلطة التي ستبرم الاتفاق الحدودي.”
الدبلوماسية “لم تنجح بعد”
على الأرض، لا تزال الاشتباكات الحدودية والقصف المتبادل بين الطرفين قائماً منذ السابع من أكتوبر، ترتفع وتيرته أو تنخفض وفقاً للمعطيات الميدانية وتوازن القوة وقواعد الاشتباك بين الطرفين.
وفي هذا الإطار، أشار المحلل السياسي الإسرائيلي، يوآب شتيرن، إلى أنه “حتى هذه اللحظة، فإن الدبلوماسية لم تفلح في التوصل إلى نتيجة إيجابية”.
وفي تصريحاته لموقع “الحرة”، قال شتيرن: “نفهم من التصريحات أن إسرائيل تستعد لسيناريو الحرب الشاملة واسعة النطاق”.
وتابع: “وزير الخارجية يلمح للحرب المفتوحة التي تعني الهجوم المكثف على حزب الله بقصف جوي ومدفعي، وربما تشمل العملية اجتياحا بريا للبنان.. المواجهة قد تكون كبيرة جدا وواسعة”.
واستطرد بقوله إن هذا السيناريو يهدد “بخسائر جسمية في الأرواح والممتلكات، بما في ذلك المدنيين، لأنه لا يمكن الفصل بين المنشآت المدنية والعسكرية بالنسبة لحزب الله، كما هو الحال في غزة”، مردفا أن “نتائج هذه الحرب ستكون موجعة للبنان”.
وتحدث شتيرن عن “ضغوط” تسببها قضية النازحين من منازلهم في إسرائيل على الحكومة، لا سيما وأنهم يرفضون العودة حتى انتهاء العنف.
وقال شتيرن إن “إخلاء منازل البلدات على الحدود الشمالية جاء نتيجة مخاوف من هجمات من لبنان على غرار هجمات حماس في السابع من أكتوبر، مما يشكل ضغطا على الحكومة، خاصة مع تشكل حزام أمني داخل الأراضي الإسرائيلية، وكأن المسألة تبدو أن حزب الله أجبر إسرائيل على هذا الإخلاء”.
وشدد شتيرن على أن الحكومة تبحث عن سبل لإلغاء تهديدات حزب الله والتوصل لمعادلة تمكّن المواطنين الإسرائيليين من العودة لبيوتهم، حتى لو كلف ذلك حربا جديدة “قد تكون عواقبها وخيمة”، على حد تعبيره.
في المقابل يشدد جواد على أن المسار السياسي “لا يزال يتمتع بعناصر نجاح قوية، خاصة وأن الجانب الأميركي جدي في رفضه لأي مواجهة واسعة بين لبنان وإسرائيل حالياً.”
ويضيف: “هوكستين كان في تل أبيب بالأمس، وهناك كلام أنه قادم إلى لبنان فهل هذا التفاوض سيصل إلى نتيجة بموازاة الحديث عن هدنة مقبلة في غزة ويجنب المنطقة توسيع المواجهة؟ حتى الآن حظوظه عالية وعناصره قوية، ولكن تعقيداته قوية أيضاً.”
هل يتراجع حزب الله؟
ويعتبر تراجع حزب الله إلى شمال مجرى نهر الليطاني، مطلباً إسرائيلياً رئيسياً في أي تهدئة مرتقبة، وشرطا أساسيا لعودة النازحين الإسرائيليين إلى البلدات الحدودية والمناطق الشمالية.
ويمتد نهر الليطاني جنوب لبنان بالتوازي مع الحدود الإسرائيلية اللبنانية، على بعد حوالي 30 كيلومتراً شمال الحدود. وكان انسحاب حزب الله إلى شمال مجرى النهر من بين شروط الهدنة التي توقفت بموجبها حرب يوليو 2006 بين حزب الله وإسرائيل، والتي رسخها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701.
إلا أن كلا من الربيع وجواد يستبعدان إمكانية تراجع حزب الله بكل قواته العسكرية إلى شمال الليطاني، مما قد يمثل عقدة في المفاوضات الجارية لإرساء حل دبلوماسي للتوتر الحدودي القائم.
وفي هذا السياق يسأل جواد: إذا تراجع حزب الله، هل يتراجع بالمقابل الجيش الإسرائيلي؟” ويتابع “هذا سؤال كبير، ولكن الوضع حالياً حساس جداً وعلى حافة الفشل والنجاح في وقت واحد”، لافتاً إلى أن التفاوض اليوم يتم مع الدولة اللبنانية حول ترتيبات ما بعد الحرب في غزة، وليس مع حزب الله مباشرةً.”
ويصر حزب الله على استمراره بهجماته الصاروخية عبر الحدود في سياق ما يصفه بـ “دعم غزة وصمود حماس”، كضغط على الجيش الإسرائيلي، ويطالب بوقف الحرب في غزة كشرط لإنهاء التوتر الحدودي مع إسرائيل.
التزام سبق أن تعهدت به ميليشيا كتائب حزب الله العراقية منذ بدء الحرب في غزة، إلا أنها تراجعت عنه معلنة تجميد العمليات العسكرية ضد القوات الأميركية، بعد الهجوم الذي أدى إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين وجرح العشرات على الحدود الأردنية السورية، واستدعى رداً أميركياً شديداً.
هذا التطور دفع إلى التساؤل حول إمكانية انتهاج حزب الله اللبناني للنهج نفسه، لناحية إمكانية التراجع عن عملياته العسكرية بغض النظر عن مصير الحرب في غزة.
خيار يستبعده كل من الربيع وجواد، وذلك نسبة إلى “اختلاف الظروف التي تحكم عمل التنظيمين”.
ويرى جواد أن ظروف حزب الله في لبنان مختلفة عن كتائب حزب الله في العراق التي تخضع لاعتبارات في تعليقها لعملياتها ترتبط بواقع الحكومة المحرجة في العراق وهي حكومة الإطار التي تمثل حلفاء إيران، “وبالتالي جاء قرارها لتخفيف الحرج عن الحكومة العراقية.”
أما حزب الله في لبنان فظروفه مختلفة وهو ليس مضطراً إلى ذلك، خاصة وأن هناك عاملا آخر يلعب دوراً بالنسبة لهجمات حزب الله، بحسب جواد، “وهو أن لبنان لديه أراض محتلة من جانب إسرائيل، كمزارع شبعا، وضمن الترتيبات المتوقعة في أي حل قادم، أن يتراجع الجانب الإسرائيلي من مناطق متنازع عليها، وهو ما يحصل مكتسبات للبنان في هذا السياق.”
إلا أن الربيع يلفت إلى وجوب الأخذ بعين الاعتبار أن حزب الله مؤخراً “حصر عملياته في مزارع شبعا، وما عاد يهاجم كل المواقع الإسرائيلية على الحدود اللبنانية، وذلك باعتبار أن مزارع شبعا أرض لبنانية محتلة، والتي يريد التفاوض عليها لاستعادتها. وهذا يدل على أن المفاوضات سارية.”
ويختم “رغم التهديدات والتحذيرات، لم ينته وقت الحل الدبلوماسي بعد، ولا اعتقد بوجود حل لهذه المسألة إلا الحل الدبلوماسي.”