“مقامرة على شرف الليدي ميتسي”.. مباراة في مطاردة الأمل

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 6 دقيقة للقراءة

ترى ما الذي يجمع ولدًا بدويًّا، وسيدةً إنجليزية، وضابطًا متقاعدًا مع سمسارٍ للخيول في مكانٍ واحد؟

تختصر إجابة هذا السؤال سطور رواية “مقامرة على شرف الليدي ميتسي” (2023)، وتعطي للقارئ لمحة عن شخصياتها الرئيسة التي رسمها الكاتب الشاب أحمد المرسي منذ البداية وعلى مدار الفصول برشاقة وبساطة غير موغلة في التفاصيل لكنها كاشفة عن ثقوب غائرة في النفوس، منطلقا من تلك العلاقات الإنسانية الخفية؛ البسيطة منها والمعقدة.

الموت.. بداية كل شيء

“إن هؤلاء الذين لم يصلوا لأمانيهم يعيشون طوال حياتهم وهم يجرُّونها وراءهم، كمن رُبِطَت فيه جثة”.

منطلقا من الموت، بدأ المرسي روايته، من جثة فوزان الطحاوي؛ الذي ودّع الحياة وحيدا ليبقى رحيله خفيا لساعات طويلة، من مشهد موت فوزان نتعرف على ابن عمه، الذي جاء مسرعا لا لحبه للفقيد بل بحثا عن ميراث ضاع وتاريخ طويل من الانتظار لتلك اللحظة التي يسترد فيها الإرث المنهوب.

يأخذنا معه في رحلة بحثه عن أوراق تثبت أملاكه إلى صورة تجمع فوزان طفلا يمتطي “شمعة” (الفرسة العربية الأصيلة) إلى جانب سيدة إنجليزية تدعى “ميتسي”، وسمسار الخيول مرعي، والضابط المصري سليم حقي المقال من الخدمة.

وهكذا تنقلنا الصورة إلى عشرينيات القرن الماضي بين أحداث وأفكار، لم تعد مألوفة لنا اليوم من سباقات للخيل في تلك الحلبة التي جمعتهم معا، وأفكار تتأرجح بين الثورة التي كان الزعيم الوطني سعد زغلول (1858م – 1927م) قد أججها في نفوس المصريين، والإحباط الذي نال الضابط سليم حقي بعضا منه حينما أخذته الفورة الوطنية ليرفض ضرب رجل مصري عندما كان على رأس عمله البوليسي ليفقد عمله لاحقا ويعيش بائسا في عالم الفقر والعوز.

بين ضفاف التعلق والأمل

“هل تستحق الأمنيات البعيدة كل تلك المخاطرة؟ هل تفعل الهشاشة كل ذلك؟ هل يمكن أن تخرب أمنية حياة إنسان؟”.

كثيرة هي الأسئلة التي طرحها الكاتب في عمله، فنجده يجعل أبطاله يتحدثون مع أنفسهم ومع الآخرين بصيغة استفهامية عن مفاهيم كبرى في النفس، محاولا ربط الماضي بالحاضر.

وإذا أردنا أن نجد خيطا يجمع كل شخصيات تلك الرواية غير مآسي أبطالها المرتبطة بالوحدة والخوف والتعلق بالماضي فهو الأمل، ذلك الخيط الرفيع الذي لو أجدنا التعلق به يمكن أن تستمر الحياة وبالتخلي عنه يموت الشخص حتى لو كان حيا يرزق.

يرمينا الكاتب بين ضفاف التعلق والأمل، من السيدة الإنجليزية التي تركت بلدها وسافرت بعيدا لتواصل مطاردة حلم الفوز بأحد سباقات الخيل، إلى الضابط المحبط الذي فقد كل شيء في لحظة ثورة، إلى مسافة غير مرئية يعيشها مرعي المصري بين حياة باذخة “للبكاوات والباشاوات” وواقع مرير بين حواري القاهرة وأزقتها ليبقى معلقا بين عالمين متناقضين وخيال حبيبة قادتها أفعاله إلى مصير مؤلم.

رواية تاريخية أم نفسية؟

رغم كون الأحداث في زمن ماض وتحمل بين طياتها قراءات تاريخية مهمة، فإن القارئ سيجد بعضا من مآسي عالمنا هناك مرسومة بدقة في الرواية، ربما اختار الكاتب أن يكون زمن أحداث الرواية في الماضي لكن المشاعر والحالة النفسية والإنسانية التي عاشها أبطاله تشبه ما يؤرق القراء المعاصرين، لذا فالرواية نفسية أكثر منها تاريخية وإن عرجت على أفكار عدة مثل الوجود الأجنبي في مصر والثورة، ولكنها بالأساس رواية إنسانية عميقة.

حافظ المرسي على وتيرة هادئة لسرده وانتقال ممتع بين فصوله من دون أن يغرق في فخ الملل الذي ربما يرافق الروايات التاريخية، ففي الوقت الذي اهتم فيه برسم الشخصيات على مراحل متباعدة جعلنا نغرق مع أبطاله، ونعيش لحظات الهزيمة ونتجرع طعمها بهدوء وروية تليق برواية تأملية؛ نراجع معها خيباتنا ونرى سليم أفندي عاجزا، وفوزان مقهورا وحيدا، ونشفق فيها على مرعي عندما يقع في الحب ونود لو نستطيع الطبطبة على كتف “الليدي” ميتسي عندما تفقد الأمل.

خداع الأمل

“إن المنحة الوحيدة التي يمكن أن يمنحها العقل لكل من فقدوا الأمل هي المقدرة على خداع أنفسهم بأمل جديد”.

كما اجتمع الخمسة في صورة، تعكس تنوعهم؛ جمعهم واقع وجودهم في محيط لا يشبههم، غرباء، يتجاذبون الأماني؛ ليستند كل منهم على الآخر، رغم وهنه في محاولة للهروب من واقع يؤرقهم، لكن لكل منهم طريقته فمرة يغرقون في براثن الماضي، ومرة يحسنون التشبث بطوق النجاة، لتطرح الرواية سؤالا مهما، هل الأمل وحده كاف للوصول أم يجب أن نقطع كل أوصال التعلق قبل أن تختار معركة التمني؟

جاءت اللغة في الرواية بسيطة رغم وجود كلمات ومصطلحات لم تعد دارجة في مصر حاليا بل كانت رائجة منذ قرن مضى، وهذه نقطة أخرى تضاف إلى قوة الرواية فرغم كونها صادرة في عام 2023، فإن الكاتب بدا كباحث نهم ليس عن مصطلحات اندثرت قبل عشرات السنين فقط، بل عن التركيبات اللغوية المنتشرة وقت حدوثها.

إضافة إلى نقل هوية ذلك الزمن من المقامرات التي كانت تميزه كسباقات الخيول وعراك الديوك، وعرج منها إلى تصميم المباني، ورائحة البيوت، لكن وحدها الأفكار التي رافقته من هناك إلى عالمنا.

عند الانتهاء من القراءة ستشعر برغبة قوية في اكتشاف قصر البارون والمشي في شوارع مصر الجديدة التي لم تعد كذلك ولكنها ما زالت تحتفظ بالاسم ذاته، وربما يقودك فضولك إلى اكتشاف جزيرة الطحاوية لتفتش بنفسك عن خيلهم الأصيل. وستبحث حتما عن مصارعة الديوك وسترى قصر الاتحادية بشكل مختلف عندما تتخيله مقرا لسباقات الخيول.

بعد أن تصل إلى الصفحة الأخيرة “تمت”، ستعود مجددا للصفحات الأولى باحثا عن بداية الفكرة، التي ربما غابت عنك في ظل تغلغل ذاتك مع شخوصها؛ لتكتشف أنك عرفت النهاية مبكرا لكنك لا تريد تصديقها بل تود لو كانت أكثر بهجة، وتتمنى لو تم إطلاع أبطال الرواية على مصائرهم ليغيروها ولو بقدر قليل.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *